سيناء، هذا المثلث الذي لم يزل قادراً علي تحدي ومقاومة الموت، رغم كل محاولات الجهلة من الساسة والمتأسلمين، إسقاطه من خارطة هندسة الوطن منذ آلاف السنين، منذ أن اعتبرها الفراعنة منفي لكل خارج علي قانونهم، حتي جعل منها الإخوان وكراً متسعاً ومرعباً للإرهاب، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال شكا في أن سيناء تحظي بمكانة متميزة في قلب كل مصري مخلص، مكانة صاغتها الجغرافيا، وسجلها التاريخ، فسيناء هي التاريخ العريق الذي سطرته بطولات المصريين و تضحياتهم الكبري علي مر العصور لحماية هذه الأرض الثرية بكل مقومات وكنوز الجمال، وثروة ليس في باطن أرضها، أو تحت بحارها فقط، بل في عقول مثقفيها ومبدعيها. لذا أري من الأهمية علي المتتبع لمسيرة الابداع فيها، أن يضع نصب عينيه أموراً من الأهمية الأخذ بها، قبل أن يتملكه الحزن علي ما وصل إليه حال الثقافة فيها، فالحراك الثقافي، بعد مرور أربعة عقود، وما بذل خلالها من جهود لولادته وتطويره، يمكن وصفه بالآخذ في التردي لأسباب قديمة وحديثة،أهمها في تصوري: أولاً: جغرافية سيناء ملازمة بظرفها السياسي، كان لهما الأثر الواضح والجلي في خلق مناخ أدبي خاص طيلة عصور مضت، منذ أن كانت في عصر الفراعنة منفي لكل خارج علي القانون، مروراً بحروب وعمليات عسكرية شهدتها سيناء، أتمني أن تكون حرب اكتوبر المجيدة آخرها. ثانياً: ظروف سياسية مرت بها سيناء، فرضت عليها عزلة حرمتها مواكبة انفتاح مصر الأم علي اوروبا، واكتشاف كتابها فن القصة والرواية. لهذا ظل الشعر الشعبي البدوي الشفاهي سيد الموقف خلال ما يمكن تسميته بمرحلة «الشعراء القدماء« الذين تركوا لنا كماً هائلاً من أشعارهم، وإن كان معظمه قد ذهب معهم، ولم يتبق منه إلا ما استطاع الغاوون حفظه. كما ظل هذا النوع من الشعرالشعبي طاغياً في حضوره في المرحلة الثانية »الجيل الوسيط« تلك التي بدأت بالاحتلال البريطاني لسيناء، ويمثل هذا الجيل حلقة الوصل بين الشعراء القدماء والمحدثين. ثالثاً: ظروف أمنية، جعلت من الموت سيد الموقف، نعيش علي اصدائه البشعة بشكل يومي، وجعلنا غير قادرين حتي علي محاولة الشروع في لملمة جراحنا، وإعادة ترتيب اوراق حياتنا، إذ يصدمنا بين الحين والآخر بخبر يقتلع قلوبنا من جذورها حزناً علي فراق جنود بواسل، أو أحبة، يضيفون لكم خساراتنا فجائع أخري، ووجع يزداد عمقاً. رابعاً: معاناة المشهد الثقافي في شمال سيناء كما في بقية محافظات مصر من غياب الاستراتيجية الثقافية الحقيقية التي تعني بحاضر الثقافة ومستقبلها، إلي جانب عجز المسؤولين في مديريات الثقافة عن تفعيل الحركة الثقافية، وإدارتهم للشأن الثقافي بشكل ارتجالي، ما أثر سلباً علي شكل ومضمون ورسالة الفعل الثقافي، وأدي إلي غياب الحراك الجماعي للفعل الثقافي، وهو ما أثر سلباً علي مكانة وقيمة وأهمية المثقف في الشارع "السيناوي". خامساً: عطب المؤسسة الثقافية الممثلة في مديرية الثقافة، وتقاعسها عن أداء دورها الثقافي النهضوي كما يجب أن يكون، تلك المؤسسة، الذي يعد بناء الانسان والمجتمع السيناويين من أولي مهامها، استبعدت هذا الهدف الذي أسست من اجل تحقيقه في أجندة أنشطتها الوهمية، مكتفية بالإتكاء علي ما تتبناه من طباعة بعض الأعمال الشعرية والقصصية لأعضاء من الجماعة المنتمية إليها، والمرهون إجازتها مسبقاً بمدي نوع علاقة كاتبها بمسئولي مديرية الثقافة. وأغفلت هذه المؤسسة دورها في مواجهة التطرف، الذي ساهمت ومازالت تساهم بإذكاء نيرانه، بعدم سعيها لتدارك ما أهملته علي مر الأعوام السابقة، فهل من مصدق أنه لا يوجد في شمال سيناء بأكملها سوي دار سينما واحدة بمدينة العريش "سندريلا" وهي مغلقة من قبل الثورة، بعد أن هجرها الجمهور بسبب سوء ادارتها، ونوعية أفلامها الرديئة، فضلاً عن تعدد القنوات الفضائية. كما لا يوجد بشمال سيناء مكتبات أومسارح، سوي ما يتبع قصور الثقافة، وقد تمركز أغلبها في مدينة "العريش" عاصمة المحافظة، مثل مكتبات: قصر ثقافة العريش، الضاحية، بيت