خمسون عامًا مرت علي رحيل الشاعر الفارق والحاصل علي جائزة نوبل تي إس إليوت، وبهذه المناسبة، يقام عدد كبير من الاحتفالات في أماكن مختلفة من العالم، خاصة في جامعة "هارفارد" التي درس بها الفلسفة، مع التذكير بالإشادة الدولية بمنحه جائزة نوبل، ووسام "دانتي" الذهبي، وجائزة "جوته"، ووسام الحرية الأمريكي، ووسام الاستحقاق البريطاني. ورغم مرور هذه السنوات، لم يكتف القراء بقراءة كتابه الأكثر شهرة "بروفروك" بل أيضا يقبلون علي "الأرض الضائعة" و"الإرباع الأربعة"، كما يتوافدون لمشاهدة مسرحياته مثل "جريمة قتل في الكاتدرائية" و"حفل كوكتيل" بمهرجان أدنبرة في لندن وعلي مسارح برودواي، كما يستمتع الأطفال قي البيت والمدرسة بقصيدته "ماكافيتي" التي تدور حواراتها بين القطط، والتي اختيرت في حفل تأبينه الذي أقيم بكنيسة وستمنسر بعد وفاته مباشرة سنة1965. ولا تزال أشعار إليوت تتردد علي ألسنة القراء، وتقتبس منها أجزاء في حوارات وكتابات الأدباء باعتبارها أشهر الأبيات الشعرية في القرن العشرين، التي ما زالت محتفظة بشعبيتها وجاذبيتها حتي الآن. واحتفاًء بالشاعر النوبلي، سيصدر في فبراير القادم كتاب سيرة بعنوان:"إليوت شابا من سانت لويس إلي الأرض الضائعة" للكاتب روبرت كراوفورد، وعن دار نشر "كاب". يحكي من خلاله كيف أصبح إليوت أشهر شاعر في القرن العشرين، وكيف استطاع تغيير طريقة التفكير السائدة وقت ظهوره. والآن، في عام 2015، يتذكر العالم كيف قدم شاعر مهاجر منذ مائة عام قصيدة عنوانها " انتصار الهراء" للنشر في مجلة رئيسية رائدة في لندن، شارحا لرئيس تحريرها كيف اتخذ قرارا بألا تحتوي كلمات تنتهي بأحرف "يو سي كي" أو يو إن تي" أو غيرها من التي درج الشعراء علي استخدامها، وربما كلمة "هراء" أيضا جلبها من موطنه، أمريكا، حيث لم يعثر عليها مطبوعة قبل سنة 1915، إلا أن القصيدة رفضتها، ما اعتبره تزمتا مخيبا للآمال، فهو لم يكن معروفا، ولم يكن ٌقد أتم كتابة أول عمل أدبي له بالرغم من أنه عرض نسختها الأولي علي القليل من أصدقائه بالولايات المتحدةالأمريكية، ثم قرأها بصوت عال علي زملائه بانجلترا، ولاقت استحسانا منهم. لكن رؤساء تحرير اعتبروها تتخطي الجنون، وبعضهم رأي انها "بلا رأس أو ذيل"، إلا أنه لم ييأس، وفي نفس العام استطاع نشر أشهر قصائده من كتابه" بروفروك"، وهي "أغنية حب لألفريد بروفروك" التي نشرت مدسوسة بعيدا في الجزء الأخير من مجلة مغمورة، ربما لعدم اكتراث رئيس التحرير بها، وبعد عامين نشر كتابه الأول. والآن، معظم النقاد يؤكدونها كإعلان ظهور أول نص شعري حداثي في اللغة الإنجليزية. وفي جامعة هارفارد، حيث قضي إليوت معظم سنوات دراسته، سيقام في وقت لاحق من العام الحالي معرض لأعماله بمكتبة هوتون، احتفالا بمئوية صدور "بروفروك". يقول روبرت كراوفورد، مؤلف كتاب سيرة إليوت، إنه في الأشهر الأولي من سنة 1915 استمتع إليوت بذلك العالم الذي كان يعيش به في أكسفورد واصفا اياه بأنه "عالم غاية في الجمال، لذلك لا أحب أن أكون ميتا". كان قد جاء لمواصلة دراسة الفلسفة بالجامعة، إلا أنه شغف حبا بحياة لندن الأدبية، حيث عقد صداقات مع نظرائه وأبرزهم الشاعر الأمريك المفعم بالحيوية، والثاقب الفكر، والفاشي بطبيعة الحال إيزرا باوند، رغم أن والديّ إليوت ساورتهما الشكوك حول أصدقائه البوهيميين، موضحان له توقع عودته إلي "هارفارد" ليصبح أستاذا بها، إلا أن إليوت لم يكن راغبا في ذلك، وما كان يبقيه في انجلترا هو الحب وليس الأدب، إذ ما لبث أن تزوج فيفيان هانج بعد ثلاثة أشهر فقط من تعرفه