علي المحيط الأطلسي، تطل مدينة أسفي من علي تلة منخفضة علي البحر، من هنا ربطت المدينة علاقات خاصة مع جنسيات وإثنيات وأعراق من مختلف بقاع العالم، وحين عبر ابن خلدون، من هنا، من مدينة أسفي قال عنها "حاضرة المحيط". لأنها مزيج من الإرث الأمازيغي والإسلامي العربي والإفريقي والمتوسطي والإيبيري بامتياز. هنا، لا تدين المدينة لأحد.. لم يضع أي رجل في التاريخ معلمة تخلده. وكأن المكان تعوّد علي بناء نفسه بنفسه، إذ لا ننسي أن المدينة عرفت حراكاً لافتاً لليسار في أواسط القرن الماضي، كما كانت المدينة تعبر من خلال قوة عمالية حاضرة في كل النقابات المناضلة حينها، عن انتصارها لقيم اليسار. لهذه الاعتبارات وأخري، قُرّر في منتصف ثمانينات القرن الماضي، سلخ المكان علي "حداثة" صاعدة حينها كانت تعطي للمكان تعدده الخاص، وهوية خاصة. فاستطاعت جهات محددة، "ترييف" كل وجوه المكان ومحاولة طمسه للأبد. وقديماً قيل، أن أميرة عادلة حكيمة، كانت تأتي من البحر الي المدينة، ترعي مصالحها وتحظي بحب أهلها، وذات مرة وبعناد من البحر ساق جسدها مُسجي علي أشجارٍ ملتفة ببعضها البعض. وجدت ورقا برديا مكتوبا عليه بصمغ محار البحر، قصيدة شعرية تحاول من خلالها الأميرة "أنسنة" أسفي المدينة حينها، أدرك الناس حينها لما لم تختر يوما أميرتهم "رجلاً" أو "عشيقاً" مادامت المدينة عشقها الخالد. من يومها ظل الناس يأتون قرب البحر، بجانب البحيرة السحرية، تغتسل النساء ليزددن جمالا وبهاء. لم تكن أسفي معبرا لأي شيء، إلا من خلال مرساها التاريخية القديمة، والضاربة في عمق التاريخ. أرفع أنواع الخشب الهولندي، كان يأتي للمدينة عبر سفن تجارية تعبر المحيط، والمدهش أن أكثر أنواع المغامرات البحرية جنوناً، كانت من هنا، من رحلة رع 1 الي رحلة رع 2، إلي محاولات مجنونة للعبور من قارة الي أخري. العالم الجديد، اكتشفته أسفي مبكراً، لكنها ظلت تحافظ علي خصوصيتها كمدينة تحرس البحر، عوض أن يحرسها هذا الأخير والذي ظل رحيماً بها، حتي عندما فاض ب "غضبه" علي المدينة قديماً، جعلها في رحمه وحرسها من الغزاة الذين جاءوا يومها لاغتصاب أراضيها، ثم عادت.. عادت أسفي مكللة بالبهاء،.. فهذا تِقني من النرويج، يشتغل في المجال السمعي البصري وخصوصا في المجال السينمائي، يؤكد أن أرفع "ضوء" طبيعي رآه في حياته، يوجد هنا في أسفي قرب أسوار المدينة القديمة. ففي المدينة سور يحيط بها، يحرس المدينة القديمة بأبوابها السبعة، وعلي مقربة من بابها "المرسي"، والتي شكلت دوماً النافذة الحقيقية للمدينة علي العالم. أسفي تتجه بحراً، لا تفكر كثيراً في الشرق ولا يستهويها، تفاعلت مع الشمال بقدر حبها الخاص للجنوب، أرفع "كناوي" {موسيقي روحية} تجده في أسفي. أما الشمال، فحين قرر كثيرون العيش هنا في مطلع القرن الماضي، كنت تجد البرتغالي، يقطن قرب اليهودي قرب الفرنسي قرب الفقيه وقرب "بنت مام" {مغنية شعبية} تخرج هذه الأخيرة، تُقّبل يد الفقيه لتمضي اتجاه فضاء خصص لها كي تقدم خلاله "وصلاتها في فن العيطة". أذكر "عقيسة" تلك "اليهودية" الشمطاء في حي "تراب الصيني"، في هذا الحي رأيت النور لأول مرة، في نفس الحي الذي أنجب السينمائي نور الدين لخماري والباحث بوحميد، والروائي صاحب تغريبة العبدي "عبدالرحيم لحبيبي".. روائيون وشعراء ومسرحيون وفنانون في مجالات التعبير المتعددة، لكن "عقيسة" حين توفيت صباح أحد أيام فصل الشتاء، احترق منزلها علي آخره. هنا في هذا الحي، كنا نفترش الأرض لمشاهدة "روائع الأفلام السينمائية" بالأبيض والأسود، جلّها عن الحرب. حتي أني سألت "التقني" الرائع حينها والذي كان خدوماً وهو يؤدي تلك الوظيفة بتطوع، "هل السينما تصلح للحرب فقط؟"