يحتل الكاتب السويسري فريدريش دورنمات (1921 - 1990) مكانة مرموقة في الأدب الألماني المعاصر، بل وفي الأدب العالمي كله. وليس من قبيل المبالغة أن نقول إنه أكثر أهميةً وعمقًا وإمتاعًا مِن بعض مَن نالوا جائزة نوبل. دورنمات أديب "كلاسيكي" كوني، يتناول بشكل مشوق القضايا الكبري التي شغلت الإنسان علي مر العصور، حتي إذا كان ما يكتبه "ليس إلا" قصة بوليسية. في أعماله يبتعد دورنمات ابتعادًا تامًا عن السيرة الذاتية وعن التناول المباشر للأحداث التاريخية، وهو بذلك يختلف عن معظم أدباء جيله، سواء من موطنه سويسرا، مثل ماكس فريش، أو في ألمانيا، مثل جونتر جراس وهاينريش بُل وكريستا فولف. دورنمات شاعر الكوارث البشرية، الكاشف عن الأعماق الإنسانية المظلمة، والمتنبئ بالجنون العالمي المدمر. لا تمنح قصص دورنمات ومسرحياته الأمل الكاذب، بل تفتح عين القارئ علي اتساعها ليري العالم كما هو، أو ربما أبشع مما هو. في قصة "الخسوف" يعود الكاتب إلي مسرحية "زيارة السيدة العجوز"، وهي المسرحية التي ارتبط اسمه بها طويلاً. وربما ظلت فكرة هذه المسرحية تشغله حتي وفاته، فكتب لها عدة صياغات نثرية، نُشرت آخرها عام 1990 في المسرحية تعود امرأة ثرية إلي قريتها لتنتقم من خطيبها السابق الذي تخلي عنها، أما في "الخسوف" فيرجع "السيد العجوز" إلي قريته ومسقط رأسه لينتقم من الجميع. يتناول درونمات، مرة أخري، أحد موضوعاته الأثيرة متأملاً في ماهية العدالة، ومسلطًا الضوء علي غرائز إنسانية أزلية، مثل الرغبة في الانتقام والتشفي وكذلك النهم والطمع الذي لا يعرف شبعًا. وولد فريدريش دورنمات بالقرب من العاصمة السويسرية برن ابنًا لقس بروتستانتي. بعد محاولات لدراسة الفلسفة والعلوم الطبيعية والأدب واللاهوت في الجامعة، اتجه إلي الكتابة النقدية ثم الإبداعية، وهو من أشهر كتاب المسرح المعاصرين في البلاد الناطقة بالألمانية وفي العالم، ومن مسرحياته التي حققت نجاحًا عالميًا: "زيارة السيدة العجوز"، و"علماء الطبيعة"، و"الشهاب". وكان يوسف إدريس من أشد المعجبين بمسرح دورِنمات، وزار الكاتبَ السويسري في بيته منتصف الثمانينيات وأجري معه حوارًا مطولاً نشره لاحقًا في كتابه "عزف منفرد" (دار الشروق، القاهرة، 1987). كما كتب عدة روايات، منها: "القاضي وجلاده"، و"القضاء"، و"الوعد". توفي دورنمات عام 1990 قبل أسابيع من الاحتفال بعيد ميلاده السبعين.تُرجم عدد كبير من أعمال دورنمات الدرامية إلي العربية، وقُدّمت في غير بلد عربي. أما قصصه فكانت أقل حظًا. وقد ترجمتُ له من قبل مجموعة "أبو حنيفة وأنان بن داود" (دار الجمل) والرواية البوليسية "الوعد" ( دار أزمنة). وتصدر قريباً لدي دار الكتب خان مجموعة قصصية جديدة تضم ثلاث قصص تترجم لأول مرة إلي العربية، بعنوان "السقوط". في عزِّ الشتاء، وقبل بداية العام الجديد بأيام، كانت سيارة "كاديلاك" فارهة تشق طريقها