عبرنا وادي نهر تاجة، وعدنا بالأوراق والأحجار والأتربة اللونية المطلوبة من طَلَبِيْرَة، حين وصلنا إلي حدود طليطلة مع كاستيا لا مانتشا تهللت وجوه الرجال بالفرح، وراحوا يتصايحون بأسماء حبيباتهم معلنين أنهم في الطريق إليهن، كانت هذه واحدة من المهام التي أوكلها إليَّ العم باديث منذ اعتبرني بديلًا عن ابنه المتوفي في حادث سير، مخلفًا بذرة طفل في رحم زوجته الصغيرة، تلك التي في سن حبابة زوجة فرناندو، جعل لي العم باديث غرفة في بيته وعاملني كابن له، وأخذ يحدثني كلما رآني عن عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر وهشام المؤيد وبني زيري وبني هود وغيرهم، كما لو أن والدي أودعني إليه ليحفظني عن ظهر قلب تاريخ الأندلس، لكنه لأمر ما لم يكن يحدثني عن سقوط طليطلة، حتي شككت أن عائلته كانت سببًا في ذلك، وإن كان العجائز من المدجنين أكدوا أن أجدادهم استبسلوا في الدفاع عنها، حتي أذلهم الجوع وأحني رقابهم الخوف، قائلين إن أعيان طليطلة اتفقوا علي تولية الحكم لكبير بني ذي النون عبد الملك بن متيوه لكنه أساء السيرة، فأجمعوا أمرهم علي خلعه وتولية ابنه إسماعيل الذي عين أبا بكر الحديدي وزيراً له، فلما توفي إسماعيل تولي ابنه يحيي من بعده ، ثم حفيده القادر بالله من بعدهما، كل هذا والحديدي متملك وزارة البلاد، فخشي القادر من سطوته ودبر لقتله، فلما مات الحديدي أطلت الفتن برأسها في البلاد، وأخذ والي سرقسطة المقتدر بن هود يشن غارته عليها، بينما أعلن والي بلنسية أبو بكر بن عبد العزيز استقلاله عن طليطلة والقادر، وكاد ملك أراغون سانشو راميرو ينتزع "قونية" لولا أن القادر افتداها بمبلغ كبير من المال، ثم بحث القادر عمن يعينه في مواجهة أعدائه فلم يجد غير صديقه القديم ألفونسو السادس ملك قشتالة فوافق علي أن يتنازل له القادر عن "سرية" و"فتورية" و"قنالش" فضلاً عن أداء جزية سنوية، فأثار ذلك غضب أهل طليطلة، ورأوا أنه لا مناص من خلعه، فاندلعت الثورة التي فرَّ القادر من أمامها إلي "وبذة"، ومنها إلي "قونية"، لاجئاً إلي صديقه ألفونسو كي يعيده إلي الحكم، فأرسل أعيان طليطلة للمتوكل بن الأفطس حاكم سرقسطةتكي يجيئهم لضبط شئون البلاد، فلما جاء جيش ألفونسو وجد المتوكل بجيشه في المدينة، فأخذ يضيَّق الخناق عليه حتي فرَّ المتوكل بما استطاع حمله من تحف وأثاث، وعاد القادر إلي كرسيه في حماية القشتاليين لمدة عشرة أشهر، لكن الناس ثاروا عليه من جديد وخلعوه مبايعين القاضي أبو بكر يعش، وكان المعتمد بن عباد ملك إشبيلية يراقب الأمور عن بعد، فأرسل وزيره ابن عمارتإلي ألفونسو ملك قشتالة قائلًا إن المعتمد لا يمانع في حصولكم علي طليطلة، وأنه هو نفسه سيدفع جزية سنوية لكم، وذلك مقابل أن تتركوا له الأراضي الواقعة خلف جبال الشارات، فظلت طليطلة وحيدة في مواجهة قشتالة