لو أننا استسلمنا لإحباطاتنا وهي كثيرة لن ننتج شيئا، وسيتبخر الحلم يوما بعد آخر، فحين يفتتح المسرح القومي المصري مرة أخري وينير سماء القاهرة وليلها وفكرها بالتحدي، التحدي بالفن والفكر، يشير هذا إلي قدرة المصريين وانتصارهم علي الحرائق ومناخ التخلف والرجعية، التصدي للاثنين معا، الأكثر تحديا وانتصارا أن يفتتح بهذا العرض الفني عالي القيمة الفنية والفكرية لمخرجه الأستاذ: عصام السيد، بنص مسرحي يواجه لب مشكلات مجتمعنا منذ القديم وحتي لحظتنا الحاضرة، من خلال نص أعده المخرج في رؤية جديدة تختلف نسبيا عن النص الأصلي للكاتب الكبير نعمان عاشور " بشير التقدم باحلم يامصر" ولشخصية "رفاعة الطهطاوي" التي قادت النهضة المصرية الحديثة منذ قرنين من عمر الوطن بكل الوعي والمثابرة الدؤوب لنشر التعليم والحريات وترجمة العلوم عن الحضارة الأوربية، وهو أول من أشار إلي أهمية المسرح في ثقيف الشعوب وتهذيب سلوكها. وحين يكون التساؤل الأساسي الذي شغل مؤتمر "نحو استراتيجية عربية شاملة لمواجهة التطرف" منذ أسبوع واحد مضي، ماهي الأليات التي نواجه بها الإرهاب والتطرف؟ وكيف نتصدي لمأساة تخلف مجتمعاتنا والفتاوي التي تدمي حياتنا وتلصق بالإسلام العنف والقتل ورفض الآخر وانتهاك حقوقه وقتله ؟ وتتعدد الإجابات والاجتهادات الكثيرة بالمؤتمر، لكن يتبدي الفن فيها في صدارة الوسائل لمحاربة العنف للعديد من الأسباب، لذا أدعو وزير الثقافة المصري، ووزير التعليم العالي، ووزير الأوقاف وشيخ الأزهر باستمرار عرض " لسه باحلم يا مصر" ليشاهده أكبر عدد من الطلبة والشباب والجماهير، ودعاة الأزهر وخطبائه ، ورجال الدين، وأن يعرض علي معظم مسارح المحافظات المصرية، فالفن وفي القلب منه المسرح هو الأداة الناجحة المؤثرة بلا توجيه مباشر، أو خطابية ممجة في تشكيل العقول والوجدان، هو الرسالة الحية المجسدة التي تستطيع أن تنفذ بلا عائق بين الممثلين والجمهور. وضع المخرج متلقيه بلا غموض مع جوهر الصراع الحقيقي الذي تحياه مجتمعاتنا، وعيناه علي الشباب والمواطن العادي، ليدركوا أن المواجهة التي يجب أن نتصدي لها بين الدين والأسلاك الشائكة في الدين، بمعني أنها بين الكيان الديني السمح بمقاصده العميقة التي تبغي سعادة الإنسان وحريته وتقدمه وتطور عقله وإعماره للأرض، ومفاهيم الدين المتخلفة التي يساء فيها لحقوق الإنسان وحرياته وخاصة المرأة : حقها في التعليم، تعليم الإنسان المحفز للعقل الناقد لا التابع، حقها في الاختيار، اختيار أسلوب الحياة والزوج، تثقيف الإنسان بحقوقه في نقد السلطة الحاكمة، إعلاء قيمة العمل والعلم وإدراك نتائجه في تطور الأوطان، وعدم حرمان المرأة من الاختلاط أو العمل، وكونه عاصم لها من أي احتياج أو تبعية وامتهان، قبول التعددية الفكرية واحترام الآخر بكل توجهاته، مراقبة السلطة الحاكمة وتوجيهها. تتبدي المواجهة بالعمل في صورتها الفنية الأعمق فهي ليست بين ثقافتي الشرق والغرب وتعالي الأخير أو هيمنته، لكنها بين الدين بمفاهيمه التنويرية، وثقافة موروثة مجتمعية متكلسة خربة وقديمة استندت علي تفسيرات عقيمة لبعض المشايخ للآيات والأحاديث الدينية، ولذا يستهل المخرج عرضه بالآيات القرآنية التي تدعو إلي القراءة والعلم، وينهي العرض بوصايا رفاعة لعليّ ابنه بالحث علي القراءة والعلم أيضا، يقول في هذه الوصايا: " يا علي أوصيك بحب الوطن، حب الوطن عبادة وليكن محلا للسعادة المشتركة