، استغرب فرد عليّ "ولما تصلح إذن؟" قلت "الحب، مثلا.. البحر؟" ابتسم، وبعدها أمتعنا بأمهات الأفلام الرائعة والتي جعلت من الصفاء الإنساني وقيم الحب لغتها السينمائية. حين كنا نغادر "دار الشباب علال بن عبدالله" في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، كنا نخرج فرحين، نشعر بالسعادة.. لقد تعلمنا "دروس الحب".. في الجهة المقابلة لدار الشباب، كان "الجلباب" المرفوع علي مقصلة، كعادته ولمزيد من التفصيل والتحديد، كنت أرقبه من بعيد وأحياناً أرفع يدي كي أبادله التحية. لا يتحرك البتة، ولا يبدي أي رد فعل. مرة قررت الاقتراب منه، كان كما هو.. وكما أراه من بعيد، "جلباب" أنهي الخياط أشغاله ووُضِع علي لوح خاص معد بعناية، كي يأخذ الجلباب الاكتمال. لكني، تساءلت، لما كنت أدرك أن روحا تسكن الجلباب؟. ضحك والدي يوماً، وأنا أخبره بالحكاية، ورد عليّ وكأنه يحاول أن يصدق حكايتي.. "بقرب الجلباب، محج الشيخ محمد بن صالح ومريدوه يخرجون ليلاً، وكلما عبروا مكانا ًما أو حياً إلا وبقيت أثار الذكر.. لذلك ظل ذاك الشارع الممتد من دار الشباب إلي زاوية الشيخ محروسا، وترعاه أرواح المريدين.." استغربته في الوهلة الأولي، فقلت علي هذا الأساس المريد الذي يترك روحه بالجلباب.. يحب السينما.. ياه! إنه مثلنا، يصدق دروس الحب..". لذلك، كنت حريصا وأنا أعبر رفقة رفاقي شوارع المدينة، مرة تضامناً مع فلسطين، ومرة تنديداً بسياسة الدولة في تفقير "الجماهير الشعبية"، ما إن أصل الي ذاك المكان السحري، أراه فارغاً.. لقد اقتلعوا ذات يوم دار الشباب علال بن عبدالله، إمعانا في قتل ذاكرتنا، واختفي الجلباب، وبقي الخياط يحرس البحر كي لا يسرقوه هو أيضاً. لقد كنا نتفنن في شعاراتنا حتي أننا نضيف عليها ملحاً من الشعر "إنا حلفنا علي التحرير والنصر مالوش بدالة .. معاك في الدرب والنار لا كلام ولاجدالة". حينما كنت طفلاً، كان والدي يأخذني من يدي معه في كل المسيرات العمالية، سواء يوم عيد العمال {فاتح مايو}، أو في تلك الوقفات والمسيرات النضالية تنديداً بسياسة الدولة في القطاعات الاجتماعية. بعدها أصبحنا نحتج علي سياسة الدولة ومواقفها، وفي تلك المرحلة تعلمنا دروساً أخري في النضال، وفي الحلم بالتغيير، وفي الوطن... بعدها رأيت المكان ينأي من مكانه !!.. رأيتهم يأتون ليلاً، طمسوا جل "بهارات" الأمكنة، جاءوا من "فجاج" "السلطة" كي يجهزوا علي المكان، تغير طعم الأشياء وأصبح من الصعب تغيير سحنة الأرض. إلاي! اخترت قصيدة تشبهني، أشبه بالمدينة في بعض تفاصيلها، لا ترضي أن تكون لقيطة، ولا نسخة من أحد، ولا تدين لأحد، ولا تصعد علي أكتاف أحد، تكره دراويش يحيطون بها، تكره أيضا التصفيق، وتكره العبور ب" التوصيات"، لذلك ظلت حرة. وفي الكثير من الأحيان، وأنا أستعيد سليم بركات ومحمد خير الدين ومحمود درويش ومحمد بنيس وسركون بولص، كنت أراهم بجانبي، كنا نضحك ونحن نري ماركس مولعاً بكتابة قصيدة النثر في أسفي.. قصيدتي ومدينتي.. كلانا وجه للبحر للانهائي.. وللمطلق..