بصعوبة في الشوارع المغطاة بالثلوج في قرية فلوتنجن، الواقعة علي أطراف وادي فلوتنباخ، ثم توقَّفت أمام ورشة سيارات. بجهد بالغ حاول فالت لوتشر - وهو عملاق يبلغ المترين تقريبًا، شَحَنَ نفسه مع سيارته بالطائرة من كندا إلي كلوتن - أن يخرج من السيارة. لوتشر ضخم البدن، مفتول العضلات، في الخامسة والستين، شعره رمادي مجعَّد، ولحيته المنفوشة شيباء تتخلَّلها خصلات سوداء. كان يرتدي معطفًا من الفرو وحذاءً برقبة من الفرو أيضًا. "سلاسل للسير علي الجليد"، أمر لوتشر صاحبَ الورشة، ثم سأله بلهجة أهل المنطقة عمّا إذا كان ابن فيلو جرابر. إنه أصغر أبنائه، أجاب صاحب الورشة مبهوتًا لأن المسافر يتحدث لغة منطقة برن، ليس هذا فحسب، بل أيضًا لهجة أهل فلوتنباخ، ثم أضاف أن جرابر توفي منذ ما يزيد علي 30 سنة. هل كان يعرف والده؟ "عرفته أيام كان تاجر دراجات"، أجاب لوتشر. تطلع إليه صاحب الورشة مستريبًا في أمره، ثم سأله في النهاية: "علي فين العزم؟". "إلي أعلي الوادي"، أجاب لوتشر. لن تستطيع السيارة الصعود إلي أعلي، حتي إذا استخدمت السلاسل، قال صاحب الورشة مزمجرًا، الصيادون واللصوص الذين يعيشون هناك يمانعون في شراء كاسحة جليد، حتي سيارة البريد لا تصعد إليهم. "رغم ذلك، ركّب السلاسل علي الإطارات"، قال لوتشر وهو يخبط قدميه فوق الجليد، بينما انصرف صاحب الورشة إلي تنفيذ ما طُلب منه. بعد أن دفع لوتشر الأجر، ركب السيارة وقادها صاعدًا إلي الوادي مارًا بأطفال يلهون بزحّافات الجليد، ثم انزلقت السيارة بسرعة، وترك لوتشر آخر بيوت الفلاحين خلفه. كلما انبسط الطريق أمامه، زاد السرعة، إلي أن اصطدم من الجانب بعمود تليفونات انكسر علي الفور، غير أن "الكاديلاك" عادت مرة أخري إلي الطريق الصاعد مخترقة غابة، إلا أنها انزلقت في أحد المنحنيات رغم السلاسل، فهبطت علي التل المنحدر، وانغرست وسط الثلوج المتراكمة أمتارًا عاجزة عن مواصلة السير. بذل لوتشر جهدًا كبيرًا للخروج من السيارة وسط الثلوج التي أعاقته عن فتح الباب. وقف بين الثلوج التي وصلت إلي كرشه، وشقَّ طريقه للوصول إلي الشارع، لكنه انزلق ثانية، فحاول أن يجد طريقه مرة أخري، إلي أن وقف في الشارع ينفض ثيابه، فتساقط الثلج من فرائه. واصل الخوض في الثلوج. في بعض الأحيان لا يمكن التعرف علي الشارع. أشجار التنوب البيضاء ذات الأغصان الثقيلة المائلة تكوّن معًا كتلة جليدية لا هيئة لها. غاص المسافر في الثلوج وكأنه في مجري جليدي. السماء فوقه ذات لون فضي مبهر. تعثَّر لوتشر في شيء، وقع، ونهض، ثم نزع ما تعثَّرت فيه قدماه، فأمسك بين قبضتيه بجثة، هزَّها، فحملق فيه رجل طاعن في السن ذو لحية نابتة شيباء وسط الوجه المغطي بالثلوج. ترك الجثة تهوي، ثم واصل شق طريقه، إلي أن وصل إلي منطقة تخلو من الأشجار، علي هامات أشجار التنوب البعيدة سطع ضوء دموي، الشمس تغرب خلف أحد الجبال السوداء، ولكن ما