منذ سنوات طويلة، يقيم القاص شريف صالح في الكويت، ويكتب القصص القصيرة، فقط القصص القصيرة. يعمل في هذا النوع بجد، يجرب فيه ويحفر في أغواره، دون أن يشغل نفسه بمتطلبات السوق أو ما ينتظره القاريء. وحديثًا صدر له "شق الثعبان"، عن دار صفصافة، وهي مجموعة قصص قصيرة جدًا، يتراوح حجمها ما بين صفحة وسطر، يغلب عليها الطابع الحلمي، في تأثير واضح من نجيب محفوظ. كما تقترب أحيانًا لقصيدة النثر، وتبدو في مجملها قادمة من منطقة بعيدة في الذاكرة، وإن كان بعض القصص بعيدا تمامًا عن التحديد الزمني. هنا نتحدث مع صاحب "بيضة علي الشاطيء" عن القصة القصيرة جدًا والغربة والرواية والجوائز، لنقترب أكثر من عالمه وهواجسه في الكتابة فن القصة القصيرة جدًا، أو ما يسمي كذلك ب "الميكروقصة" فن قليل الوجود، ربما لأنه يمكن أن يكون جزءًا من قصة أو من رواية. كيف تري هذا الفن كفن مستقل وقائم بذاته؟ - فن القصة القصيرة جداً يشبه شعر الهايكو الياباني، تلك الكثافة المذهلة التي تُروي في أقل عدد من الكلمات، فتكمن الحكاية كلها خارج المكتوب. كأن ترسم خطًا دقيقًا وتترك لي إيحاء بأنه امرأة ترقص فرحًا. حالة بالغة الرهافة، والصعوبة، وتتطلب خبرة عالية وقدرة علي الحذف بلا رحمة. أذكر أن يوسا قدم مرة تحليلاً في بضع صفحات لقصة مونتيروسو الشهيرة "وعندما استيقظ، كان الديناصور لا يزال هناك"، وسألت نفسي وأنا أقرأ تحليله من أين جاء بكل هذا الكلام عن نص من ست كلمات؟ لابد أن كل ما تريد القصة قوله مخفي وكامن في فضاء ما، فرغم وجازتها لدينا راوٍ، وشخصية عاقلة نامت واستيقظت، بما يفيد مرور زمن ما، ولدينا شخصية "الديناصور" الرابضة إلي الأبد فيما يبدو. أي أن كل عناصر الحكي توافرت في ست كلمات. فمن يقدر علي ذلك؟ لنقل إنها مثل ضربات فرشاة انفعالية قد تصيب مرة وتطيش مرات. وهذا يفسر الصعوبة البالغة في كتابتها وتلقيها، وبالتالي انتشارها. ربما بسبب هذه الكثافة الشديدة يتعذر الاعتراف بها كفن قائم بذاته، لأنها تقع في منطقة ملتبسة ما بين القصة القصيرة والشعر، وتغيير موقع مفردة واحدة قد يضفي علي النص روح المقطع الشعري أكثر من روح السرد. علي أي حال، لدي قناعة بأن كل فن يشق مساره ومستقبله بطريقته الخاصة، بغض النظر عن قدرتي ككاتب في اكتشاف إمكاناته. وأعترف هنا بأنني استفدت في كتابة هذه النصوص من لغة فيسبوك وتويتر التي تتطلب منا الاختزال في متوسط 140 كلمة، فهل ستنعش لغة مواقع التواصل كتابة النصوص البرقية والومضات الشعرية؟ أعتقد أن هذا ما يحدث بالفعل. يلاحظ في مجموعتك "شق الثعبان" التأثير الواضح بنجيب محفوظ، بالتحديد "أحلام فترة النقاهة".. هل تتفق معي في أن صوتًا محفوظيًا تسرب إلي كتابتك، خاصًة أن قصصك القصيرة جدًا متكئة علي الأحلام؟ - صحيح أنني لم أقرأ "أحلام فترة النقاهة" إلا عند صدورها تقريبًا، لكن مشروع نجيب محفوظ بصمة مهمة بالنسبة إلي، درسته عن قرب في الماجستير، وأعجبت ب "أحلام فترة النقاهة" و"أصداء السيرة"، وأحب محفوظ ككاتب قصة قصيرة عبقري، وإن لم ينل هذا الجانب حظه من الدراسة. ولا مبرر لأن أنكر تسرب النفس المحفوظي، ليس فقط في الاتكاء علي الأحلام، بل واللغة الصوفية أحيانًا. وأتمني كتلميذ أن أكون قد اجتهدت في الاستفادة من الأستاذ وليس تقليده. والأحلام عمومًا منبع خطر للإلهام في كل مجموعاتي القصصية، وأظن أن كتابا كثيرين أحبهم اتكأوا عليها ببراعة منهم بورخس. الحلم أعظم تقنية سردية علي الإطلاق، لأننا خلال الحلم نتحرر من كل الكوابح والمعوقات والسيطرة الذهنية والعادات والتقاليد، إنه فضاء خيالي طازج يضفي علي العلاقات والأشياء بريقًا ويعيد اكتشافها بطريقة طفولية مذهلة. وفي فضاء الحلم لا يوجد حلال وحرام، حيث كل الصور والعلاقات مباحة ومتاحة. وعندما أستيقظ وأتذكر أنني حلمت، وأنجح في تذكر حلمي، يكون ذلك أسعد أيام حياتي، فليس أتعس من إنسان لم يعد يحلم، أو تتواري أحلامه في العماء فيعجز عن متعة استعادتها. ولا أخفيك سرًا أن مجموعتي القادمة تشبه تجربة "شق الثعبان" وتشكل الأحلام عمودًا فقريًا لها. وأضيف أن أهم ما فادتني فيه الأحلام ككاتب بناء نص قائم بذاته، وعلي متخيل خاص به، لا يستند علي محاكاة الواقع مهما تشابه معه. تبدو القصص لمن يقرؤها قادمة من منطقة الذكريات، أحداث بعيدة في سيرتك تعيد كتابتها بعد كل هذه السنوات، هل هذا صحيح؟ أم أن التأليف هو الصيغة الغالبة؟ - بعضها بالطبع ذكريات بعيدة، بعيدة جدا، فنص "حضن الأم" كان أول لحظة عشتها في وعيي الإنساني، أول حلم، أول كابوس. كنتُ طفلاً ربما في الخامسة، لا أتذكر، وكنت أشعر بالسماء تنطبق علي الأرض، ولولا حضن أمي ربما مت فزعًا. يقال إن هذا النوع من الأحلام مرتبط بصدمة الذكري بعد مرور سنوات في صورة حلم، مثل لقائي مع حبيبة الطفولة في المدرسة المهجورة. أظن أن الزمن في وعينا الحاد متصل وأبدي علي نحو مرعب. ليس فيه خانات الماضي والحاضر والمستقبل. فقد نلتقي شخصًا لأول مرة بإدراك عميق أننا التقيناه في ماض ما. الزمن الداخلي معقد يذوب في هيئة شذرات نلامسها بحواسنا، صور وظلال كلمات وأصوات وروائح، وكل ما أفعله أنني أنصت إليه، أنصت إلي اللحظة المتأخرة التي اكتشفت فيها أن "مسحراتي الحارة مات" بمجرد أن أمسك ابنه طبلته في موسم رمضان. أنصت إلي الرجل ذي العمامة الخضراء الذي واظب علي زيارتي حاملاً الرسائل القليلة التي تصلني في بريد القرية بيقين المؤمن أنني سأكون شيئًا ذا شأن. لماذا تحضر تفاصيل صغيرة، قد تكون مضحكة أو تافهة، وتغيب تفاصيل كانت أكثر أهمية بالنسبة إلينا؟ لا أدري! ثم من منا يتحكم في فجوات ذاكرته؟ وأعترف أنني لا أستطيع التأليف في المطلق، أحتاج دائمًا إلي بذرة صغيرة من حلم أو ذكري وقد أحورها بالتأكيد. الأمر تقريبًا يشبه لمبة في نفق معتم تحدد لي مساري. فلو لم تومض اللحظة في وعيي لن تحفزني علي كتابتها. تدور القصص هنا، في مصر، علي ما يبدو، رغم أنك تعيش في الكويت منذ سنوات طويلة. ألم تسحبك الهجرة للكتابة عن مجتمعك الجديد؟ - بعض القصص استدعيتها من مخزون ذاكرتي في مصر، وبعضها الآخر من تفاصيل الحياة اليومية في الكويت، فالحياة في الخليج لأكثر من أحد عشر عامًا حتما سوف تترك بصمة عليك ولن تستطيع الفكاك من ذلك. وتقريبًا في كل مجموعاتي هناك وجود ما للحياة في الكويت، هذا واضح في "مثلث العشق" و"شخص صالح للقتل" و"بيضة علي الشاطئ"، وهو تأثير لا أتعمد الإشارة إليه ولا تجاهله أيضًا. ربما لأن "شق الثعبان" المجموعة الأشد كثافة بين أعمالي، فلم أشعر بالحاجة إلي حضور جغرافيا الكويت فيها، ووجدتني تلقائيًا أقرب النصوص المرتبطة بتفاصيل الحياة هنا، من طبيعة الحياة في مصر، حدث هذا علي سبيل المثال في نص "غزال في القلب"، فالمريض كان لبنانيا، والممرضان كانا هنديين، وكذلك في قصة "ابتسامة واحدة تكفي" مرتبطة بمفارقات الشارع في الكويت، لكنني استغنيت عن كل هذه التفاصيل، تماشيًا مع طبيعة المجموعة وفضلت أن أحافظ علي روحها المصرية قدر الإمكان. وفي النهاية لدي قناعة بأنني كاتب مصري، اكتب لقارئ ضمني مصري يفهم شفراتي وسخريتي أكثر من أي قارئ آخر في العالم. القاريء للمجموعة يلاحظ التفاوت، ربما الحاد، بين نصوصها، ورغم أن ذلك يحدث في أحيان كثيرة في المجموعات القصصية، إلا أن السؤال حول كيفية الاختيار يبقي مطروحًا. - الناقد أجدر مني علي إظهار ذلك. كما قلت لك كتابة مثل هذه النصوص مثل ضربات الفرشاة، وقد تغري بالسهولة في كتابتها بسبب قصر عدد كلماتها، كما تغري بالتجريب أيضًا. في نص "غضب الوعل" مثلًا، تعمدت أن ألتزم بقالب الهايكو. وبعض النصوص كنت مترددًا بشأن إضافتها، ولو اقترح الناشر حذفها كنت حذفتها، لكنني أيضاً مقتنع بأن التفاوت في نصوص أي مجموعة قصصية أمر وارد، والرغبة في التجريب تشفع لي لضم بعض النصوص المعبرة عن التجربة ولو لم أكن راضيًا عنها تمام الرضا. وقد حدث هذا معي في مجموعة "شخص صالح للقتل" التي تشبه المجموعة الجديدة في كثرة وكثافة نصوصها. ولم أكن أتخيل أنني سأعود مرة أخري لكتابة القصة القصيرة جدا، لأنها لا تبدو لي مشبعة مثل القصة القصيرة. وأنت مبدع وتعلم أن الأمور لا تسير معنا كما نخطط لها، ولا وفق إرادة واعية. الكتابة كثيرًا ما تقودنا ولسنا من يقودها. تعمل في كتابة القصة القصيرة كمن يعمل بمعول، لكن كيف تنظر لفن الرواية كفن شامل ومعبر أكثر عن اللحظة الراهنة أو قادر علي استيعابها. ألم تفكر في كتابة رواية بعد خمس مجموعات قصصية؟ - لنقل إن الرواية هي البعيدة عني. تعلم أن بورخس وعدنا نحن القراء بإصدار رواية ولم يصدرها قط، بالعكس كان له تعليقات تهمكية لاذعة من فكرة كتابة رواية محكمة البناء، وهناك آخرون غيره اعتبروا هذا الإحكام أمرًا زائفًا. ولا أنكر أنني تعودت علي القصة القصيرة وعشقتها قارئًا وكاتبًا وبيننا عشرة تعود إلي ثلاثين عامًا. فما الذي يدعوني إلي ترك عشيقة مخلصة والمغامرة في أرض لا أعرفه تضاريسها جيدًا؟ صحيح أنني دونت العديد من الأفكار لكتابة روايات، وبعض المشاريع قطعت شوطًا في رسم هيكلها ثم توقفت، وآخر محاولة لي كانت رواية عن العالم الافتراضي الذي يأكل وقتنا وأعصابنا وظللت طيلة أربع سنوات أو أكثر أكتب فيها، معتبراً أن حصولي علي جائزة دبي الثقافية عن "بيضة علي الشاطئ" وجائزة ساويرس عن "مثلث العشق" يتطلب مني الابتعاد لفترة طويلة نسبيا عن كتابة القصة القصيرة لتجديد الخلايا والشرايين. لكن مع تعثر مشروع الرواية، وإعادة كتابة خمس مسودات لها، أصابني إحباط هائل، ويبدو أن مخاوفي المبالغ فيها أثرت علي سلبا، لذلك وجدتني لا شعورياً أدون نصوصًا قصيرة في هامش الوقت، إلي أن اكتشفت بعد أربع سنوات أن لدي مسودة مجموعتين قصصيتين. وفي الأخير، من يدري ربما أتخفف من قلقي بشأن مخطوط الرواية وأنشرها. عادةً ما يتحدث كُتّاب القصة عن اضطهاد هذا الفن في مقابل الاهتمام بالرواية، خاصةً فيما يخص الجوائز العربية. هل تشعر، رغم حصولك علي جوائز، بأن القصة فعلًا مضطهدة؟ -ثمة تقليص للقصة والشعر والمسرح من المشهد لصالح الرواية، بل وحتي تقليص الرواية ذاتها لصالح "أشباه الرواية" كروايات الرعب والبوليسية. لا أدري مثلًا لماذا لا يمنح المجلس الأعلي للثقافة جائزة الدولة التشجيعية لثلاثة كتاب قصة وثلاثة روائيين وثلاثة شعراء مثلا؟ ألا يوجد في مصر التي تعدادها يزيد علي ثمانين مليون نسمة تسعة كتاب يستحقون جوائز التشجيعية في الآداب؟ أعتقد أن هناك تهميشًا للقصة القصيرة ولكتابها وجوائزها، ويفترض أن يكون هذا دور المؤسسات الثقافية الرسمية والأهلية، لأن التهميش يتضاعف عامًا بعد عام ويطال كافة أشكال الإبداع، فتسير في مصر وتصاب بالرعب من "التصحر" الذي وصل إليه الذوق العام، ونظافة وتجميل الشوارع والميادين، ونوعية الأغاني، وليس فقط في الروايات والقصص. ككاتب قصة قصيرة، هل تواجه مشاكل في النشر تحديدًا؟ - تخيل أننا رغم هذا العدد الهائل من الجامعات والشباب يحدثك الناشر عن عجزه عن توزيع ألف نسخة من مجموعة قصصية! ولا أتذكر من القائل بأنه لا يعترف بأن كاتبًا محترفًا ما لم يوزع خمسين ألف نسخة من كتابه. نحن تقريباً خصوصًا كتاب القصة القصيرة نكتب في حال من العماء والتصحر ووسط جزيرة أسطورية لإعادة إنتاج الجهل والتخلف، وتصبح الكتابة كأنها فعل استمناء، لمجرد المتعة الشخصية وتلقي مجاملات الأصدقاء. ولا شك أن مضاعفة الجهات المانحة للجوائز من مؤسسات وجامعات يسهم بدرجة لا بأس بها في ترويج الإبداع ونشره خصوصًا لو تخلصت آليات المنح من الشبهات والمجاملات وأخلصت لوجه الإبداع. فعلي سبيل المثال المجموعة الوحيدة لي التي أعيد طبعها مرة ثانية "بيضة علي الشاطئ" نظرا لفوزها بجائزة علي مستوي الوطن العربي. قوة الذكريات المهيمنة علي المجموعة تدفعني لسؤالك إن كنت تفكر في العودة لمصر؟ وكيف تري المشهد من بعيد؟ -كرب أسرة، يصعب التفكير في ذلك حاليًا، لأنه بالتأكيد ليس قرارًا فرديًا. قناعتي الخاصة والمثالية ربما أن نساهم من أي مكان نحن فيه في انتشال بلدنا من هذا الوضع الذي لا يستحقه، فنظام مبارك دمر البلد في ثلاثين عامًا بأقصي مما فعلت نكسة يونيو، ومن يدري ربما تأتي اللحظة المواتية التي أشعر فيها بالأمان علي أولادي في بلدي، وبأن مستوي التعليم أصبح آدميًا ومقبولًا.. ساعتها قد أفكر في العودة. علي أي حال السفر كان اضطرارًا ولم يكن قرارًا إراديًا ولا هروبًا، وأتمني رغم العثرات التي نشعر بها جميعًا أن يتم فتح المجال السياسي وإشراك الشباب في المعادلة، وأيضًا الاستفادة من خبرات المغتربين وهم ملايين من الكفاءات. ولعل وجودنا في الخارج حاليا أكثر فائدة للبلد علي مستويات كثيرة. المهم ألا تتواصل سياسة تهميشنا والاكتفاء بأننا مجرد "رقم من العملة الصعبة" في خزانة الدولة، أو باعتبارنا الفئران التي هربت من السفينة! الولادة. ولست متأكدا هل كتبت تلك اللحظة في نصوص أخري لي أم لا، لكنني آثرت توثيقها هنا. وأحيانا ترتد