لمدة أربع سنوات، دون أن يسعي أحد لنجدتها، حتي نفدت الغلال وأكل الناس الميتة والحصي، فذهب الأعيان إلي ألفونسو مطالبين بفك الحصار مقابل دفع الجزية والتنازل عن بعض الحصون، لكنه ردَّهم علي أعقابهم خائبين، وفي النهاية قبل الجميع بتسليم المدينة للقشتاليين حفاظاً علي ما بقي فيها من أرواح، فدخلها ألفونسو بجيشه الكبير رافعاً صليبه الفضي علي مئذنة مسجدها الجامع. لا أعرف لِمَ اختار والدي العم باديث من بين كل أصدقائه ليتركني معه في هذه المدينة التي تبعد عشرات الفراسخ عن جبال البشرات وقراها، لم يذكر باديث أمري إلا لقلة من أصدقائه العجائز، فكانوا يفردون لي أرديتهم مرحبين بالوزير ابن الوزراء والأمير ابن الأمراء، رغم أن غرناطة سقطت منذ ما يزيد علي نصف قرن، وبني جهور اندثر حكمهم منذ ما يزيد علي أربعة قرون، غير أنهم الناس كانوا يتحدثون عن دولة بني جهور بوصفها الجنة المفقودة، كان الجميع في طليطلة يحمل أسماءً إسبانية، ويتردد بشكل دائم علي الكنيسة كل أحد، بعضهم كان يزيد فيُعلِّق في محاله وبيوته صورًا للمسيح وأمه، ولم يكن يعرف العربية غير بعض العجائز، لكن أغلبهم من ذوي الحرف، يتقنون الزراعة والحدادة والتجارة والنسيج والبناء، وأغلبهم يجيد لغة القشتاليين، وبعضهم يعرف اليونانية ولهجة أراغون، قلة هي التي كانت تعرف لغة بني عثمان، ولم تكن مناصب المدينة تخلو من المدجنين الذين تنصروا بمحض إرادتهم قبل سقوط غرناطة بزمن، فالإسبان وحدهم ما كانوا يصلحون لتدبير الأمور، لذا كانوا في البدء يبدون الود للأندلسيين، غير مجبرين أحدًا علي ترك دينه أو زيه أو لغته، لكن الناس تماشيًا مع الدولة الجديدة كانوا يدخلون المسيحية بمحض إرادتهم في الظاهر، مؤكدين أن الدين في القلب وليس وشمًا علي الجلد، وأنهم حين يموت ميت لهم يتركونه ينال الأمجاد السماوية في الكنيسة ويعودون ليقرأوا القرآن في بيته. حين دخل والدي علي باديث في ورشته انتفض الأخير مهللًا: اهرناندو بن جهور؟! يا مرحبًا»، لكن أبي تيبَّس في مكانه كما لو أن الرجل وجَّه إليه إهانة لا تُغتفر، فتأسَّف باديث معتذرًا وهو يحتضنه: اإنها العادة يا صاحبي، لكن ورب الكعبة حضورك إلي طليطلة معجزة تحسب للمسيح»، فانفرجت أسارير والدي واحتضن باديث الساخر بحرارة ومزاح لا مثيل لهما، كانت ضحكاتهما تتعالي بين الحين والآخر، كأنهما لا يعرفان من الدنيا سوي النكات، بعدها تركاني أتقلَّي علي جمر الانتظار في الورشة، عين علي الباب الذي خرجا منه، وأخري علي العاملين بأدواتهم ورسومهم وهيئاتهم التي تشبه التماثيل. وجوه معفرة، وثياب متسخة، وعيون يكاد يطمسها الرماد، حين عاد والدي انتحي بي جانبًا وهو يقول: القد كبرت يا محمد، وعليك الآن أن تعتمد علي نفسك، سأتركك لتتعلم مهنة تنفع بها نفسك وناسك، فاحرص علي ألا يفوتك منها شيء، وأن تكون لعمك باديث كولده الذي فقده»، يومها رأيت في نظرة عينه الصارمة ووقفته الحازمة ووجهه المنحوت كقطعة من صخر البشرات قراره الذيلن يحيد عنه، فأمسكت بنفسي عن البكاء، وأومأت بالموافقة، فضمني ضمة أدخلت أضلعي في بعضها ثم أفلتني سائلًا: اهل تريد شيئًا؟»