زالت السماء تبهر البصر، بين أشجار التنوب فقط يلاحظ المرء أن لونها أزرق داكن. قطعت غزالة الطريق، وحتي هي وجدت صعوبة وسط الثلوج، ثم ظهرت غزالة أخري، نظرت له بعيون ملؤها الخوف المميت، لوتشر قريب منها للغاية، لكنها سرعان ما عادت للغابة مرة أخري. اعترضت الغصون التي أثقلها الثلج طريقه، غير أن لوتشر أجبر نفسه علي المرور من تحتها، ثم وقف مثل عملاق من الجليد، نافضًا الكتل الثلجية التي انهمرت عليه. غطي الغبش كل شيء، الثلوج علي التنوب؛ السماء، كانت مبهرة زجاجية، والآن أظلمت بسرعة، انزلقت قدما لوتشر، فوجد نفسه يهبط أحد المنحدرات، ثم اصطدم بشجرة محدثًا فرقعة، فعاود الثلج هطوله فوق رأسه. احتاج إلي أكثر من نصف ساعة حتي وصل إلي الطريق من جديد. تمطَّي لوتشر شاعرًا بأنفاسه تتحول إلي بخار، الظلمة الآن دامسة، شق طريقه وسط الثلوج التي لم يعد يراها، وفجأة شعر بالتحرر. تباعدت أشجار التنوب، ولمعت في السماء نجوم، في كبد السماء تقريبًا كان النجم كابيلا يسطع، أما الجوزاء فهو شبه متوارٍ خلف حافة مدببة. لوتشر خبير بالنجوم. نهضت أمامه صخرة هائلة ذات ملامح غير واضحة، كأنها منزل، راح يتحسس طريقه بحذر حولها، إلي أن وصل إلي الطريق مرة أخري، ظهرت أضواء، عمود نور، ثلاث أو أربع نوافذ مُضاءة. فجأة، خلا الشارع من الثلوج، وقد تناثرت فوقه حبات الملح. دخل لوتشر فندق وحانة "الدب"، سار عبر الممر الضيق، وفتح الباب الذي حمل لافتة "مطعم"، ثم وقف علي العتبة متلفتًا حوله، علي المائدة بجوار صف النوافذ الصغيرة جلس فلاحو القرية الجبلية وشرطي بدين وصاحب "الدب"، وفي نهاية المائدة تحت صورة الجنرال جلس أربعة. دون أن يخلع معطفه الفرو جلس لوتشر إلي المائدة بجانب الساعة الكبيرة التي ترتكز علي الأرض، ثم قال إن ميتًا ملقي وسط الثلوج علي الطريق في غابة فلوتنباخ. "إنه العجوز إيبجر"، قال صاحب "الدب" مشعلاً لنفسه سيجارًا. طلب لوتشر لترًا من "البِتسي". أرسلت الفتاة التي تقوم علي خدمة الزبائن نظرة متسائلة إلي المائدة الطويلة. نهض صاحب "الدب"، وهو رجل بدين يميل إلي القصر، قميصه من دون ياقة، وصدريته مفتوحة. سار إلي لوتشر قائلاً: "لا نقدم هنا لترًا من (البِتسي)، عندنا (تسفاير) فقط". سدد لوتشر ناحيته نظرة متأملة. "سيبو شلاج إنهاوفن هو صاحب الفندق الجديد إذن؟ وبالتأكيد عمدة البلد أيضًا، هه؟"فأجاب صاحب "الدب": "أعتقد ذلك. هل تعرفني؟" "فكِر قليلاً!"، جاوبه لوتشر. "يا إلهي"، يتذكر صاحب "الدب" فجأة، "ألست فاوتي لوخر؟"، "كنتَ دائما بطيئًا في الفهم"، يقول لوتشر، "هل ستحضر الآن لترًا من (البِتسي) أم لا؟"، بإشارة من صاحب الفندق أحضرت الساقية ما طلبه، وصبَّت له كأسًا. أفرغ لوتشر لا يزال يرتدي معطفه الفرو المبلل والمغطي بالثلوج - كأس الشنابس في جوفه، ثم صبَّ لنفسه كأسًا ثانية. "اللعنة، من أين تأتي إذن؟"