استقرار أسعار الذهب محليًا رغم القفزة عالمية بفعل قرار أمريكي مفاجئ    "إنستاباي" ينهي تحديثاته الدورية بنجاح وعودة جميع الخدمات للعمل بكفاءة كاملة    مواقع التواصل : وفاة طبيبة امتياز بقصر العينى بسبب ضغوط العمل جريمة جديدة لحكومة الانقلاب    التشكيل الرسمي لمواجهة المقاولون العرب وزد في الدوري الممتاز    تفاصيل تزوير بيانات نجاح 7 طلاب بمدرسة فنية في قنا    بأقل من 695 ألف جنيه.. أرخص سيارة أوروبية جديدة في مصر    انطلاق البرنامج التدريبي «تفعيل التوقيع الإلكتروني» بمنطقة سوهاج الأزهرية    مصر ترحب بالتوصل إلى اتفاق سلام بين جمهوريتي أرمينيا وأذربيجان    مستشار خامنئي: إيران تعارض نزع سلاح حزب الله    رئيس لبنان: دماء شهدائنا الأبرار لن تذهب هدرا وستبقى منارة تضيء طريق النضال    الملتقى الأول للقادة يستضيف اللواء أ.ح دكتور سمير فرج محافظ الأقصر الأسبق    محافظ الإسماعيلية يُكرِّم اسم "محمود سرواح" ويُثني على نجاح مهرجان المانجو    محاضر للمخالفين.. ضبط 13.5 طن لحوم ودواجن فاسدة بالجيزة    انضمام ديف باتيستا إلى طاقم عمل فيلم ROAD HOUSE 2    ب"فستان أنيق".. أحدث ظهور ل نرمين الفقي والجمهور يغازلها (صور)    الصحة: إجراء 1350 تدخل قلبي دقيق ومعقد «مجانًا» بمستشفى الشيخ زايد التخصصي    البطيخ أم الشمام أيهما أفضل لتحسين الهضم؟    جامعة بنها الأهلية تعقد 3 شراكات تعاون جديدة    «بتحصل كتير في الأهلي».. تعليق ناري من نجم الزمالك السابق على واقعة شيكو بانزا    شيخ الأزهر يلتقى عدد من الطلاب ويستذكر معهم تجربته فى حفظ القرآن الكريم فى "كُتَّاب القرية"    انتشال جثة طالب غرق فى نهر النيل بالبلينا سوهاج    السجن المشدد 7 سنوات للمتهم بخطف طفلة والتعدى عليها بالشرقية    «اتفق مع صديقه لإلصاق التهمة بزوج خالته».. كشف ملابسات مقتل شاب بطلق ناري في قنا    حبس مزارع وشقيقته تسببا في وفاة زوجته بالشرقية    «المستلزمات الطبية» تبحث الاثنين المقبل أزمة مديونية هيئة الشراء الموحد    وزير المالية: حريصون على الاستغلال الأمثل للموارد والأصول المملوكة للدولة    نائب رئيس هيئة الكتاب: الاحتفال باليوم العالمي لمحبي القراءة دعوة للثقافة    اليوم .. عزاء الفنان سيد صادق بمسجد الشرطة    وزير الإسكان ومحافظ القاهرة يتفقدان مكونات مشروع حدائق «تلال الفسطاط»    ترتيب الدوري المصري بعد منافسات اليوم الأول.. المصري في الصدارة    محافظة الجيزة: أنشطة وبرامج مراكز الشباب من 10 إلى 15 أغسطس 2025    ضبط 4 مليون جنيه حصيلة الإتجار غير المشروع بالنقد الأجنبي    استلام وتركيب 24 كرسي متطور بمستشفى أسنان جامعة سوهاج    الصحة: إحلال وتجديد 185 ماكينة غسيل كلوي    رغم الغضب الدولى ضد إسرائيل.. قوات الاحتلال تواصل قتل الفلسطينيين فى غزة.. عدد الضحايا يقترب من 62 ألف شخصا والمصابين نحو 153 ألف آخرين.. سوء التغذية والمجاعة تحاصر أطفال القطاع وتحصد أرواح 212 شهيدا    