بها، وهي الفتاة التي كانت برغم عصبيتها تشبهه كثيرا، وكانت راقصة جميلة، محبة للشعر، فرانكوفونية الهوي، وسبق لكل منهما الاارتباط بعلاقات سابقة، وكان زواجهما مخاطرة شجاعة تسببت في كارثة لكليهما. قصة الحب هذه، بعد نصف قرن، يتم تصويرها في فيلم سينمائي هوليوودي بعنوان "توم وفيف". زواج إليوت من فيفيان في الستينيات خلق لديه حالة ذهنية دفعته لكتابة "الأرض الضائعة"، بعدها افترقا بطريقة مؤلمة، حيث أمضت فيفيان باقي حياتها بمستشفي للأمراض النفسية، وهناك كتبت: "أحب تو بطريقة دمرتنا سويا". وبالرغم من أن عنوان سيرته" إليوت شابًا صغيرًا" إلا أنه لم يشعر أبدًا بأنه كذلك. إنها في نهاية المطاف سيرة غير ذاتية، كتبها أحد محبيهي بالاتكاء علي اقتباسات من كتاباته المنشورة وغير المنشورة، مما أضفي عليها حيوية وواقعية. سوف يكون العام الحالي علامة فارقة بالنسبة لإليوت، حيث تظهر في الخريف كتب استغرق جيم كوكو وكريستوفر ريكز فيها فترة طويلة، تضم الأعمال الكاملة له، ليصبح أول عمل يضم الأعمال التي نشرت مع التي لم تنشر من قبل. بعض القراء سوف تصيبهم صدمة حين يعرفون أن من بين أطول أعمال إليوت سلسلة من الأشعار الجنسية، وأخري عنصرية حول الملك بولو وملكته السوداء الضخمة، تتيح الفرصة للطلبة عديمي الخبرة في هذا المجال دراسة ما كان لديه من الغرور الجنسي الذي ساعده علي الترابط مع زملائه في "هارفارد"، والتعرف علي الوجه الآخر من "أغنية حب بروفروك" لم نشهده من قبل، ما يسمح للدارسين بالتعليقات وكتابة الحواشي، التي نشرتها دار نشر جامعة جون هوبكنز، علي شبكة الإنترنت، بالإضافة إلي أوراق طلبة الدراسات العليا عن اليوت حول الفلسفة الألمانية وغيرها. في العقود الأخيرة علي وجه الخصوص، لاحقت إليوت تهمة معاداة السامية، التي نفاها في حياته، لكن في المواد المنشورة أو التي احتفظ بها لنفسه، ثمة ما يستدعي ذلك الاتهام، وهناك دليل واضح علي أن أبويه يشاركانه هذا التحيز. وذات مرة وعد إليوت أنه بعد نشر أعماله الكاملة سينكشف إن كان من بين الأدباء الذين تحدثوا بشكل لا لبس فيه ضد الاضطهاد النازي أم لا. علي أي حال، إليوت ليس قديسًا، وإن كان أخطأ فهو رائع مرارا وتكرارا، ويتمتع بكل من الموهبة الخارقة واستحقاق أن يكون رجل عصره. بالرغم من أن أجيال من الشعراء تنفي ذلك إلا أن تأثيره عليهم كان شيء لامفر منه، ففي انجلترا كان له تأثير واضح علي معظم الأشعار المكتوبة باللغة الإنجليزية، صياغة فيليب لاركن المبتذلة، والصورة الحضرية كئيبة ومعزولة وذكورية، اكتشاف الأرضيات التي رسم خرائطها اليوت، أما تي هيجز فعلي ما يبدو شديد الاختلاف عنه إلا انه انسحب مثل اليوت علي دراسة الانثروبيولوجيا لمساعدته علي كتابة أشعاره، في اسكتلندا "هوف ماكديارميد" أحد رواد الشعراء يكن التقدير لاهمية اليوت وقام بنقل اتجاهاته الشعرية لثقافة أخري. كان إليوت الأكثر ثقافًة من بين شعراء القرن العشرين، حيث درس موادًا صعبة بداية من اللغة السانكترية إلي الرياضيات المتقدمة، والبوذية واليابانية واليونانية الكلاسيكية، وكان يري أن علي الفنان أن يكون في حالة قصوي من التطور الفكري، إلا أنه ايضا كان غارقا في بدائية لافتة للنظر، السفر في عصر معقد عليه أن يكون له تأثير أو علي الأقل انعكاس أو صدي صوت لشيء بدائي، ما أطلق عليه اليوت "ضرب الطبل". وأخيرًا، فبعد مرور 50 عامًا من رحيله، لا يزال إليوت يتمتع بوجود طاغٍ وبصورة ملحوظة. أما "الأرض الضائعة" فلها تأثيرها علي ثقافات مختلفة بداية من بوسطن ومرورًا بباريس ولندن