، سأله صاحب "الدب". "من كندا"، أجاب لوتشر صابًا لنفسه كأسًا، ثم كأسًا أخري. أشعل صاحب "الدب" سيجارًا قائلاً: "ستتعجب كلاري عندما تعرف ذلك"، "كلاري مَن؟" سأله لوتشر. "كلاري تسوربروجن"، أجابه صاحب الفندق. "التي أخذها منك دوفو ماني"، "آه"، قال لوتشر صابًا لنفسه مرة أخري، "كلاري تسوربروجن الآن زوجة دوفو ماني. لقد نسيت ذلك تمامًا"، "رغم أن كلاري كانت حاملاً منك آنذاك، فإنها أصبحت زوجة ماني". اعترت لوتشر الدهشة للحظة، ثم واصل الشرب. "وماذا ولدت؟" سأل بعد برهة. "صبيًا، الآن في الأربعين من عمره. إنه يجلس هناك تحت صورة الجنرال غيسان. لم يوجِّه لوتشر حتي نظرة إلي ذلك الاتجاه. "وماذا أصبحت في كندا؟"، سأله صاحب "الدب" وهو ينفص دخان سيجاره. "أصبحت فالت لوتشر". تعجَّب صاحب "الدب" وصاح بلهجة أهل المنطقة: "فولت لاتشر؟ اسم غريب". "هكذا ينطقون اسم لوخر هناك". "ولماذا عدت؟"، سأله صاحب "الدب" مستريبًا فجأة في أمره دون أن يعرف السبب. "حالتكم هنا كما كانت: زفت"، قال لوتشر مبتسمًا. ورغم أنه كان يحتسي "البِتسي" كالماء فإنه لم يعرق في معطفه الفرو. أجابه صاحب الفندق بأن هذا هو الحال في منطقة كهذه لا تعرف إلا الأمطار والثلوج. لقد فات الوادي اللحاق بقطار العصر الحديث، لقد نزل معظم السكان ليعيشوا في السهل، ولم يبقَ في الحقيقة إلا الأغبياء الذين لا يهمهم أن يظلوا في فقر مدقع. حالته أيضًا لم تتحسَّن كثيرًا، ناهيك بأنه ليس مما يشرِّف أن تكون عمدة لأكثر القري بؤسًا في المنطقة. إضافة إلي ذلك، فقد واجهه سوء الحظ. زوجته الأولي، إيمي أوكسنبلوت، ظلَّت سنوات وسنوات لا تنجب، إلي أن ساعدنا طبيب عبقري في أبينتسل، فولدت سيمو، ولكنها علي ما يبدو كانت تقدمت في العمر جدًا، ولذلك ماتت بعد الوضع مباشرة. بعدها بعام تزوج امرأة شابة من فلوتجن، ولدت له إيني، لقد تناولت قبل فترة قصيرة الأسرار المقدسة لأول مرة، غير أن أمها لم تتجاوز الثانية والثلاثين، وهو قد شاخ مقارنة بامرأة رائعة فاتنة مثلها، عليه أن يأخذ حذره ليل نهار. في تلك الأثناء كان لوتشر يحتسي الشنابس دون أن تبدو علي وجهه علامة تشير إلي اكتراثه أو عدم اكتراثه بثرثرة صاحب "الدب". "في كندا"، قال بلهجة حيادية. "أملك منطقة أكبر من مرتفعات بيرن كلها. يورانيوم، بترول، حديد". ثم سأل صاحب الفندق: "كم عائلة ما زالت تعيش هنا في الجبل؟"، "16 عائلة. البقية كلها هاجرت". فسأله لوتشر: "ومن أين يأتي المعلم والشرطي؟"، "المعلمة من العاصمة، والشرطي من كونيغن. إنه أيضًا يحرس الغابات"، "يجب ألا نحسب المعلمة والشرطي"، قال لوتشر، "إذن، 14 عائلة. إنني أهبكم 14 مليونًا"، "14 مليونًا؟"ردد صاحب الفندق مندهشًا، ثم ضحك قائلاً: "ولكنك لا تملك هذا المبلغ". فأجابه لوتشر: "إنني أملك أكثر بكثير". انتاب صاحب "الدب" شعور غير مريح، فسأله: "14 مليونًا؟ هكذا ببساطة؟". فأجاب الآخر: "لا. عليكم أن تقتلوا دوفو ماني"، "دوفو ماني؟"