تتبقى 3 أيام.. «الضرائب» تعلن موعد انتهاء مهلة الاستفادة من التسهيلات الضريبية المقررة    "إكسترا نيوز" تذيع مقطعًا مصورًا لوقفة تضامنية في نيويورك دعمًا للموقف المصري الإنساني تجاه غزة    أخبار الطقس في الإمارات.. صحو إلى غائم جزئي مع أمطار محتملة شرقًا وجنوبًا    نيوكاسل يرفض رحيل إيزاك إلى ليفربول    تفاصيل حفل تامر عاشور بمهرجان العلمين    بحضور صفاء أبوالسعود.. تعرف على موعد افتتاح ملتقى فنون ذوي القدرات الخاصة    رئيس الوزراء يوجه بالاهتمام بالشكاوى المرتبطة بارتفاع درجات الحرارة    تمويلات خارجية وتقنيات متطورة.. خطة الإخوان لغزو العقول بالسوشيال ميديا.. الفوضى المعلوماتية السلاح الأخطر.. ربيع: مصانع للكراهية وتزييف الوعى..النجار: ميليشيا "الجماعة" الرقمية أخطر أسلحة الفوضى    ما هو الصبر الجميل الذي أمر الله به؟.. يسري جبر يجيب    زوجة أكرم توفيق توجه رسالة رومانسية للاعب    أحمد كريمة: أموال تيك توك والسوشيال ميديا حرام وكسب خبيث    رسميًا.. مانشستر يونايتد يضم سيسكو    ارتفاع أسعار البيض اليوم السبت بالأسواق (موقع رسمي)    الري: 32 مليون متر مكعب سعة تخزينية لحماية نويبع من السيول    موعد انطلاق الدعاية الانتخابية في انتخابات "الشيوخ" بجولة الإعادة    خلال استقباله وزير خارجية تركيا.. الرئيس السيسى يؤكد أهمية مواصلة العمل على تعزيز العلاقات الثنائية بين القاهرة وأنقرة.. التأكيد على رفض إعادة الاحتلال العسكرى لغزة وضرورة وقف إطلاق النار ورفض تهجير الفلسطينيين    «100 يوم صحة» قدمت 37 مليون خدمة طبية مجانية خلال 24 يوما    مكتب التنسيق الإلكتروني بجامعة العريش يستقبل طلاب المرحلة الثانية    أزمة سياسية وأمنية فى إسرائيل حول قرار احتلال غزة.. تعرف على التفاصيل    موعد مباراة مصر واليابان فى بطولة العالم لناشئي كرة اليد    فتوح : قرار حكومة الاحتلال إعادة احتلال غزة كارثة وبداية تنفيذ خطة تهجير وقتل جماعي    تنسيق المرحلة الثالثة 2025.. توقعات كليات ومعاهد تقبل من 50% أدبي    علي معلول: جاءتني عروض من أوروبا قبل الأهلي ولم أنقطع عن متابعة الصفاقسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات الأخبار
في الطريق الطويل.. إلي البروفيسور


جمال الغيطانى
قرأت الخطاب المرسل من مايكل سيلز أستاذ الأدب العربي بجامعة شيكاغو وأجبته بالموافقة، غير أنني لم أكن أعرف ما تخبئه لي المقادير
قبل سفري إلي شيكاغو للمشاركة في الحفل التذكاري للراحل فاروق عبدالوهاب وصلني خطاب من البروفيسور مايكل سيلز فيما يلي نص ترجمته
أكتب إليكم في إطار متابعة حديثكم مع الدكتور فاروق مصطفي حول مبادرة ميلون للدراسات الإسلامية وبرنامج الزيارة الأستاذية في إطار المبادرة. وفي هذا الصدد يشرفني أن أحيطكم علماً بترشيح لجنة تسيير المبادرة (د. فريد دونر ود. ديفيد نيرنبرج ود. طاهرة قطب الدين وأنا) لشخصكم الكريم لشغل منصب أستاذ زائر، وهو الهدف من خطابي هذا لكم.
