لم يكن نصر أكتوبر المجيد حدثًا عسكريًّا فحسب، بل كان ملحمةً إنسانيةً متكاملة الأركان، شاركت فيها الأمة بأسرها، رجالًا ونساءً، شيوخًا وشبابًا، كلٌّ فى ميدانه يؤدى واجبه بإيمانٍ وإخلاصٍ ويقين بوعد الله بالنصر والتمكين، وفى قلب هذه الملحمة العظيمة كانت المرأة المصرية؛ تؤدى دورها العظيم الصامت فى بيتها الذى لا يقل شأنًا عن صوت المدافع فى الميدان، ولا عن بطولات المقاتلين على الجبهة، بل كان هو الوقود الروحى الذى غذّى إرادة الصمود ووهب النصر معناه الإنسانى العميق، لقد أدركت المرأة المصرية أن النصر لا يُصنع فى ميادين القتال وحدها، بل يبدأ من البيوت المؤمنة التى تُنشئ الرجال، وتغرس فيهم حب الوطن، والإخلاص فى الدفاع عنه، وتربّى فى قلوبهم معانى التضحية والإيثار، فهى التى ربّت أبناءها على الواجب، وودّعتهم إلى الجهاد راضيةً محتسبة، وقد حملت فى قلبها يقينًا بأن الله ناصرٌ عباده الصادقين، فكم من أمٍّ سهرت الليل داعيةً ومبتهلة، تستودع أبناءها عناية الله، وكم من زوجةٍ صبرت على الغياب وضيق العيش، تثبّت قلب زوجها بكلمةٍ صادقةٍ ودعاءٍ خفىٍّ، لتظل الجبهة الداخلية للوطن متماسكةً قويةً لا تضعف أمام المحن، ولا تنكسر فى مواجهة الشدائد، فكان صبرهنّ وتضحياتهنّ جسرًا من الإيمان عبر عليه الوطن إلى النصر، وليس غريبًا هذا العطاء من المرأة المسلمة، فالإسلام قد أعلى مكانتها، وجعلها شريكةً فى المسئولية والبناء، إذ هى فى ميزان الشرع عقلٌ راجحٌ وروحٌ مؤمنة، وأمينةٌ على قيم الأمة ومبادئها، يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كما فى صحيح البخارى: «كُلُّكُمْ رَاعٍ فَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ... وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ»، فهى راعيةٌ فى ميدانها، تؤدى رسالتها بوعيٍ وإيمانٍ وإخلاصٍ، وتغرس فى بيتها القيم والمبادئ التى تُخرّج أجيالًا قوية العقيدة، راسخة الانتماء، واعيةً بمسئوليتها تجاه دينها ووطنها وأمتها، ولذلك فإن بناء الوعى، وصون الهوية، وإحياء الضمير الجمعي، يبدأ من قلب المرأة الصالحة التى تُنشئ الأسرة على التقوى، وتجعل من بيتها لبنةً فى صرح الوطن، وقد منحها الإسلام كذلك دورًا فاعلًا فى بناء الوعى الدينى والاجتماعى، فهى مأمورةٌ كالرجل بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، كما قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[آل عمران: 104]، فالمسئولية فى الإصلاح والدعوة ليست حكرًا على الرجال، بل هى شراكةٌ كاملة بين أبناء الأمة جميعًا؛ رجالًا ونساءً، كلٌّ يؤدى دوره بما يليق بموقعه، ويسهم فى بناء الأمة وتثبيت أركانها، كما كانت نساء الصحابة فى صدر الإسلام مثالًا فى التضحية والعطاء والإيمان. أخى القارئ الكريم إذا كان نصر أكتوبر المجيد قد كُتب بسواعد الرجال، فقد سُطِّر بروح المرأة المصرية التى أحسنت الزرع والتنشئة، وغرست فى قلوب أبنائها الإيمان والصبر وحب الوطن، فالمرأة فى بيتها كانت جبهة أخرى من جبهات النصر؛ تدعو بصدق، وتربّى بوعى، وتشدُّ على أيدى المجاهدين بالصبر والثبات، ولم تكن تلك الروح مقصورة على فئة دون أخرى، بل كانت سمةً جامعةً لكل نساء مصر، فى الريف والحضر، فى المدينة والقرية؛ كلهنّ حملن فى قلوبهنّ همّ الوطن، وأدركن أن المعركة ليست فى الميدان وحده، بل فى كل بيتٍ يحتضن ابنًا أو زوجًا أو أخًا خرج للدفاع عن الأرض والعرض، لقد قدّمت المرأة المصرية لوطنها ما لا يُقاس بميزانٍ من مالٍ أو جاه، وإنما بميزان الإيمان واليقين، فكانت بحقٍّ شريكةً فى النصر، وجزءًا من روح أكتوبر التى لا تموت، ومن الوفاء أن نظل نذكر هذا الدور العظيم، وأن نُخلِّد سيرة المرأة المصرية فى ذاكرة الوطن، فهى التى علّمت أبناءها أن التضحية فطرة، وأن الصبر عبادة، وأن حب الوطن من تمام الإيمان. حفظ الله مصر وجيشها وشعبها، وأدام عليها نعمة الأمن والإيمان، وجعلها دائمًا بلدًا آمنًا مطمئنًا، سخاءً رخاءً وسائر بلاد العالمين. مفتى الجمهورية