هذا لم يحدث في الفراغ. من حول ربيع كان الشارع السياسي صاخباً بشدة، الكثير من القتل والكثير من الدم. إذن، ماذا لو كنا نتعذب فعلاً، وإذا كان كل ما حولنا أشكال مختلفة من الجحيم، خاصة أن الفكرة التي وصل إليها أن الجحيم قد يكون نفسياً، لا بدنياً. مثلما تفترض البوذية، لا الإسلام ولا المسيحية؟ هكذا سأل ربيع نفسه. "ما احتمالية أن تكون القيامة قامت بالفعل ونحن في الجحيم ولا نعرف؟ في الإسلام والمسيحية واضح أن المعذّبين يعلمون أنهم يعذبون. فقط نزعت موضوع العلم من القصة وكتبت". يفضل ربيع استخدام كلمة "علم" عن كلمة "معرفة"، لأنه في الأدبيات الإسلامية العلم هو ما تم تحصيله عن طريق الوحي الإلهي، وليس المعرفة البشرية، وهكذا، عن طريق وحي غامض، يصل بطل روايته إلي العلم بحقيقة وجوده في الجحيم. "لو افترضنا أن يوم القيامة حل علي العالم وذهب الناس إلي الجحيم ولكنهم لا يعون هذا أو نسوه، فمن المنطقي أن معرفتهم بهذا تكون عن طريق الوحي الإلهي وليس المعارف الدنيوية". ولكن اللحظة نفسها، لحظة العلم هذه، لا يشرحها ربيع بشكل مباشر. هناك أمارات كثيرة في الرواية علي أننا في الجحيم، ولكن قد يكون هذا مجازاً، أو من يقوله مجنوناً. تتزايد الأمارات لحظة بعد أخري حتي يعترف عطارد لصاحبته وهو يتحمم: "نحن في الجحيم يا فريدة. نحن نُعذّب". ولكننا مازلنا علي الأرض أيضاً، وهذه هي النقطة الفاصلة في الرواية. الجحيم هو علي الأرض، والقوانين الأرضية مازالت فاعلة. يلتقي البطل بالطفلة التي تلمسه وعن طريق لمستها يعرف القانون: عليه أن يقتل أكبر عدد من البشر حتي يموتوا ويذهبوا للجنة. ويصبح هذا هدف النقيب أحمد عطارد. قتل أكبر عدد ممكن من البشر من أجل تخليصهم. الأمل موضوع مركزي في أفكار ربيع. السلطة الذكية تعذب الناس بالأمل. هكذا يقرر صاحب "عام التنين"، ومن هنا يصل إلي أن الجحيم يكمن في الأمل: "لو وصلت لليقين بأنك في الجحيم فسيختفي الأمل وسيكون العذاب أخف. العذاب لن يصبح نفسياً وإنما بدنياً فقط". ولكن علي النقيض من فكرة أن العذاب نفسي وليس بدنياً، فمشاهد الرواية البشعة، من دم وأمراض نادرة وتقطيع للجثث وروائح عفنة، كلها تصب في التصور "البدني للعذاب". نعم ولكن لا تنس أن من يتعرضون للعذاب البدني هم الأقلية. الأغلبية الكاسحة هم من يشاهدونهم وهم من يتعذبون بمشاهدتهم. إنسال لم يُعذب بدنياً، ومن شاهدوا الرجل المنتحر لم يُعذبوا بدنياً. هم فقط شاهدوا البشاعة. ولهذا لم أنجذب لفكرة أن يكون الجحيم فردياً، أن يكون لكل شخص جحيمه الخاص، وإنما قررت أن يكون الجحيم خبرة جماعية. الجميع هنا يعيشون في الجحيم. وهناك المتبلدون بالطبع، من لا يأبهون بالبشاعة، وهم من يعرفون أننا في الجحيم. تخيل فكرة أنك تعرف كونك في الجحيم ولا تستطيع الفكاك منه لأن الانتحار سيقدر لك أن تخلد في الجحيم هذه المرة. الجزء الإشكالي في الرواية كان السؤال عن "متي حدث يوم القيامة"، أي: متي دخل البشر إلي الجحيم؟ هذا السؤال لا يرد عليه الكاتب. بشكل ما لم يشغله هذا السؤال كما يقول، وما كان مهماً له هو وصف الجحيم في حد ذاته. ولكن الافتراض الذي نقرأه في الرواية، ويصرح به "القديس"، أن يوم القيامة حدث قبل بدء التاريخ البشري، ومن الوارد جداً أن تكون الحياة الدنيا هي شيء آخر مختلف تماماً عما نعرفه، يسبق التاريخ البشري كما نعرفه، وقد تكون الحروب والصراعات فيها معدومة تماماً. في القرآن آية تصف من في الجحيم بالقول: "كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب". وهذا يعطينا تصوراً عن الجحيم أنه مكون من مراحل، ألم ثم تبلد ثم ألم. كيف تعامل ربيع مع مراحل الجحيم؟ يقول إن كل شيء في الرواية قائم علي فكرة أننا نجهل كوننا في الجحيم، وأن العذاب سينتهي عندما نعرف. وفي النهاية نعرف ثم نبدأ جحيماً جديداً، تُمحي ذاكراتنا القديمة وتبني بدلاً منها ذاكرات جديدة. كانت لديه مشكلة مع جمع "جحيم"، لم يجدها في أي مرجع، وفي النهاية اضطر لاختراع صيغة جمع من عنده. وجُحُم كانت هي الكلمة التي اختارها لوصف مراحل الجحيم. ولكن التفكير في الجحيم لابد أن يرتبط به التفكير في الجنة. فكيف تصف جحيماً بدون أن تكون هناك جنة. وثمة إشارات في الرواية إلي الجنة. فعندما يموت الناس برصاص النقيب يدخلون الجنة، هذا ما أسرت به الطفلة له، ولكن علي الناحية الأخري، فالقديس يتشكك في وجود الجنة، إذا كنا سندخلها ونحن نتذكر الجحيم فسيظل العذاب موجوداً، لأن الذاكرة ستضحي عذاباً في هذه الحالة، وإذا كانت ستُمسح ذاكرتنا فكأن العذاب لم يكن. علي العموم فالجنة لم تشغل بال ربيع وهو يكتب. كان لديه تصور غامض عنها في الرواية وهو أنها تشبه الموت. لا أحد يعرف شعور ما بعد الموت، ولمعالجة قضية ما بعد الموت لجأت الناس إلي الحل الديني ليفسر هذه الخبرة، ولكن المشكلة الحقيقية في الجحيم الذي نعيشه أن الدين لا قيمة له، لو صلي الشخص وكان صالحا فهذا لا قيمة له لأنه قابع داخل الجحيم وانتهي الأمر. ولكن في أحد مشاهد الرواية ينوي عطارد قتل إحدي السيدات، لتخليصها من الجحيم وإرسالها إلي الجنة، ولكن هذه المرأة تستمهله ساعة واحدة. يندهش هو، لماذا لا تبدو متعجلة للذهاب للجنة؟ يجيب ربيع بسخرية، لديها مشاغل تريد إنهاءها في الدنيا ولا تريد التخلص من الجحيم حتي تنهيها. عن الأنا واللغة والكلاسيكية الكتابة بضمير الأنا دائماً تطرح تساؤلات، أولها مثلاً متي كتب البطل هذا الكلام؟ هذا صحيح ولكن لا حل له. وأذكر أن بعض النقاد هاجموا نجيب محفوظ لكونه يضع علي لسان أبطاله جملاً شديدة الفصاحة فكان يسألهم، كيف تريدونني أن أكتب إذن؟ ولكن في المقابل، فالقصة الخاصة بعطارد هي المكتوبة بضمير الأنا، علي عكس القصة الخاصة ب"إنسال"، والمكتوبة علي لسان الراوي العليم ولا مكان فيها للثغرات، وأنا أحببت ضمير الأنا لهذا بالتحديد، بسبب الثغرات الموجودة في القصة والأسئلة التي لا إجابة عليها. ثغرات وأسئلة مثل ماذا؟ مثل كل الأسئلة التي سألتها لي. متي عرف أنه في الجحيم، متي حدث يوم القيامة، وغيرها. لو كانت قصة عطارد مكتوبة بضمير الراوي العليم لم يكن ليصبح هناك مكان لأسئلة كتلك. وعموماً، الخطأ الأكبر الذي أراه في موضوع الكتابة بضمير المتكلم هو معرفته بما فيه داخل الناس. ضمير المتكلم حدوده تقف عند داخله هو فقط. وغالباً عندما يكتب الكاتب بضمير المتكلم يستبطن في داخله صوت بطله ويعي تلقائياً بحدوده. في رواية "كوكب عنبر"، استخدمت ضمير المتكلم أيضاً، ولكن كوكب عنبر لم تكن تحوي الأفكار التي طرحتها في "عطارد". اللغة في الرواية منضبطة بشكل كبير. ألم يكن لديك إغواء اللعب باللغة؟ انضباط اللغة حدث بشكل لا واعي. فكرت في جيلنا وفي جيل نجيب محفوظ. عند محفوظ لا تجد ثغرة في الرواية. كان عندي انطباع أن إحدي الصعوبات هي كتابة لغة منضبطة جداً وعندما لا يكون هناك مفر تخترع كلمة مثل "جحم" مثلاً. الضبط هنا كان له علاقة بأني رغبت في كتابة رواية كلاسيكية. كلاسيكية بمعني..؟ أفكر مثلا في "زقاق المدق" بوصفها رواية كلاسيكية. هي ليست قديمة وإنما كتبت في القرن العشرين، وليست أول رواية عربية تُكتب، ولكنها مع هذا شديدة التماسك. ولكن هناك تفسيراً آخر، أنه لا يمكن تقديم عالم شديد الغرابة مع لغة غريبة في الوقت ذاته. يوافق ربيع علي هذا التفسير ويستشهد بستيفن كنج الذي كان يقول إنه يكتب إما شخصيات منطقية في عالم غير منطقي أو شخصيات غير منطقية في عالم منطقي. مع هذا هناك روايات أخري مثل "حكاية العين" لجورج باتاي، والذي قدم فيه نصاً شديد الغرابة من كل نواحيه، ولكن هذا استثناء شديد الندرة. من أين تأتي البشاعة فكرة العيش في الجحيم لدي ربيع لم تكن مجردة، كانت مرتبطة بما حدث خلال السنوات الماضية: "كل البشاعة في الرواية كانت انعكاساً للبشاعة الدائرة حولنا، كما يقول، كان هناك عنف شديد جداً، والقتل كان مشاعاً ولم يكن علي الهوية مثلاً. والمذهل بالنسبة لي أنه كان هناك من برروا لمقتل الناس بوصفه شيئاً عادياً. تطورت الفكرة لديهم أن هؤلاء يقتلون حتي نعيش نحن. وهذه فكرة مذهلة بالنسبة لي ولا أستطيع العثور علي منطق لمن ينادي بها ولا أستطيع تصديق أنه يصدق هذا. هذا شخص لم تعرفه ورأيته يُقتل وأنت تجلس أمام التليفزيون فكيف تبرر لمقتله؟ هذا ما حرك الموضوع. بالإضافة لهذا، أضاف ربيع لروايته فصلاً عن صخر الخزرجي، ذلك الفتي الذي مات عام 455 هجرية، ثم بعث ليخبر الناس أننا في الجحيم. أهمية هذا الفصل هي التأكيد علي فكرة أن البشر يعيشون في الجحيم منذ الأزل. هذا الفصل اختصر منه ربيع كثيراً بعد ملاحظات متطابقة من الشاعر ياسر عبد اللطيف والناشر حسن الياغي، كما حذف فصلاً خيالياً تماماً يحدث في عالم مختلق بأكمله. كان ربيع واعياً بأنه يكتب رواية "ثقيلة" علي المتلقي. ولكن الحل لم يكن في تخفيف بشاعتها بعض الشيء، وإنما في تسريع الإيقاع، وهذا ما نصحه به ياسر عبد اللطيف. حذف ربيع كثيراً وغير كثيراً. ما كان يهمه أن يكتب بإيقاع يجعل القارئ يلهث. لا برهة بين جحيم وجحيم. استوحي ربيع أغلب صوره من الحياة الحقيقية. ولكنه يستفيض في الحديث عن صورة بعينها. مخدر "الكربون" الذي يتخيل وجوده في العام 2025، وهو مخدر يقوم علي تدخين الحشرات من النمل والجعارين. يحكي ربيع أنه قرأ تحقيقاً قديماً في جريدة الأهرام عن إدمان المخدرات الغريبة، ويذكر منها شيئين، واحدة تستنشق الصابون بسبب رائحته المنعشة وذات مرة قضمت منه قضمة فأعجبتها ثم أدمنت مذاق الصابون، وشخصاً كان يعيش في المقابر وكانت هناك نملة تمر من تحته وهو يدخن ووضع النملة في طرف السيجارة ودخنها ف"عمل دماغ"، ولغرابة الموضوع لم ينتبه له أحد حتي كتب الصحفي قصته.