لقد سعدت للغاية لما أخبرني به د. فاروق بشأن استعدادكم للانضمام إلينا في الخريف القادم، فقد سبق لي التشرف بلقائكم في السومبوزيوم الذي أقيم بجامعة اكسفورد منذ عدة أعوام مضت عن ابن عربي، وأسعدني الحظ بالتمكن من قراءة روايتكم «حارة الزعفراني» مع د. فاروق خلال فترة انتظامي طالباً للدراسات العليا بجامعة شيكاغو عام 1981.
بالنسبة لبرنامج الأستاذية الزائرة، فمن المنتظر أن يمتد لثلاث سنوات من خلال تصور تم تصميمه كي يدعم التوسع ويحسن من دراسة الإسلام في جامعة شيكاغو علي أن تتم إدارته من كلية اللاهوت، فهي مبادرة تشمل أقساماً متعددة من أقسام الجامعة تهدف لخلق نقاش مستدام في أروقة الجامعة حول مستقبل الدراسات الإسلامية من خلال رؤية شاملة لدراسة الدين والأدب والحضارات الإسلامية، وذلك من خلال استحضار الدارسين والمثقفين المتميزين إلي جامعة شيكاغو لإثراء اجتهاد الجامعة الأكاديمي في جامعة شيكاغو.
في هذا الإطار فإننا ندعوك لقبول ترشيحنا لكم للعمل أستاذاً زائراً في جامعة شيكاغو للتدريس إلي طلبة الدراسات العليا خلال الفصل الدراسي الثالث لعام 2013 والذي يبدأ رسمياً في 30 سبتمبر حتي 14 ديسمبر من العام ذاته، كما يسعدنا أن يتضمن إسهامكم إعطاء محاضرة عامة في الجامعة وتنظيم ورشة عمل حول موضوع يمثل لأعمالكم ورؤيتكم اهتماماً خاصاً
المخلص
مايكل سيلز
أستاذ كرسي بارو للتاريخ والأدب الإسلامي وأستاذ الأدب المقارن
جامعة شيكاغو
قرأت الخطاب وأرسلت موافقتي، غير أنني لم أكن أعرف ما تخبئه المقادير.
***
عدت إلي القاهرة في أوائل يونيو العام الماضي، في المطار جرت واقعة تحدث معي لأول مرة منذ أن بدأت سفري إلي الخارج عام 1973، إذ فوجئت في الدائرة الجمركية بشخص ضخم الجثة، سوقي اللهجة يتقدم مني متحدثاً بصوت مرتفع:
«إنت بتهاجم الإخوان ليه؟»
في البداية لم أستوعب، كثيراً ما يحدث أن شخصاً يستوقفني في الطريق، في مقهي ليناقشني في الشأن العام، بل إنني في الطائرة، قبل أن تقلع من مطار جون كيندي جاء أحد المضيفين وسألني عن موقف المثقفين الذين أنتمي إليهم المعارض من الجماعة، أبديت له وجهة نظري التي لم أكف عن كتابتها، والحق أن الرجل كان مهذباً رغم انتمائه أو تعاطفه الواضح مع الجماعة، في الدائرة الجمركية خلال عودتي ألقي ترحيباً وحميمية من الموظفين الذين أصبحت أعرف ملامحهم بل أسماء البعض، أحياناً نتحدث للحظات، لكن هيئة هذا الرجل بدت غريبة غير معتادة، ومع استمرار الحوار انتبهت إلي التهديد المبطن والذي أصبح صريحاً في النهاية، علمت أنه أحد الموظفين في الجمرك وأنه انضم مؤخراً إلي حزب الحرية والعدالة، واضح أنه كان يرهب الحاضرين الذين شهدوا الموقف، اتصلت بزميلي وصديقي أسامة شلش، رويت له ما جري، قام بعدة اتصالات أكدت المعلومات التي عرفتها، الشخص نفسه لا يعنيني، إنه مجرد أداة، لكن دلالة ما جري، إضافة