، فطلبت منه أن يبلغ سلامي لزهراء وحبابة وفرناندو وابنهما ماركيز. حمل باديث صرة ملابسي واصطحبني إلي بيته، لم يكن هناك غير زوجته وطفل صغير في حجرها، فنادي علي مَن في البيت ليتعرفوا عليَّ: «هذا خوسيه ابن صديقي أرماندو، جاء به والده من مجريط ليقيم معنا إلي أن يعود من رحلته للعالم الجديدب. حين وقعت عيناي علي صبية في عمر حبابة بوجه مستدير وعينين تشوبهما سحابة من الحزن، وضع يده علي كتفي قائلًا: اهذه بيلارا زوجة ابني جابرييل»، وتلقَّف من علي صدرها الطفل: اهذا الشقي حفيدي الحبيب بدرو»، وأشار إلي السيدة التي تجاوزت الستين: اوهذه زوجتي برنانديث، يمكنك اعتبارها أمك الجديدة»، فهمت فيما بعد أنه ما كان بمقدوره أن يفرط في بيلارا بعد وفاة زوجها، ليس خوفًا من الوحدة ولا رغبة في أن يكون هناك مَن يخدمه، ولكن لأنه لا يستطيع مفارقة حفيده بدرو. أبي أعلم مني بالطرق التي ينبغي علي أقدامي أن ترتادها»، هكذا أقنعت نفسي، فبذلت جهدي في تعلُّم كل ما تقع عيناي عليه، حتي إن باديث كان يُشبِّهني بالأرض التي لا تشبع، وكلما رأيت شيئًا جديدًا ظننت أن أبي تأخر عليَّ في مجيئه من أجل تعلُّمه، وكلما التقيت بيلارا أضع عيني في الأرض متجنبًا النظر إليها كي لا أقع في حبها، حتي إنني كنت أستيقظ مفزوعًا من نومي إن رأيت طيفها في المنام، مؤكدًا أن ذلك ليس سوي خيانة للأمانة والعهد، شعرت أيضًا أنها تبذل كل ما في وسعها كي لا تراني، فظللت أنهمك طيلة النهار في عملي ولا أعود إلا وقت النوم، وظلت هي تحرص علي خدمتي دون أن نلتقي إلا مصادفة، رغم أن وجهها الباسم الحزين يطاردني في كل مكان، وظل الأمر لسنوات مخبَّأً في قلبي حتي فاجأني العم باديث ونحن نرمِّم بعض حوائط الكنيسة الكبري قائلًا: أريد أن أخطبك لابنتيب. ودهشت لعلمي أنه ليس لديه بنات، فابتسم ؟: ابنتي بيلارا، هي خير زوجة لخير ولد، ولم يبقَ من العمر الكثير كي أحمل طفلكما علي يدي. يومها تماسكت عن الطيران من الفرح، وتجالدت عابثًا أمامه كي لا يتخيل أن نفسي رغبت في زوجة ابنه، وتحدثت بجدية المتمنع: حين يعود أبي يمكننا أن نتحدث في ذلك»، لكن الأخبار التي جاءتنا من غرناطة قالت إن الثورة قامت هناك، وإن أبي قائد في جيش ابن أمية، وإن البشرات صارت دولة للمسلمين، كان الجميع يتناقل هذه الأخبار بتعجُّب في العلن، وربما برفض في بعض الأحيان، لكنهم من داخلهم كانوا يباركونها بالدعاء، لم يعلم أحد أنني من البشرات، ولا أن والدي من المتورطين في الثورة، وظل الكل يعاملني علي أنني خوسيه أرماندو، وظلت