ثقافة العبور، دار المعارف، والمكتبة العامة. ولا يختلف حال بقية مدن المحافظة الممتدة بامتداد ساحل البحر المتوسط، من رفح شرقاً حتي القنطرة غرباً" إلا في ثلاثة قصور ثقافة في كل من "رفح، الشيخ زويد، بئر العبد" وهي غير فاعلة ما انعكس علي الفعل الثقافي في هذه الأمكنة بشكل واضح. سادساً: انقسام المجتمع الأدبي إلي جماعات، فجماعة الأدب الرسمية وتنتمي إلي المؤسسة الثقافية ممثلة في أندية الأدب"العريش، رفح، البادية" هذه الأندية تعتمد علي فتات ماتوفره المؤسسة من دعم مالي بالكاد يغطي بعض الندوات، أو طباعة بعض الكتب الذي لايرقي مضمون أكثرها الضحل لأن يكون ضمن مجلة حائط مدرسي!. رغم ذلك، استطاع هذا الجيل خلال الثلاثة عقود الماضية، أن يوقعوا حضورهم في المشهد الشعري المصري، منفلتين من عباءة موروث شعري شفاهي، بل متمردين عليه، مع تقديرهم لموروثهم كمرجعية ثقافية ومكانية، مستندين علي تجربة حداثية مغايرة، منفتحين في محاولات فردية، حاولت الانتصار للذات والمكان. لقد أخذ هؤلاء علي عاتقهم رسم خارطة الأدب في شمال سيناء، متحررين من قبضة عزلة جغرافية وسياسية، بدأها المرحوم الشاعرمحمد عايش عبيد لينهي عزلة صنعها محتل بريطاني، أعقبه مغتصب اسرائيلي، حاولا لفترات طويلة طمس الهوية الثقافية لسيناء، ما كان له أسوأ الأثر لعدم إظهار وجهها الثقافي. وهذا ما تنبه له جيل الشباب المحدثين من الأدباء، فكان لكل من الشعراء: محمد عايش عبيد، حاتم عبدالهادي السيد، رمضان الحضري، الدور الريادي في الأخذ بيد أدباء آخرين شكلوا فيما بعد خارطة الأدب، وتفردوا به خارج الحيز المكاني، رغم ما تعرضوا له من صعاب كانت كفيلة بدفعهم ليس علي الإحباط والتراجع فقط، بل بموت عطاءهم الإبداعي، إلا أنهم تغلبوا علي إحباطاتهم واستطاعوا ملء مثالب خارطة الأدب بأجناس أخري غير الشعر، الذي يعد: حسونة فتحي، عبدالقادرعياد،عبدالكريم الشعراوي، أحمد ابوحج، أسعد الملكي، فاطمة موسي من فرسان عاميته. وتراوحت كتابات سالم شبانة، سمير محسن، وبركات معبد، صلاح فاروق بين شعرالتفعيلة والنثر. أما أحمد سواركة، أشرف العناني، ماجد الرقيبة، فقد جاءوا مختلفين نثرياً إلا مع ذواتهم. وهناك من تصدي لعصف رياح الحداثة، مدفوعاً بقناعات لها قوة إيمانهم، بأن لا شعرغيرالفصيح منه، مثل: المرحوم الشاعر محمد عايش عبيد، زكريا الرطيل، محمود فخرالدين. أما فن القصة القصيرة، فقد كان لكل من: حسن غريب، زين الشريف، مصطفي آدم، محمود طبل، عبدالعزيز قاسم تجارب إبداعية يشهد لبعضها بالجودة . ولم يكتف كل من: سعيد رمضان، مسعد أبوفجر، سامي سعد، وكاتب هذه السطور »عبدالله السلايمة« بما أنجزوه من نتاج قصصي، بل حاولوا إثراء المشهد الثقافي في شمال سيناء، خلال العقد الأخير بعدد من الروايات التي ترصد تفاصيل المكان، وتنتصر له. ولكي تكتمل تفاصيل وملامح خارطة الإبداع في سيناء، لابد من الإشارة إلي الفن التشكيلي، فقد استطاعت نخبة من فناني شمال سيناء التشكيليين علي رأسهم الفنان المعروف مصطفي بكير، الوصول بهذا الفن إلي مستوي الإحتراف، حيث حاز علي عدة جوائز أهمها: جائزة مهرجان الفنون التشكيلية لفناني العالم في موسكو عن لوحة »الصمود« وعدة جوائز محلية. ومن المفترض أن يكون هذا حال المسرح، إلا أن حال المؤسسة الثقافية المتردي، ناهيك عن الظرف الراهن التي تمر به مصرنا العزيزة، وما نتج عنه من حالة ضبابية نعيشها جميعاً، قد إنعكسا بوضوح علي هذا الفن الراقي، فاتسعت الفجوة بينه وبين حلم الشارع السيناوي في حركة مسرحية تتماس مع واقعه وتطلعاته. وختاماً، يمكن القول أن المشهد الثقافي في سيناء له بطبيعة الحال خصوصية شأن أي مجتمع آخر ، ولا يعني هذا بأي حال من الأحوال إنفصال مشهده الثقافي عن المشهد الثقافي الوطني العام بكافة ملامحه الثقافية، فهو جزء لا يتجزأ منه، مع الإقرار بأهمية تمايز المكان بعاداته وتقاليده في إعطاء كل أدب محلي نكهته الخاصة به، وما يعد إغناء للمشهد الثقافي الوطني بشكل عام .