إلي حادث سابق علي سفري، عندما هوجمت السيارة المخصصة لي من دار أخبار اليوم في الصباح الباكر وتمكن اثنان من راكبي الدراجات البخارية من تحطيم زجاجها تماماً وأفلت السائق بأعجوبة، نُشر ذلك في الصفحة الأولي للأخبار، الرسالة واضحة، لقد أدركنا السيارة التي تستخدمها وهي فارغة، في المرة القادمة سندركها وأنت فيها، في تقديري أن الحكم الإخواني الفاشي العنصري لو استمر بضعة أيام بعد الثالث من يوليو كانت ستبدأ عمليات عنف مروعة ضد أصحاب الرأي، كانت مصر تمر بفترة حساسة جداً وخطيرة، وكان الحراك الشعبي ينمو، وبدت حركة تمرد كرمز باعث علي الأمل وقتئذ، في هذه الأيام التي تشكل الشهر الأخير من الاحتلال الإخواني بدت مصر علي مفترق طرق، كان المناخ العام ملتهباً والمقاومة تتخذ أشكالاً مختلفة، في هذا الوقت بدأت عندي مشكلة صحية ربما تكون الأخطر التي مررت بها في حياتي رغم إجرائي لعمليتين خطيرتين في القلب، هكذا تكالب عليّ العام والخاص
نوم عميق
بدأ ذلك بعد عودتي من الولايات المتحدة بأيام، إذ بدأت ألاحظ استغراقي في النوم بدرجة لم أعتدها من قبل، نوم عميق، غميق، أتنفس خلاله وكأنني تحت المحيط، في البداية ظننته الإرهاق والتوتر، لكن مع تزايد الحالة، اضطررت إلي الاتصال بالدكتور جلال السعيد الذي يشرف علي أحوالي منذ حوالي أربعين عاماً، خلال هذه المدة الطويلة نشأ بيننا جسر من المودة والمحبة والثقة من ناحيتي، أي عرض يبدأ عندي حتي وإن لم يكن له صلة بالقلب لابد أن أبدأ به ومن ثم يوجهني، اتصلت به، وصفت له الأعراض بدقة، النوم الغريب العميق، فقدان الشهية، كالعادة قبل أن أراه نبدأ بتحليل للدم، أرسل إليّ الدكتور أيمن أحد مساعديه، أخذ العينات المطلوبة، كان ذلك في الصباح الباكر، في المساء، كنت مستغرقاً في هذه الحالة التي تشبه تنفسي من تحت الماء، رن جرس هاتف المحمول، كان الدكتور جلال السعيد علي الطرف الآخر، أعرف صوته جيداً، بقدر خبرته الطويلة في الحنو علي المريض والرفق به، أخبرني أن هذا مما تعلمه من أساتذته، ذلك الجيل الرائع الذي كان يشكل ما أسميه مدرسة الطب المصرية التي مازال لها أعلام كبار، منهم الدكتور محمد غنيم، الدكتور مجدي يعقوب، الدكتور أحمد عكاشة، وكان من الجيل الرائد نجيب محفوظ طبيب الولادة وياسين عبدالغفار والظواهري والأخوة أنور وعلي المفتي وبول غليونجي ومحمد الفقي وقائمة طويلة من الأسماء الكبري، إنما أردت فقط أن أضرب أمثلة، بقدر حرص جلال السعيد علي الرفق بقدر حرصه علي الصراحة، الحديث عن الوضع الحقيقي بكلمات مقتصدة، لا لف فيها ولا دوران. طلب مني أن أنزل فوراً وأمضي إلي مستشفي البرج بالمهندسين، وأنه طلب من الدكتور حسن مديره أن يجهز كمية من الدم لنقلها الليلة، قال إن الهيموجلوبين يسجل نقصاً حاداً، المهم الآن نقل الدم وبدءاً من الصباح غداً سيبدأ البحث عن سبب هذا النقص.