نبنيه بالحرية والفكر والمصنع. كما أتصور أن انطلاق العرض كله من هذه الأرضية الفكرية التي تتخذ من الدين وما يشوبه من اجتهادات أخذت صفة القداسة قسرا هي المنطقة التي تعمد المخرج أن ينطلق منها ليناقش سيطرة تلك المقولات الرجعية المجافية لجوهر الدين ويجلي فلسفته الحقيقية. كما أنه مزج في عدد من المشاهد بين تحالف سلطة الدين الأصولية والسلطة السياسية المستغلة لشعوبها، القامعة لحرياتهم في مسيرة التاريخ مع الخديوي عباس وسعيد من أولاد محمد علي. وقد كان لتوظيف أصوات فنانين المسرح الكبار وصورهم علي شاشات العرض: محمود ياسين، أشرف عبد الغفور، نبيل الحلفاوي، محمد وفيق أبعادا فنية أثرت من قيمة العمل، يحفز المخرج الموروث الفني التاريخي لمتلقي المسرح ويوظف أعلامه المضيئة ليستهدف دلالة مزدوجة أولها: إضفاء قيمة وثقل للرسالة الموجهة بالنص" أن مصر لن تبني إلا بالتعليم والعمل والحرية"، وثانيها: تاريخ المسرح وما قدمه للوعي المصري من خلال هذه الرموز المسرحية، فهو توظيف جيد لأثر الصوت و الصورة حتي اللحظي منهما. وهناك بعض الجوانب الفنية السينوغرافية التي أستوقفتني ووجدت أنها قد وظفت لدفع الحيوية بالنص المسرحي ذي الطبيعة التسجيلية والتوثيقية: منذ أول المشاهد يتخلي المخرج في معالجته للعرض المسرحي عن الإطار الأم لنص نعمان عاشور المكتوب عام 1974 ، فقد كان مناقشة لرسالة ماجستير تقدمت بها إحدي الباحثات بعنوان: المرأة في فكر رفاعة الطهطاوي بوصفه بشيرا للتقدم، يتخلي عن هذا الإطار نظرا لصعوبته، والمناقشات الفلسفية التي تضمنتها بعض الحوارات كعلاقة تحرير المرأة وعملها بالاقتصاد المصري ونظرياته ونهضته، يستبدل هذا الإطار براوٍ يحكي الأحداث غناءا بصوت "علي الحجار" القوي الحساس الذي لا يلبث يجسد شخصية رفاعة مباشرة وأتصور أن المخرج اختار هذا لتكثيف الأحداث وتركيزها علي حياة رفاعة وانجازاته المتعددة، ولتصل رسالته لأكبر قاعدة من المتلقين دون صعوبة أو تزيد في الأفكار. ونظرا لطبيعة النص الأصلي التسجيلية المباشرة مزج المخرج بين الحكي التاريخي المباشر وبين الدراما المغناة، في ضفر تتناوب فيه المشاهد الممثلة والأغاني التي تكمل الدراما وتجذب المشاهد فنيا ووجدانيا بكلمات وأشعار "حمدي عيد" التي ضمنها بعض مقولات وتعبيرات رفاعة رافع الطهطاوي في ما كتبه بمؤلفاته ؛ لتنقل أجواء هذه المرحلة وطقسها الفكري الاجتماعي وروح الطهطاوي المبثوثة في النص يقول:" أطلعي من رقدة الموت الطويلة/ يا مصر هلي بقي/ ارفضي ذل الخضوع/ انفضي كبت الشقي/ ...وارجعي مصر الفتية / واصرخي صرخة رفاعة / لا مصر بدون الحرية"، تضافر مع الكلمات ألحان "أحمد فرحات" التي يؤديها صوتين من أجمل الأصوات المصرية "علي الحجار" و"مروة ناجي"، كما برزت قدرة الحجار وحضوره المسرحي المميز الذي عززه نضجه الفني وتمكنه من اداء دوره باقتدار علي خشبة المسرح. التقنيات الفنية للمسرح: منذ أول العرض استخدم المخرج تتابع الحوار المتبادل بين الشخصيات التي تحكي أوضاع القرية المجحفة التي نشأ بها الطهطاوي في ظل سلطة مستغلة، ثم الوقوف صمتا وتجميدا لآخر حركة يؤديها الممثل، ثم تحريكه ثانية ليعاود الحكي وأتصور أنه يشير لطبيعة الناس الجامدة الرجعية بطهطا إحدي القري المصرية القديمة، ، تقنية مسرحية حركية حوارية تجلي السياق الاجتماعي الذي نشأ به رفاعة ، وهي آلية تشبه تحريك العرائس و وتجميدها و تسترعي