قبل سنوات حصلت علي عمل كمترجم في شركة النفط الوطنية الإسبانية. كان عقداً وقتياً يعتمد اعتمادا كلياً علي حجم الوفود العربية التي لبلدانها علاقة بالشركة. آنذاك اقتحم الأمريكان بغداد ومضت سنة علي تشكيل أول حكومة عراقية، وكان أن سارعت الشركات العالمية لمد يد التعاون مع الحكومة لغرض كسب عقود مستقبلية، ومنها بالطبع إسبانيا. من هنا جاء اتصال الشركة الإسبانية بي، فالنية أن أعمل عندهم مترجماً مرافقاً للوفد العراقي الذي سيصل مدينة برشلونة في الأيام القادمة. أخبرتني سكرتيرة الشركة (من صوتها خمنت أنها شابة، وهذا ما لمسته بعيني بعد ذلك) بأن العقد قد يطول تبعاً لحجم وعدد الوفود القادمة، وأضافت أن علي التواجد في مدينة برشلونة لخمسة أيام في الأسبوع. كنت أعيش في مدريد، المدينة التي لم أغادرها إلا لأوقات قليلة، من هنا جاء العمل في برشلونة بمثابة اختبار لي، هل أستطيع مغادرة مدينة عشت فيها لأكثر من عشرين عاماً؟ وجدت نفسي في مواجهة معضلة لا فرار منها، وهو القبول فوراً ودون مماطلة، إذ كنت عاطلاً عن العمل وفي حاجة لتمرير أيامي المدريدية بدخل معيشي جديد لطالما فرص العمل في العاصمة أصبحت صعبة يوماً بعد آخر. فكرت أن عملاً مثل هذا سيقيني محنة التشرد والحاجة لأشهر قادمة إذا ما وفرت من رواتب إقامتي وعملي في برشلونة كمترجم لوفد عراقي لا أعرف عنه أي شيء ولم أسع لمعرفة أي شيء عنه طوال تواجدي معهم. الحقيقة أنني كنت سعيداً طوال إقامتي في برشلونة، لم يكن العمل صعباً بالمرة، كما أنني لم أمارس الترجمة إلا في مواقف معدودة، لإن أغلب الحوارات كانت تتم بينهم بالإنكليزية، مما حصر دوري علي مرافقتهم هنا وهناك وأن أكون دليلاً لهم في المدينة فيما لو احتاجوا لشيء ما. مرات عديدة تساءلت عن جدوي وجودي معهم لطالما حاجتهم لي كمترجم ضئيلة جداً؟ كانت الوفود تمضي يومها في دورات تدريبية طوال اليوم تقريباً، مما أتاح لي فرصة التعرف علي مدينتي الجديدة وقضاء الوقت في التسلية والتفرج والتمتع بمناظرها حتي إن منْ كان يراني آنذاك كان سيحسبني واحداً من سياح المدينة. دفتر صغير وكتاب وكاميرا تصوير ترافقني في تجوالي، وكنت لا أفكر بالوفد ولا التزاماتي حتي ساعة العودة بهم للفندق علي ان يرتاحوا لنعاود الكرة لليوم التالي. ما كان يقض مضجعي هو التنقل ما بين مدريدوبرشلونة، فالعقد يتطلب مني التواجد لخمسة أيام واستراحة يومين في نهاية الأسبوع أمضيها في شقتي في مدريد. مع مرور الوقت تكاسلت في صعود القطار أو الطائرة من برشلونة إلي مدريد والعودة به، وفكرت أن أستأجر غرفة في بيت مشترك أمضي فيه كل أيامي في برشلونة حتي ينتهي عقدي مع شركة النفط الوطنية. كنت قد أبديت رغبتي هذه لسكرتيرة الشركة علي أن تساعدني في إيجاد غرفة سكنية لي، ولكن (لنمنحها هنا اسماً وهمياً هو آماليا) أخبرتني أنه لا داع لذلك ويمكنني أن أتقاسم العيش معها في شقتها. نسيت أن أقول إنني بمرور الأيام في برشلونة، كنت أمضي وقتاً طويلاً برفقة آماليا سواء في الشركة نفسها أو خارجها، وبالتتابع توطدت علاقتنا وشعرنا بانجذاب الواحد للآخر، حتي أننا شعرنا وكأننا زوجان أمضيا العمر كله في بيت واحد. كانت من النوع اللطيف، قليلة الكلام وعملية في شؤون الشغل وفي الحياة نفسها، لذا لم يمر وقت طويل حتي عرف الجميع بعلاقتنا. أيام العمل كلها كنت أعيش معها في شقتها ماعدا نهاية الأسبوع الذي أمضيه في مدريد، من هنا جاء ردها بأنني يمكنني الإقامة معها بشكل دائم ولا داعي