، لم يصدق صاحب الفندق أذنيه. كرر لوتشر: "دوفو ماني". فسأله صاحب الفندق: "قتل؟ ذلك الرجل؟"، ثم لم يعرف بمَ يجيب. "لا تنظر ببلاهة هكذا"، قال لوتشر. "لقد أقسمت فيما مضي أن آخذ بثأري. لقد تذكَّرت ذلك الآن فجأة، وأنا ألتزم بقسمي". حملق صاحب الفندق في لوتشر: "أنت تخرف". "لماذا؟" تساءل لوتشر. "لقد شربت أكثر من اللازم"، أجابه صاحب الفندق الذي شعر فجأة بالبرد. "أنا لا أشرب أبدًا أكثر من اللازم"، قال لوتشر صابًا لنفسه كأسًا أخري من "البِتسي". "كلاري ماني امرأة عجوز"، قال صاحب الفندق متأملاً. "القسم قسم". "أنت مجنون، يا فوت لاتشر"، قال صاحب الفندق، ثم أحضر لنفسه أيضًا كأسًا من "البِتسي"، وجلس. "أنت مخبول". "حتي الخبل أستطيع أن أسمح لنفسي به". "وممّن تريد أن تأخذ بثأرك؟"، تساءل صاحب الفندق الذي أشرق عليه ببطء الإدراك أن الآخر جاد فيما يقول. "من كلاري أم من دوفو؟". تمعَّن لوتشر في السؤال، ثم قال أخيرًا: "نسيت. لكنني لم أنسَ أن عليَّ الثأر لأنني أقسمت علي ذلك". "جنون! هذا ببساطة جنون!"، قال صاحب "الدب" هازًا رأسه. "ممكن"، جاوبه لوتشر. لزم صاحب "الدب" الصمت، واحتسي من كأسه. ثم اقترح عليه مترددًا: "30 مليونًا". "14"، أصر لوتشر وواصل الشرب. "لن تعرفوا علي أي حال ماذا تفعلون بها". "متي؟". "بعد عشرة أيام". "سأدعو غدًا إلي اجتماع عام للقرية"، قال صاحب الفندق مقترحًا. "من دون الشرطي". "افعل ذلك". "سيرفضون"، ادَّعي صاحب "الدب". فضحك لوتشر ثم قال: "سيقبلون. حتي دوفو ماني، إنني أعرف هذا الخنزير". ونهض قائلاً: "أحضر لي الزجاجة إلي الغرفة". "فريدا، أعدِّي الغرفة رقم 14"، قال صاحب "الدب" آمرًا. أسرعت الفتاة صاعدة الدرج، وتبعها لوتشر ببصره. فقال صاحب الفندق: "خادمة جيدة، أكبر بنات بينجو كوبلر". فرد لوتشر مرتقيًا الدرج: "أهم شيء أنها فارعة القوام". تبعه صاحب الفندق، وسأله: "أليس معك حقائب؟"، "في السيارة"، أجاب لوتشر، "المغروزة وسط الثلوج بالقرب من فلوتجن علي حافة الغابة، في الأسفل عند المنحدر. وبداخلها 14 مليونًا. رزم من فئة الألف". دخلا الغرفة، بينما فريدا منهمكة في إعداد الفراش. رمي لوتشر بالمعطف في أحد الأركان، وفتح أحد الشباكين، فهب الثلج داخل الغرفة، وقف في الغرفة مرتديًا بدلة رياضية زرقاء داكنة وبشريطين من اللون الأصفر، ثم خلع "البوت". في إطار الباب ظهر شاب طويل القامة، لكنه بدين قياسًا إلي سنه. قال صاحب الفندق مقدمًا إيّاه: "هذا ابني سيمو، 28 سنة". خلع لوتشر البدلة الرياضية الزرقاء، التي كان يلبس تحتها بدلة حمراء بشريطين من اللون الأبيض، وخلع البدلة الحمراء أيضًا، ثم سار عاريًا إلي الطاولة الصغيرة بجانب السرير وعليها زجاجة الشنابس. أدار غطاءها، وشرب، هبَّت الثلوج مرة أخري ودخلت الغرفة. لوتشر عملاق، من دون سمنة، بشرته داكنة من الشمس، غير أن الشعر الأشيب ينمو بكثافة في كل مكان من جسمه. في إطار الباب وقف صاحب "الدب"، بينما راح سيمو يحملق في الزائر، وبرأس منكَّس أخذت فريدا ترفع غطاء السرير المفروش بملاءات جديدة. "فريدا، اخلعي ملابسك"، أمرها لوتشر. "أنا لا أنام أبدًا من دون امرأة"، فاعترض سيمو قائلاً: "لكن...". "امشِ اطلع برَّه!"