انتباه المتلقي، بالإضافة إلي إشارتها لملمح فكري فني وهو أن هذه الشخوص كأنها تعيش الحلم بالتغيير مستعينة بأفكار رفاعة التنويرية لكنها تبقي في أماكنها، يواجهون الجديد بالرفض و يبقون علي حالهم الصنمي. هذا بالإضافة إلي تنويع مستويات الحركة علي المسرح علي محورين يدفعان بسرعة إيقاع العرض ولا يتسرب للمتلقي أدني ملل، الأول: الميزانسين الخاص بحركة الممثلين المتسق مع الحوار وتتابع الأحداث والإنجازات، وعلي المستوي الآخر حركة المسرح ذاته بتكوينه الدائري الذي استخدم دلالة علي حركة الزمن فيما يزيد عن سبعين عاما، بالإضافة إلي توفيره لأكثر من مكان وبيئة حضارية مختلفة ، وعمد المصمم إلي تقسيم المسرح علي نحو يبدو من خلاله اتساع المكان في ما يخص باريس، وضيقه بالمشاهد الخاصة بمصر، وعيا بتوظيف تقنية المكان دلاليا، كما أنه تخير أن يكون مكان وقوف محمد علي وأولاده في حيز مكاني مرتفع عن كل من يتعاملون معهم، وكانت تلك إشارة تعبر عن ما وعاه رفاعة وهو أنهم يبنون مجدهم وزعامتهم الشخصية في تعال علي المصريين، وعدم وجود رغبة حقيقية في تعلمهم، ولذا كانت ديكورات "محمود حجاج" تمثلا لاختلاف الواقع بديكوراته المتباينة، وعبرت عن درايته و اتقانه بسلاسة في تغيرها بما يتسق مع الخلفية الدرامية للمشاهد. لم يعالج المخرج فكرته بالمواجهة مع الدين برفضه، بل عمد ومنذ البداية أن يلعب في منطقة الدين ومن أرضيته فهو يحاجج الفهم القاصر والرجعي للنصوص الدينية والعادات والتقاليد المجتمعية المتكلسة بصحيح الدين، ولقد عبرت استعراضات "مناضل عنتر" وتصميم الحركات ذاتها وحركة أيدي الراقصين وأجسادهم عن دراما النص، كما وفق تصميم الملابس "لنعيمة العجيمي" في نقل خطوط ملابس هذا الزمن وتنوع نماذجه وطبقاته ، ولعبت المصممة في زي السيدة كريمة زوجة رفاعة بتغيير ألوانه في لحظات ومضية وتحوله من الرمادي إلي الأخضر والأبيض مرحليا اتساقا مع تغيرها بعد أن انفتح عالمها تأثرا به، أبرز كل هذه العناصر الفنية المسرحية إضاءة "ياسر شعلان" فمن خلال تنوع زوايا الضوء وحركته وألوانه أبرز عناصر الصراع بالعمل ووهبه ظلاله النفسية ومراحل تطوره ، نجاحاته وإخفاقاته في لوحات ضوئية نقلت قصة الكفاح إلي عين المتلقي ووجدانه نابضة، كما وفرت الإضاءة مناخا هاروموني ذابت فيه كل عناصر العرض وتكاملت حيوية متدفقة . استطاع المخرج توظيف الشاشات السينمائية سواء في خلفية المسرح أو أحيانا في مقدمته ببراعة تتسق مع طبيعة عمله المسرحي القائم علي التسجيل، كما أن الشاشة السينمائية تغني فجوات النص، وتكمل ما يصعب أداؤه علي المسرح، و تعبر في الوقت ذاته عن غني أدوات المخرج وقدراته في توظيف العناصر الفنية المتنوعة، فمنذ أول المشاهد هناك سلويت فني للتطور الزمني لرفاعة وانتقاله من الطفولة إلي الشباب المصاحب بآية اقرأ. عبر العرض المسرحي من خلال تقنياته الفنية عن التعددية الفكرية بالتكامل بين العلوم والفنون والعلوم الدينية، وقيمة الحرية والعلم والفن في فكر رفاعة كلمة وحوارا ومن خلال الأدوات الفنية المسرحية ذاتها، وحاول أن يغطي معظم إسهامات رفاعة ودوره وتأثيره في تلك الفترة. تبث شخصية رفاعة نموذجا لكل مصري مستنير ومصرية شجنها الممتد لأكثر من قرنين، وبعد عدد من الثورات المصرية المتوالية لتغني :" صدرك بدم الشغالين يا مصر ياما انسقي/ ..كل ما يهل الصباح مرة تانية يموتوه/ لحد إمتي نبض قلبك يخنقوه.."