أصغيت إلي ما قاله وكأن الأمر يخص شخصاً آخر، لقد وصلت بعد عدة تجارب مع المرض إلي درجة من تقبل أي وضع، المهم، بذل محاولة العلاج، وإلا.. فلتكن مشيئة الله، وصلت المستشفي ليلاً، كنت أفكر في نقل الدم، أذكر أنني عندما أفقت من التخدير العميق بعد إجراء عملية القلب الثانية، كان الدكتور فوزي اسطفانوس أستاذ التخدير من أول الذين رأيتهم في العناية المركزة والمستشار الطبي أحمد كمال بسفارتنا في واشنطن والذي جاء إلي كليفلاند لمتابعة العملية، أذكر أن الدكتور فوزي قال: الحمد لله.. العملية كبيرة لكننا لم نحتج إلي نقل الدم، أعتبر أن نقل دم خلال الجراحة المعقدة والطويلة علامة إيجابية، ها أنذا ماض لنقل دم ينتمي إلي من لا أعرفه، لقد تبرعت مرات عديدة في حياتي بالدم، لكنني لم أتلق نقطة واحدة، ها هو قرار الطبيب الذي لا يمكن مناقشته.
لم أطل، سأكتفي بإيراد نقاط تشبه العناوين لهذه الفترة الصعبة علي المستويين العام والخاص، بدأ إجراء فحوصات لمحاولة معرفة السبب في نقص الهيموجلوبين أو ما يُعرف بالأنيميا الخبيثة، نقل الدم يومياً، الدم المنقول لا يعالج الأصل والسبب، يشبه المسكن، تزايد الحراك الشعبي ضد الإخوان، أخرج من المستشفي إلي البيت، أتردد علي اعتصام المثقفين في وزارة الثقافة، أشارك في الجمعية العمومية لاتحاد الأدباء يوم الجمعة الرابع والعشرين من يونيو والتي قادها محمد سلماوي واتخذ فيها أول قرار بعزل محمد مرسي، الثلاثين من يونيو أمضي إلي وزارة الثقافة، أخرج مع المثقفين للانضمام إلي الخروج الأسطوري للشعب المصري ضد الاحتلال الإخواني، الثالث من يوليو رموز الأمة في إعلان خارطة الطريق بقيادة الفريق أول عبدالفتاح السيسي، العاشر من أغسطس أعود إلي مستشفي البرج لإجراء مزيد من الفحوص ولنقل دم، الرابع عشر من أغسطس يوم خميس، معارك بالرشاشات في الشوارع المحيطة بالمستشفي، استمرار المعارك يومي الجمعة والسبت، رأيت بعيني إخوانا ملثمين يتخذون أوضاعاً قتالية ويطلقون النيران علي المواطنين، ظهر ذلك في التليفزيون أيضاً، فوق كوبري أكتوبر، في بولاق، الدكتور جلال السعيد يقرر تحويلي إلي متخصص في الدم، لقاء مع الدكتور حسام كامل وهو صديق عزيز، يقرر إجراء تحليل للنخاع، معمل متخصص في المهندسين، الدكتورة وفاء المتناوي ، قرار بعد النتيجة من الدكتور حسام ببدء علاج بواسطة حقن حديثة، خطيرة جداً، حقنة كل أسبوع، حتي هذا الوقت لم أكن قد اتخذت قراراً بالاعتذار للجامعة في شيكاغو، طلب مني الطبيب الدكتور حسام كامل انتظار نتيجة تحاليل الدم التي كنت أجريها أسبوعياً مع بدء العلاج، بعد أسبوعين، بعد وصول مستوي الهيموجلوبين إلي درجة معينة، قال لي: الآن يمكنك أن تركب الطائرة، بشرط أن تؤمن علاجك من الحقن وتصحبه معك، الحقن في الولايات المتحدة لا يمكن صرفها إلا بقرار من الطبيب، وثمنها يبلغ ثلاثة أضعاف السعر في مصر، بمجرد وصولك إلي الجامعة، تقدم للتأمين الصحي، وتابع الحالة مع مركز متخصص، حصلت علي شهادتين، الأولي من الدكتور حسام كامل، الأخري من الدكتور جلال السعيد، فيهما معلومات عن الحقن وضرورتها حتي يمكنني اجتياز الجمرك في مصر وفي الولايات المتحدة بما أحمله من علاج، هكذا، وصلت إلي مطار القاهرة الدولي في أول سبتمبر، ملف العلاج في حقيبة يدي، أما أهم ما أحمله فتلك الحقيبة الصغيرة التي تحوي العلاج، ست عشرة حقنة، يجب تسليمها إلي كبير المضيفين في الطائرة لوضعها في الثلاجة، في السنوات الأخيرة أفضل السفر بمصر للطيران، خاصة في الرحلات الطويلة، والآن.. القصيرة أيضاً، جميع الدعوات التي تلقيتها في السنوات الماضية كنت أشترط لتلبيتها أن يكون السفر بواسطة مصر للطيران، لقد جري تطور كبير في مستوي الطائرات والخدمة، وبدأ هذا مع تولي الفريق أحمد شفيق وزارة الطيران، وكثيراً ما التقيت أجانب أخبروني بتفضيلهم مصر للطيران علي شركات أجنبية كبري، بالنسبة لي، يمكن تلخيص أهم سبب وهو الألفة والونسة، هناك من يمكنني التفاهم معه، خاصة إذا وقع لي عارض إرهاق أو وهن، هكذا.. استويت علي المقعد، ربطت الحزام، وكعادتي ألقيت نظرة علي أرض المطار قبل أن ترتفع مقدمة الطائرة، أظل منتبهاً حتي رؤيتي آخر حد البر، شاطئ الاسكندرية وامتداده، اللون الأصفر، الرمادي للبيوت، الأزرق للبحر، مع اختفائه أشعر أنني فارقت الوطن، إن مصر ليست شيئاً مجرداً، لكنها وطن حميم وعمر مقيم وامتداد أثير، كنت بصحبة زوجتي وابني محمد الذي جاء أثناء فترة علاجي من بوسطن حيث كان يدرس في جامعتها درجة الماجستير، وشارك في الخروج الكبير للشعب يوم الثلاثين من يونيو
أخيراً.. شيكاغو
نزلت مطار شيكاغو للمرة الثانية في عام واحد، حقيبة العلاج في يد تحوي الحقن التي أتقنت حقنها لنفسي، غير أنني كنت أتوكأ علي عصا لأن أحد الآثار الجانبية للعلاج تغيرات بالجلد، خاصة في باطن القدم والمفاصل، كأني أرتدي حذاء من الشوك المغروس في المفاصل أيضاً، لم أواجه أي مشاكل في الجمرك المصري أو الأمريكي، بل تمت الاستجابة لطلبي عدم مرور العلاج في ماكينات الأشعة حرصاً علي عدم تعريضها لأي نوع من التلف، كان في انتظاري سائق عربة سوداء فارهة، كانت ماجدة بصحبتي، رغم قضائها حوالي ثلاث سنوات لعلاج صعب إلا أنها أصرت علي مرافقتي إلي شيكاغو، لم يكن قلقها علي أحوالي خافياً، كانت في حاجة إلي من يعتني بها غير أنها أصرت علي أن تأتي لتعتني بي، خلال الطريق من المطار إلي مقر الإقامة الذي لم أره من قبل، كنت أحاول استيعاب المكان ومعالمه، في المرة الأولي كان الطريق بمحاذاة بحيرة شيكاغو الشهيرة والتي تبدو كبحر ممتد حتي الأفق، مررنا بمنطقة تبدو مضطربة معمارياً، كأنها ساحة معارك بيوت متناثرة.. متباعدة، قال السائق معلقاً:
«جيران سيئون..»
