كيف تحدث الكاتب الأمريكي الشهير إرنست همينجواي حول الكتابة؟ عادة ما وجد صعوبة في هذا الأمر، ليس لأن لديه القليل ليقوله عنها، بل لإحساسة القوي أن تلك الأفكار يجب أن تبقي داخله دون الكشف عنها، وحتي يتم باستمرار توجيه الأسئلة حولها. هنا مقتطفات من حواراته، يبرز فيها اللهجة اللاذعة التي يرد بها علي الأسئلة، والتي تمثل جزءًا من اعتقاده الراسخ بأن الكتابة شيء خاص ليس بحاجة لشهود، حتي ينتهي من كتابة العمل. طقوس الكتابة يصحو مبكرا أقصاها في السادسة صباحا، ففي هذا التوقيت يكون التركيز في أعلي مستوياته، كما يعتقد. يكتب واقفا علي قدميه بتركيز مطلق مستخدما لوح القراءة للاستناد عليه، يتحرك فقط بتبديل قدميه لتخفيف وزن جسمه من قدم إلي أخري، بينما يتصبب عرقا بغزارة. في حوار نشر في النيويوركر في 13 مارس 1950، قالت ليليان روس إن همينجواي من النادر أن يذهب إلي نيويورك، حيث يقضي معظم الوقت مع زوجته في ريف "لافيستا فيجا" التي تبعد تسعة أميال عن هافانا، وطاقم خدمة من تسعة موظفين محليين، و52 قطة، و16 كلبًا، و100 زوج من الحمام، و3 بقرات. تضيف روس: زيارته لنيويورك دائما ما تكون خاطفة، أو مرورا سريعا في طريقه لمكان آخر. ذات مرة، وهو في طريقه إلي أوروبا، عرج إلي نيويورك لبضعة أيام، وكنت كتبت له قبل ذلك طالبة مقابلته، رد بخطاب علي الآلة الكاتبة بالموافقة، مقترحًا أن نتقابل في الطائرة، مبررا ذلك بقوله:" لأنني لا أرغب في مقابلة أحد لا أحبه بالصدفة، ولا أريد دعاية ولا أن أكون مرتبطا طوال الوقت.. أريد برنامج زيارة يشمل حديقة حيوان "برونكس"، ومتحف "متروبوليتان"، ومتحف الفن الحديث.. مع محاولة حضور معارض "بيتر بروجيل" في "متروبوليتان، و"جويا" و"الجريكو توليدو"، ولا أرغب في ارتياد مقهي ومطعم "توت شور" ، سأحاول دخول المدينة والخروج منها دون الحاجة لإطلاق النار علي فمي". في المطار وصلت طائرة هيمنجواي بعد الظهر، كان في عجلة من أمره للذهاب إلي "مانهاتن"، محتضنا حقيبة أوراق، مشيرًا لاحتوائها علي مخطوطة رواية لم ينته من كتابتها بعد، عنوانها "عبر النهر وإلي الأشجار"، بينما يضم بيده الأخري رجلا قليل الحجم غريب الهيئة، قال إنه رفيق السفر علي المقعد المجاور، كان عائدا من رحلة إلي كوبا وعرفه باسم " مايرز"، بينما "مايرز" يحاول الإفلات من تحت إبطه، وهمينجواي متشبث به برفق، مشيرا إليه: "لقد قرأ كتابي دفعة واحدة طوال الرحلة، وأعجبه الكتاب علي ما أظن" مانحا "مايرز" هزة خفيفة ناظرا نحوه بالأسفل، مبتسما في وجهه، بينما "مايرز" يزأر "واااو"، أكمل هيمنجواي:" الكتاب كان أطول مما ينبغي بالنسبة له، في بدايته كان بطيئا، ثم زادت سرعة أحداثه حتي أصبح من المستحيل أن تتوقف، لقد واصلت تحميله بالأحاسيس والمشاعر لأقصي درجة يمكن تحملها، ثم استقرينا، حتي لا يكون علينا إمداد القراء بخيمة أكسجين، الكتاب مثل الماكينة عليك تخفيف الحمل عنه تدريجيا". هيمنجواي في كوبا تحت هذا العنوان