، صرخ في وجهه صاحب الفندق وأغلق الباب. "تعالَ!" أصدر ضجيجًا أثناء نزوله الدرج. "يا غبي!"، قال لابنه. "اربط الزحافات في الحصانين، وقل لمكسو أوكسنبلوت أن يأتي بحصانيه أيضًا. علينا أن نجرَّ سيارة فاوتي لوخر. أنت لا تعلم أي فرصة ستضيع منا لو لم نفعل! ستندم إلي الأبد لو لم تدعه ينم مع صديقتك فريدا". بالأحصنة الأربعة نجحا في جرّ السيارة، صحيح أن حصانًا من أحصنة أوكسنبلوت انزلق كالريح محدثًا ضجّة عظيمة في أحد شعاب فلوتنباخ، ولكن في الصباح كانت "الكاديلاك" تقف في فناء فندق "الدب". سماء زرقاء، شمس لاسعة. وفي المطبخ جلست زوجة صاحب "الدب" مع ابنتها إيني، كما جلست فريدا إلي المائدة، شاحبة من السهر وقلة النوم. صبَّ صاحب "الدب" لنفسه فنجانًا، وراحوا يشربون جميعًا القهوة بالحليب. علي واحدة أن تصعد إليه، قالت فريدا وهي تدهن شريحة خبز بالزبدة. إنها اليوم في إجازة، قال صاحب "الدب". يمكن لزوجته أن تقوم علي خدمته. ولكنه يريد واحدة جديدة، قالت فريدا بإصرار وهي تقضم شريحة الخبز. رشف صاحب "الدب" رشفة من القهوة بالحليب، ثم عقّب: علي فكرة، لوخر اسمه الآن لاتشر، فوت لاتشر. لاذت النساء بالصمت. ما الحكاية؟ سألت زوجته. لقد جاءت الفرصة، الفرصة الهائلة، صاح صاحب الفندق، ثم نهض صاعدًا الدرج في ضجة، وفتح الباب. الشباك مغلق، وفي الفراش كان لوتشر يتناول بيضًا مقليًا مع جامبون، ويشرب من فنجان كبير قهوة بالحليب، زجاجة الشنابس فارغة. لقد جرّوا السيارة إلي هنا، قال صاحب الفندق. وماذا فعلوا بالميت؟ تساءل لوتشر. لقد أحضروه أيضًا، إنه إيبجر العجوز، قال صاحب "الدب"، ولكن لماذا يهتم بأمر الميت إلي هذا الحد؟ المرء لا يعرف أبدًا ما يخبئ له المستقبل، أجاب لوتشر. هل ما زال مفتاح التشغيل في السيارة؟ مجموعة كاملة من المفاتيح، أجاب صاحب الفندق. مفتاح التشغيل يفتح أيضًا حقيبة السيارة، قال لوتشر، عليه أن يحضر الحقيبة إليه، كما أن صاحب الفندق يعرف ما عليه أن يحضره أيضًا. قفز صاحب "الدب" في الغرفة، ثم هبط الدرج كالعاصفة، مسرعًا إلي السيارة، وبعد لحظات عاد بحقيبة قديمة كبيرة، صعد الدرج كالعاصفة، ووضع الحقيبة أمام لوتشر علي المائدة تحت الشباك الصغير في مواجهة الفراش، فتحها، ثم حملق في رزم الأوراق النقدية من فئة الألف. كم في الحقيبة؟ تساءل لاهثًا. 14 مليونًا بالتمام والكمال، قال لوتشر. يعني كان يعلم أحوالهم في القرية، قال صاحب "الدب" وقد أشرق عليه نور الفهم. إنه يعرف دائمًا آخر الأخبار، رد لوتشر. فتح صاحب الفندق الباب، وصاح: "إيني، إيني"، ربما عشر مرات. ظهرت إيني في الطابق الأرضي أمام الباب بعيون متسعة: ماذا يريد؟ عليها أن تصعد. وفور صعودها دفع بها إلي غرفة لوتشر. "هناك، هناك"، صرخ مشيرًا إلي الأوراق من فئة الألف، هذه هي الفرصة، عليها أن تخلع ملابسها وتضطجع بجانب "لاتشر". احتجت إيني: لقد تناولت قبل فترة قصيرة الأسرار المقدسة لأول مرة. "يعني؟"، ومرَّ بيده علي فمها قائلاً إنها نامت مع شريجو هنترشراخن، كما أن أمها كانت تنام مع الرجال قبل تناولها الأسرار المقدسة. خلعت إيني ملابسها، ثم شرع صاحب "الدب" - معطيًا ظهره للفراش - في عد الأوراق النقدية من فئة الألف. خلفه تصاعدت صرخات إيني. أخذ صاحب "الدب" يعد ويعد، كل الرزم حوت أوراقًا من فئة الألف، سطعت الشمس عبر النافذة علي وجهه تمامًا، يعد ويعد، وخلفه تلهث إيني. في الجزء السفلي من زجاج النافذة - الذي كان كالمرآة بسبب سقف منزل الجار - رأي ظهْرَ إيني العاري يرقص صاعدًا هابطًا، واصل العد، حتي الآن أحصي خمسمائة ألف، يريد أن يعرف علي وجه الدقة، الآن يتكور خلفه الجسد العملاق، يدفع نفسه إلي الأمام، ثم إلي الخلف، وكأنه قاطرة بخارية من اللحم تضبط مكانها قبل الوقوف. إنه يعد ويعد، إيني تصرخ، هو يعد، أخيرًا وصل إلي المليون، ما زال أمامه 13 مليونًا، لا بد أن يري كل ورقة من فئة الألف. أمر لوتشر قائلاً إنه يريد فريدا الآن. قالت إيني لاهثة إنها لم تشبع بعد. فضحك لوتشر: إذن سأريك. يتأرجح السرير يمينًا ويسارًا، يقف الآن مائلاً في الغرفة، صاحب "الدب" يعد ويعد، اختفت الشمس من النافذة، الألواح الزجاجية تمسي شيئًا فشيئًا مرايا، مليونان. لا تستطيع أكثر من ذلك، صرخت إيني. أحضروا فريدا، يأمر صاحب "الدب"، وعلي إيني أن تأتي بإويسي أوكسنبلوت. كما أنه يريد الحصول علي عرق مرة أخري، قال لوتشر مشتكيًا، بينما راح صاحب "الدب" يعد ويعد، ثم بدأ الأمر من خلفه مرة أخري، في البداية ببطء، ثم بسرعة متزايدة، ليست فريدا فقط علي الفراش، إيني أيضًا. هل ستأتي أويسي أوكسنبلوت، سأل صاحب "الدب" وهو يعد ورقة من فئة الألف تلو الأخري. ستحضرها الأم، قالت إيني لاهثة، متقطعة الأنفاس، متأوهة، وعلي الأم أن تحضر أيضًا تسوزي هاكر، وأخذ يعد ويعد، ورعشة أصابعه تزداد شيئًا فشيئًا، وعندما كان يظن أنه أخطأ العد، يحصي الرزمة من أولها. مرت ساعات، وأظلمت السماء، فأضاء النور حتي يستطيع العد بشكل أفضل، منذ ساعات والهدوء يعم خلفه، لا لهاث، لا طقطقة، لا تأرجح يمينًا ويسارًا، ولا رقص صاعدًا هابطًا، وهو يعد ويعد. وفجأة يعاود ظهر عاري الرقص الصاعد الهابط علي اللوح الزجاجي، أويسي أوكسنبولت أو تسوزي هاكر، وهو يعد ويعد، هبط الليل في الخارج، ومن خلفه تتصاعد وتتزايد التأوهات واللهاث والحشرجات والصرخات. وفجأة انتفض صاحب "الدب"، "14 مليونًا بالتمام والكمال"، ثم صرخ، "بالتمام والكمال"، وخرج من الغرفة هابطًا الدرج.