الورشة مهبط الأخبار، فمَن يأتِ لعمل رسوم القديسين يُدلِ بما يعرف، ومَن يرغب في تزيين بيته يجئ بما لديه، ومَن يسعَ لعمل تطريز لحواشي مخطوط لديه يحكِ عما يعرف، قصص القديسين كانت تبدأ وكلام الفلاسفة والشعراء يمر سريعًا، لكن البشرات دائمًا ما تستقر أمامي، البشرات بأهلها وناسها وطرقها وشعابها تطاردني في كل شيء. في الظاهر كان الكل يتحدث كمَن يهمس بسر لعابر في طريق طويل، لكن طليطلة في الواقع كانت تدوي كخلية نحل حول الحدث الجلل، دون أن يطرح أي من أبنائها سؤاله المخبأ عن موقفه لو أن البشرات طلبت منه المساعدة. في هذه الرحلة كنت بصحبة خمسة من الزملاء، خرجنا لنبني مقبرة لواحد من النبلاء، فأمضينا أسبوعًا في مجريط، أنهيت خلاله عدة مهام أمرني بها العم باديث، من بينها شراء أتربة نحتاجها في عملنا، وورق مصقول للنسخ عليه، وتوصيل عدد من الخطابات وصرر الأموال لأصدقاء له، حين أنهيت مهامي أخذت زملائي وعدنا بالبغال مع قافلة في طريقها إلي طليطلة، فعلمنا من رجل بها أن ابن أمية انتصر في الحرب علي قائد جيش غرناطة، وأنه أسره وتزوج امرأته الجميلة، قالوا أيضًا إنها حين رأت فروسيته وأخلاقه أعلنت إسلامها كي تتزوجه، ولا أعلم ما الذي جعل نفسي تهفو لرؤية أبي وفرناندو والزهراء وحبابة، تجيش بالحنين إلي البشرات وقراها ومعلمي هناك، فانهمرت مني الدموع، حين سألني رفقائي عن السبب قلت إن العم باديث توحشني، فانفجروا في نوبة من الضحك والسخرية، وراح كل منهم يسارع بمجرد وصولنا كي يحكي له الأمر بطريقته الخاصة، لكن الرجل لم يكن في حال تسمح له لا بالضحك ولا الكلام، فقد انتظر حتي انتهيت من عملي ثم انتحي بي جانبًا وهو يقول: اكل نفس ذائقة الموت، وما يبقي غير وجه ربك ذي الجلال والإكرامب. قضيت خمسة أيام بين الحياة والموت، يعاودني البيطاري كل صباح ومساء، ولا يخدمني في غرفتي غير العم باديث وزوجته، فقد منع الخدم من الدخول عليَّ حتي لا يتسمعوا ما أهرف به من كلام في هذياني، كان والدي طيلة الوقت معي بوجهه المنحوت وملامحه البارزة وطوله الفارع، بينما جواده العربي ينتقل به من مكان إلي مكان، مرة في أعالي الجبال وأخري علي السفوح، وتارة بين الرياض والبساتين وأخري في الفيافي والصحاري القفار، رأيته يقود قومه في معارك صغيرة تتوسع وتكبر ولا تنتهي، ومَن يمُت منهم يترجل من علي حصانه كي يدفنه بملابسه ويضع عليه علامة كبيرة من الحجر الجيري، يحفر عليه اسمه ولقبه بالعربية، ويقف ليدعو له بالفردوس العظيم، ثم يركب جواده ويطير كفراشة بين البساتين والحقول، رأيت اقتتالًا وخوفًا وحماسًا وشجاعة منقطعة النظير، جميعهم كانوا أبطالًا في مواقفهم العصيبة، لم يتأخر أحد عن نجدة غيره، وكأنهم تحولوا إلي كرة من لهب تتدحرج من أعلي التل ولا تتوقف حتي تدخل أبواب غرناطة الجميلة، نظرت بعيني فيمن