أجري " روبرت مانينج" رئيس تحرير صحيفة "أطلانتيك" حوارا مع "هيمنجواي" ، عندما زاره في "كوبا" سنة 1954 بعد فترة قصيرة من حصوله علي جائزة "نوبل"، وكتب: بالرغم من موافقة همينجواي علي إجرائي حوارا معه بمناسبة فوزه بنوبل، إلا أنه قاوم في البداية لأن إحدي المجلات التي كنت أعمل بها نشرت مقالا اخترقت من خلاله عالم "ويليام فوكنر"حيث قال لي في اتصال هاتفي: " أنتم يا رفاق مزقتم جسده إلي قطع صغيرة". بمرور الوقت استطعت الحصول علي فرصة لمقابلته، بدا أكبر سنا من الخامسة والخمسين عاما التي عاشها حتي ذلك الوقت، قضاها محاولا إنقاذ إحدي كليتيه من التمزق، نصف دستة جروح بالرأس وإصابة بمائتي شظية في كل مكان بجسده، سببت له جراحا متعددة معظمها في يديه وقدميه، ومعاناته من حروق سيئة إثر تحطم طائرته في أوغندا، مع شرخ في إحدي فقرات الظهر. في مطار هافانا، وجدت في انتظاري شابًا كوبيًا يدعي رينيه، اكتشفت فيما بعد أنه تربي في المكان مع هيمنجواي، ويعمل كسائق وساق ومساعد له، حمل أمتعتي التي كانت أهم ما تضمه مجموعة من أسطوانات الفونوغراف الجديدة، أهدتها لي "مارلين ديتريتش" حين علمت أن أحدهم علي وشك السفر لرؤية صديقها الحميم، وتضم آخر تسجيل صدر حديثا لأغانيها يحمل عنوان "روك راتل آند رول". يقع بيته علي بعد ستة أميال من هافانا، بقرية سان فرانسيسكو دي بولا، والذي يمكن اعتباره موطنه، حيث أقام به فترات أطول من منازله الأخري، وهو عبارة عن فيلا من الحجر الجيري مترامية الأطراف، تحيط بها 13 فدانا من أشجار الموز والشجيرات الإستوائية والحدائق المتناثرة في أرجائها بعشوائية، هو الآن متحف تابع للحكومة الكوبية، يعمل به أولاد من كانوا يعملون بالمكان أيام "بابا" كما كانوا يطلقون عليه، يعتنون بالحدائق، ويرشدون السياح للبحيرات حيث كان يمارس السباحة، وحجرة النوم الفسيحة التي كان يكتب فيها رواياته، والبرج الأبيض العالي حيث يجلس للعمل، أو يطل منها علي أرجاء هافانا. يبدو أنه رأي أن وصولي كسائح فرصة للصيد علي مركب تملكه بيلار، بعد فترة من التوقف القسري من الحكومة بسبب تورطه في حادث بحري جنحت خلاله داخل منطقة خطرة، قائلا:"احضر سترة ثقيلة، سوف ترافقني في رحله بحرية، وسأبرر ذلك لماري بأنك جئت لتمزيقي إلي قطع وتقديمي كطعام إلي ويليام فوكنر. وعلي شاطيء الميناء الخلفي لهافانا كان يرسو هيكل حديدي متهالك بفعل الزمن، إلا أن معدات الصيد الثمينة المفترض وجودها به مختفية عن الأنظار، علي جانبه حروف متآكلة تشير إلي اسمه، المكتوب بحروف واضحة علي المقدمة "بيلار"، أعربت "ماري" زوجة "هيمنجواي عن أملها في سحبه إلي البحر وإغراقها قبالة ميناء "كوجيمار" قائلة: "ينبغي ألا يبحر أحد علي بيلار". يا له من رجل ضخم، ذلك كان انطباعي الأول فور رؤيته، بالرغم من جميع الصور الفوتوغرافية والأوصاف التي سمعتها عنه، كان أول ما استرعي انتباهي هو ضخامة جسمه، كان حافي القدمين، عاري الساقين، يرتدي شورتًا