للتنقل ما بين مدريدوبرشلونة. لم يكن بي حاجة لغرفة لي لوحدي، لذا وافقت علي نقل أغراضي القليلة ومشاركتها غرفتها التي ستصبح بمرور الوقت غرفتنا المشتركة. بعد أشهر من عملي برفقة الوفود العراقية، شكلتُ لي ما يشبه حياة مستقرة نوعاً ما، وقطعت الصلة بمدريد جذرياً، خاصة بعد أن تلقيت إخطاراً من مالك شقتي في مدريد يخبرني بأنه قد رمي بأغراضي خارج البيت وأجر الشقة لشخص آخر بعد شهرين من اختفائي وعدم تسديد الدين الذي بذمتي. لم أندم للحظة علي ذلك، كما أن أغراض شقتي المدريدية لم تكن بالأهمية الخاصة، مجرد أدوات منزلية رخيصة وعدة طبخ ولوحات مزيفة كنت قد زينت بها الجدران وبضعة كتب لا أذكر من عناوينها شيئاً، كلها يمكنني الاستغناء عنها دون أن يرمش لي جفن. شعرت بالارتياح حقيقة، وبدأت أستمتع بحياتي البديلة في برشلونة والتي راحت تتجذر وتبني لها علاقات ومعارف وأماكن مألوفة. كنت في تواجدي الطويل في برشلونة قد صنعت لي عالماً آخر، تعرفت علي المدينة حتي حفظت طرقها وشوارعها وناسها وشرعت بتعلم لغتها الثانية الكتالانية وأصبحت مشجعاً شرساً أحرص علي حضور كل مباريات نادي برشلونة. لم أكن أشعر بغربتي فيها أو علي الأقل كان إحساسي هذا هو المسيطر خلال إقامتي التي بدأت تقترب من إتمام عامها الأول. الأهم في كل هذا أنني كنت متأكداً تماماً بأن برشلونة ستكون مدينتي إقامتي الأبدية، حتي أننا فكرنا (آماليا وأنا) بشراء شقة صغيرة وإنجاب طفل في السنة القادمة. بعد مرور عام علي إقامتي في برشلونة حصلت علي إجازة لأسبوع وأخبرت آماليا أن علي السفر لمدريد لإنهاء بعض الأوراق المتعلقة، وكان القرار أن أمضي ثلاثة أيام لأعود بعدها كي نتزوج ونسافر إلي مدينة ساحلية للاسترخاء. في اليوم التالي حملت حقيبتي الصغيرة ومضيت حتي المطار كي أستقل الطائرة الذي ستحملني في ظرف ساعة واحدة حتي العاصمة مدريد. هناك أمضيت اليومين الأولين في الركض وراء تجديد مستمسكاتي القانونية والوقت المتبقي قبل عودتي مررت فيه للسلام علي بعض المعارف في المدينة كما أكلت في مطعم في حي المهاجرين أكلة عربية دسمة لم أتذوق مثلها منذ زمن. لم اكترث بالمرة بالتجوال في المدينة التي عشت فيها أغلب سنوات حياتي، لم ينهشني الفضول ولا الرغبة بمطالعة ما تركت منذ سنة. في صباح اليوم الثالث كنت من جديد في صالة المطار، وصلت قبل ساعتين من موعد الإقلاع، فكان أن شحنت حقيبتي وجلست أنتظر مرور الوقت حتي النداء الأخير. هل هناك ما يمكن أن نسميه وخزة في القلب لتنتقل بشكل سريع حتي الرأس في ظرف دقائق؟ هل هناك هزة ولو خفية تنقلك من شخص ينتظر إقلاع طائرته إلي شخص لا يهتم بأي نداء؟ لا أعرف... ما أعرفه أنني قد بقيت واجماً، راكزاً كصخرة في مقعدي في صالة الانتظار لا أمل لي في كل هذه المتاهة المطارية غير التمعن بالوجوه القادمة والمغادرة والتي يمتلئ بها المطار. كنت شديد الانتباه لكل حركة وصوت يبدر في المطار إلا صوتي الداخلي وحركتي الجافلة، فقد كانا في عالمهما الذي لا أميز فيه مخرجاً ولا تعبيراً معيناً يدلني عما جري لي. لم أتحرك رغم النداء الأخير لطائرتي ولم أفكر بشيء. أغمضت عيني ورحت أدندن بكلمات أغنية قديمة، لا أتذكر متي سمعتها، غير أنها نبضت في رأسي بشكل مباغت وراحت تملي عليّ كلماتها:" إيه أيها الغريب، أيها الغريب، أيها الغريب، لن تجد راحة لقدميك... إيه أيها الغريب!". بعد أن عجزوا عن إيجادي والنداءات الأخيرة بإسمي ماتزال تطن في أذني بعد ورأيت بوضوح أن طائرتي قد