أري فلم أرَ فرناندو ولا حبابة بينهم، نظرت في كل الأماكن بعيني صقر حتي كدت أري الدودة في الأرض والخط الصغير في ورق الشجر لكن دون جدوي، وحده أبي كان يمرح بمَن معه علي مدي البصر أينما وليت وجهي، يتصل بكتائب تارة وينفصل عنها تارة أخري، يغزو قري وحصونًا ويحمل أسلابًا ويجمع عبيدًا ويطير من مشهد لآخر، لم يحادثني أو حتي يبتسم في وجهي، وكلما ناديت عليه كان يشيح بوجهه عني كأني أخطأت، أو كأنه لا يريد أن ينتبه الناس لمكاني، كانت نداءاتي تدوي مع الريح علي قمم الجبال وبين الصخور، كنت أسمع أصداءها تتردد بين البيوت والصوامع ومجاري المياه، بعد لأي لمحت علي البعد زهراء، ناديت عليها وأشارت لي بحجابها، وكلما هرولنا تجاه بعضنا بعضًا كانت القمم تزيد وتتكاثر لتحول بيننا، والأرض تتسع وتكبر حتي صرنا كحصاتين في طريق مليء بالأحجار والصخور، لهفي عليكِ يا زهراء، وحدها أمي التي جاءتني في مخبئي، ربتت ظهري، وقالت: لقد فعلت ما أمرت فاهدأ يا بني»، حسبتها تذكرني بليلة أرسلتني فيها بالطعام لأبي ورسالتها له في فمي تقول: حياتك بقاء لمن مات، وموتك بقاء لمن أجرم»، لكنها كانت تشير إلي الأعالي في الغرب، فنظرت نحو الإشارة، فإذا بالعم باديث يقرأ في مصحف كبير، وإذا بزوجته تملأ يديها طميًا من جير الجبال لتمسح به علي جدران مسجد قديم، حين التفت لم أجدها، ولم أجد أبي ولا زهراء، وجدتني وحدي أبكي كصبي في متاهة لا خروج منها، وقد ألقي الليل أستاره علي كل ما حوله، حينها فقط، فتحت عيني، نعم لم أكن أحلم ولا أهذي، كنت يقظًا كما أنا الآن، وكان أبي بجانبي ممسكًا بملعقة خشبية وطبق من فخار، يدفع بالثريد نحو فمي، فأزدرده رغمًا عني، كانت إيماءاته بالسكوت كما اعتدتها دائمًا، لكن شيئًا ما تغير في طبعه، فقد أصبح رقيقًا بما يكفي، أصبح ممزوجًا بأمومة كنت أحوج ما أكون إليها في هذه الليلة، وكلما سقط الطعام من فمي أمسك بذيله الطويل ونظف ملابسي، حين شعرت بالشبع توقف من فوره مربتًا كتفي: نم الآن يا محمد، فغدًا سأجيئك من جديد، غدًا سيكون لنا حديث طويل. حينها أغلقت عيني مثلما فتحتهما ورحت في سبات أهل الكهف، لا أعرف كم مرَّ من الوقت، ولا كم جري من الأحداث، لكنني كنت مطمئنًّا كالنائم في بيته، فلا فزع ولا خوف، لا جوع ولا عطش، وحدها أذني التي تسمعت صوت البيطاري وهو يجس بيديه نبضي: اليوم أفضل بكثير»، هكذا قال، وهكذا تهادي إلي أذني صوت زوجة العم باديث:لقد تناول طعامه كاملًا»، ضحك البيطاري: عمره سيكون مديدًا»، ثم وضع راحته علي جبيني، وفتح بإصبعه جفني فرأيتهما يقفان كزوالين علي حائط، وجفلت مقلتي من الضوء الصارخ فأغلقتها رغمًا عنه، فكأكأ بصوته الرفيع ضاحكًا: حمدًا لله علي السلامة، مَن زهراء التي أرقتك كل هذه الأيام؟!. لكنني لم أُجب، وهو بدوره لم ينتظر ليري الدهشة علي ملامحي، فقد وضع