كاكياً وتيشيرتًا فضفاضًا، محدقا من عدستي نظارته الفضية المستديرة، مع ابتسامة قصيرة، من ذلك النوع الذي قد يتحول ما يخرج من فمه- الذي يظهر بالكاد من خلال لحيته المشذبة بعناية- في غمضة عين إلي زئير سخرية أو زمجرة غضب، حوّله الكسل إلي كرش كبير، وزنه قد يصل علي الأقل إلي حوالي 225 رطلاً، بينما ليس ثمة ما يشير إلي لياقته البدنية السابقة سوي أنه عريض المنكبين بالإضافة إلي عضلات ذراعيه التي تجعله أكثر شبها بالظهير الأيسر لنادي اتحاد الكرة الأمريكي. وبعد تقديم الشراب، أبدي عدم ممانعته في إجراء الحوار في المساء، لأنه لا يعمل أبدا خلال تلك الفترة، مضيفا: "فرق شاسع بين أفكار الليل وأفكار الصباح، أفكار الليل عادة هباء، العمل الذي تنجزه في الليل دائما تضطر إلي إعادة كتابته بالنهار، علي أي حال، دعنا نتحدث، بالمناسبة، هو مجرد كلام، لكن حين أكتب أعني كل كلمة حرفيا، أحترم الكتابة كثيرا، الكاتب ما هو إلا آلة لفعل الكتابة، وحين يتقاعد عمدا عن الحياة أو يضطر للابتعاد عنها بسبب بعض الخلل أو الضعف، تنحو كتابته إلي الضمور، مثل أعضاء جسم الإنسان حين لا يتم استخدامها، أنا لا أدعو لحياة شاقة لكل الناس، أو أحاول القول إن هناك نوع من الاختيار في شكل الحياة، أي شخص حالفه الحظ أو سوء الطالع أن يصبح رياضيا كل ما عليه فقط أن يحرص علي الحفاظ علي لياقته البدنية، فالجسم والعقل علي صلة وثيقة ببعضهما، فبدانة الجسم يمكن أن تقود إلي بدانة العقل، وكان يجب أن أقول إنه يؤدي أيضا إلي بدانة الروح، لكني لا أعرف شيئا عن الروح! ثم توقف برهة، كما لو كان قوله انعكس علي آلامه وأوجاعه الخاصة، وكرشه العامر، وارتفاع ضغط الدم، ومعاناة مجموعة من عضلاته الكثيرة من الضعف والإهمال، مسترسلا: "علي أي حال، لكل منا طريقته في فقد الوزن أو زيادته، وأعتقد كلنا في الهم سواء" ، وأشار إلي أنه كان يقرأ مؤخرا عن الاكتشافات العلمية حول هذا الموضوع التي أكدت أن اتباع نظام غذائي لإنقاص الوزن إن كان مجديا لشخص فإن ذلك لا يعني بالضرورة صلاحيتها مع آخر، مؤكدا: "كان ذلك مجديا في سنوات ماضية، مع ناس اعتبرناهم مثلا أعلي، لكن اكتشف الأطباء حاليا أن أناسًا معينين يحتاجون ممارسة التمارين الرياضية أكثر من غيرهم، مثلما هناك من يتأثرون بالكحوليات أكثر من غيرهم، وهؤلاء من يتحملون المعاملة السيئة والعقاب بطرق عديدة أكثر من غيرهم، خذ " بريمو كارنيرا" علي سبيل المثال، رجل في الحقيقة لا غبار عليه، إلا أنه كان ضخم الجثة وشديد السمنة لدرجة البؤس، وخذ أيضا "توم وولف" لم يكن قادرا علي الإطلاق علي ضبط لسانه، بما يوازي رجاحة عقله، حيث عجز عن فرض سيطرة عقله علي لسانه، و"سكوت فيتزجيرالد" غير القادر علي شرب الخمر- مشيرا نحو أريكة عبر الغرفة- إذا شرب فيتزيجرالد الشراب معنا عندما تدعونا ماري لتناول العشاء، يفرغ فيتز الطعام فوق قدميه، عادي، لكن بعدها ربما يسقط علي الأرض. الكحوليات مثل السم بالنسبة له، كل هؤلاء الرجال لديهم نقاط ضعف وهي تعزز من مكانتهم تعاطفا ومروءة، أحيانا أكثر من الخالين من العيوب". يتحدث همينجواي قليلًا عن الحاضر، ولا يتحدث أبدًا عن المستقبل، وكثيرا عن الماضي. يتذكر حينما أرسل إلي "سكريبنر" المخطوطة الأولية لروايته "لمن تقرع الأجراس". يقول همينجواي: "أذكر أنني عملت تسعين ساعة علي مخطوطة هذا الكتاب، دون مغادرة حجرة الفندق ولو مرة واحدة، وحين فرغت منها، ساورني شك أن حروفها الطباعية صغيرة جدا، ولن يشتري أحد الكتاب لهذا السبب. حين انتهيت، أغلقت عينيّ، وسرحت، لقد صححت المخطوطة عدة مرات، ولازلت غير راض عنها. حدثت "ماكس بيركنز" عن الحروف الطباعية، فقال إن كنت أري أنها حقًا غاية في الصغر، عليّ أن أعيد طباعتها مرة أخري، وهو في الواقع إجراء مكلف جدا، أتعرف، كان رجلا لطيفا، لكن "ماكس" كان علي حق، الحروف الطباعية علي ما يرام". * هل سبق لك قراءة أعمالك بعد نشرها؟ - أحيانًا أفعل، حين تشعر أن معنوياتك منخفضة، تحس بالمتعة إذا عدت للوراء لتري أنك قادر علي الكتابة. * هل هناك شيء كتبته وتري أنه سيكون مختلفا لو أعدت كتابته مرة أخري؟ -لا شيء حتي الآن - إن كتبت مسرحية عليك البقاء في الجوار تحسبا لإجراء أي تعديل عليها، أو التحايل في النص لتصبح ناجحة تجاريا، وأنت لا تريد الارتباط بذلك طويلا، فبعد انتهائي من الكتابة أرغب في العودة للمنزل والاستمتاع بالوقوف تحت الدش، مقتنصا جيمس جويس قائلا في إحدي المرات قال لي جويس إنه يخاف أن تكون كتاباته مغرقة في المحلية، ما أوحي له بضرورة قيامه بجولة حول العالم كما فعلت. إنه يرزخ تحت وطأة ضغط الانضباط الهائل، كما تعرف، زوجته، عمله، تعب عينيه. نعم زوجته قالت إنه غاية في المحلية، جويس يمكنه الإنجاز بالتركيز علي مسألة صيد الأسود تلك، ما رأيك في هذا؟ مسألة صيد الأسود. همينجواي لم تكن علاقته دافئة مع تي إس إليوت، ويفضل الإطراء علي إزرا باوند، الذي كان في ذلك الوقت محجوزا بمستشفي سان اليزابيث النفسية بواشنطن. يقول الكاتب الأمريكي: باوند أعظم شاعر، وأيا كان ما فعله، فقد عوقب بشدة، وأعتقد أنه يجب إطلاق سراحه لكتابة الشعر في إيطاليا، حيث يحبونه ويفهمونه، فهو أستاذ اليوت، وكنت عضوا بالمنظمة التي أسسها باوند مع ناتاليا بارني، من أجل دفع إليوت لترك عمله في بنك ليصبح حرا في كتابة الشعر. إليوت في اعتقادي كان قادرا علي ترك عمله لكتابة الشعر ومراجعات كتب بحرية، بدعم من آخرين دون الاعتماد علي تلك المنظمة، إلا أن المنظمة كانت نموذجية بالنسبة لكرم باوند، وتهتم بجميع أشكال الفنون بغض النظر عن أي مكاسب يحققها لنفسه أو لاحتمال أن يصبح من يشجعونه الآن منافسين له فيما بعد. يقول همينجواي: أعتقد أن إليوت يستحق العقاب، لكن أعتقد أيضًا أنه سيكون عاما جيدا لإطلاق سراح الشعراء وإتاحة الفرصة لهم لكتابة الشعر، أما باوند، بغض النظر عما يفكر فيه، قد لا يكون مثل دانتي، إلا أنه شاعر كبير جدا بالرغم من أخطائه.