أدواته في محفظته واستدار خارجًا. رفاقي في الورشة هم الذين حملوني علي أذرعهم نحو بيت العم باديث، أما هو فلم يكن يعرف ما الذي ينبغي عليه فعله، كان يهرول خلفهم مرتبكًا وموقنًا بأنني في عداد الأموات، وجهه تلوَّن بألف لون حين سقطت دون كلمة أمامه في الورشة، قالوا إن الرجل يحبني أكثر من نفسه، قالوا تحللت أعصابه وفقد رشده وراح يصيح دون أن يدري ما الذي يريده منهم، يصيح فقط حتي تنبَّه بعضهم وهرولوا إليه، بينما هرول آخرون إلي بيت البيطاري، فحملوني إلي البيت وهو يلطم وجهه خلفهم، في البدء قال البيطاري إغماءة بسيطة وسيفيق منها علي المساء»، لكن حرارتي تزايدت، وعرقي انهمر كالسيل العرم، ولم يعد بوسعهم ترك المفارش غارقة بالماء، فاختلط علي البيطاري الأمر، وأمرهم بعزلي عن الجميع بغرفة رطبة: اوادعوا له بالشفاء»، فسقط الرعب في مفاصلهم: هل تموت الأمانة عندنا؟ وما الذي يمكننا أن نقوله لصاحبها؟!»، لكنه مثلما جاء طوفان فجأة فقد انقطع فجأة، وهبطت السكينة مثلما زالت الحمي، ورأوني أتأرجح من جديد بين جنبات الغرفة سائلًا: متي يمكنني النزول للعمل؟!»، فقهقه البيطاري العجوز: يا لك من شقي غريب الأطوار!»، كان جسدي قد عاف الفراش ورائحة العرق ورطوبة الغرفة، فقلت: راحتي في الورشة بضجيجها وأشغالها وعمالها، لكنني وجدت قلبي قد عاف طليطلة وما فيها، كانت لديَّ رغبة للحركة أكبر مما أتوقع، أكبر من قدرة أي مكان علي الإمساك بي، فأبي وجواده يمرحان علي مدِّ البصر، وقلبي يأكلني علي زهراء، وفرناندو الغائب الحاضر يهش بعصاه أمام عيني كطاحونة هواء، «فما الذي حدث في البشرات؟»، هكذا حدثتني نفسي، ويسألني باديث عما حلَّ بي، فأقول: ارأيت أبي»، ويجيبني: اكان فارسًا.. رحمه الله»، أقول: ارأيته بالفعل»، فيستعيذ بالله من الشيطان مستغفرًا، وموقنًا بأنني أُصبت بالمس أو الجنون، «لعلك ما زلت مريضًا، غدًا نذهب إلي الكنيسة، بها تعاويذ تحرق الصخر»، هكذا باديث في وادٍ، وأنا في وادٍ آخر، لا يجمعنا سوي الحزن واليأس والخوف، فلزمت الصمت مدة حتي هزني قائلًا: أوَتشعر بشيء؟»، فهززت رأسي نافيًا، ثم رفعت عيني المنكسرة لأضعها علي وجهه:أريد السفر»، فتبسَّم الرجل كما لو أنه وجد الخلاص: امع اكتمال المحاق تصحب الرجال لشراء أتربة وأوراق»، لكنني قاطعته: البشرات أريد يا عمي»، حينها تجعدت ملامحه وغارت عيناه، فهززت رأسي أسفًا: نعم البشرات»، ورأيته يحاول كسب الوقت: الكنها في حرب، والطريق غير مأمون، ولن يسمح الإسبان بالدخول أو الخروج منها»، غير أنني وضعته أمام الرجل الذي لا يمكنه أن يخالف له أمرًا: أبي أمرني بذلك»، فوضع يده علي الأرض قابضًا بيأس علي الحصي: لك الله يا بن جهور، لا تتورع أن تزج بنفسك وبنيك في وادي الصعاب»، حين انتهي من عتابه لوالدي رفع رأسه نحوي مستسلمًا: اغدًا نتدبر الأمرب.