أدركت من حوارنا أنها منطقة فقيرة، معظم سكانها زنوج، تجري فيها معارك بين عصابات متصارعة، تمتد حتي أطراف المنطقة التي تقع فيها الجامعة، المنطقة التي تضم الكليات ومراكز البحث تسمي «هايد بارك» تبعد عن مركز المدينة حوالي عشرين كيلو مترا، حدودها بالنسبة للمنطقة غير الآمنة الشارع رقم ثلاثة وخمسين، وصلنا أخيراً إلي مدخل المنطقة الجامعية، بناء كلاسيكي، تمت عمارته إلي عصر النهضة، له قبة مرتفعة ضخمة، علمت أنه متحف العلوم، ظننت القبة تخص الجامعة طبقاً لتأثير قبة جامعة القاهرة علي ذاكرتي، أي جامعة إذا لم يكن لديها قبة تظل ناقصة في نظري، دارت الجامعة في شوارع فسيحة حولها مباني الجامعة التي تستلهم العتاقة في الطراز، ولكنها حديثة نسبياً، اكسفورد كلياتها تتجاوز مئات السنين، أيضاً السوربون، الأزهر أكثر من ألف عام، إذن تظل العتاقة هنا شكلاً وليس مضموناً، الخضرة كثيفة، المساحات الخضراء ممتدة تتخللها عدة مبان، أخيراً توقفت السيارة أمام عمارة مرتفعة، اللون الغالب نابع من الطوب الأحمر الذي بنيت به، ترتفع إلي عشرة طوابق، ثلاثة مبان متصلة علي هيئة مربع ينقصه ضلع، تتخلل الواجهة أقواس ومنحنيات بيضاء، علمت أن المبني مخصص لضيوف الجامعة الكبار، استقبلتنا حارسة المدخل، سيدة مبتسمة دائمة، جذورها تنتمي إلي قارتنا، خاطبتني باسمي ويسبقه اللقب «البروفيسور»، قدمت لي رزمة مفاتيح، مفتاح البوابة الخارجية، مفتاح البوابة الداخلية، مفتاح الباب المؤدي إلي المصعد والسلم، ثلاثة مفاتيح للباب الرئيسي للشقة، ثلاثة مفاتيح للباب الذي يؤدي إلي المطبخ، احتياطات الأمن دقيقة، طلبت من ماجدة أن تحفظ الفروق بين المفاتيح، قالت الحارسة إنها لديها مجموعة مفاتيح أخري للسيدة، ساعدتنا في حمل الحقائب، تقدمتنا إلي المصعد، فقط طابق واحد، قبل أن نصعد أشارت إلي مكان الغسالات الأوتوماتيكية، والتي تعمل بأربع قطع معدنية، كل منها ربع دولار، ماكينة للغسيل، أخري للتجفيف، باب الشقة أنيق يوحي لون الخشب البني الغامق بالعتاقة أيضاً، دخلت الشقة، صالة فسيحة، فيها أريكة يمكن أن تتحول إلي سرير، تليفزيون عريض، جهاز خاص بالانترنت وقد طلبته في مراسلاتي مع مايكل، إلي اليسار غرفة فسيحة، مستطيلة، تتوسطها منضدة مستطيلة، باب يؤدي إلي المطبخ، الحارسة شرحت لنا استخدام الموقد الذي يُدار بالغاز، وفرن كهربائي صغير، في الداخل غرفة نوم فسيحة يمكنني من نافذتها العريضة رؤية الشارع والمبني المقابل، بحذاء الشقة ممر معلق من حديد يؤدي إلي سلم الحريق الذي يرتفع إلي آخر طابق، سلالم الحريق عناصر أساسية في العمارات القديمة في المدن الأمريكية، عندما أقول القديمة فهذا يعني أنها في حدود المائة عام وربما أقل، السلم ينتهي بمحاذاة الطابق الذي نقيم به، إذا دعت الحاجة تفرد درجات أخري منطوية في نهاية الأمر حتي لا يكون وسيلة سهلة لتسلق اللصوص إلي أعلي، بعد وصولنا بدقائق وصلت السيدة الشابة نورا جاكوبسون، طالبة دراسات عليا، هي المسئولة عن الشئون الاجتماعية والعملية، أي الاتصال بالإدارة في مستوياتها المختلفة، استخراج رقم قومي لأنني سأقوم بمهمة ولست زائراً عابراً، اقتضي هذا حصولي علي تأشيرة أخري تسمح لي أن أزاول مهام البروفيسور، التأشيرة التي يحملها جواز سفري سياحية، لا تعطيني هذا الحق، نورا متزوجة من زميل تونسي لها، تعرفت إليه فيما بعد، طالب دكتوراة، كان أهم ما يشغلني بدء إجراءات التأمين الصحي، طبعاً وضعت علبة الحقن في الثلاجة، قدمت ما جئت به من أوراق إلي نورا، أشارت إلي ورقة معينة تشبه الاستمارة، قالت إنها أهم ما لديّ من أوراق، طلبت الحفاظ عليها، أطلقته عليها اسم «الورقة الخطيرة» وحتي الآن لا أعرف سر خطورتها، لكن ما فهمته أنه يستحيل قضاء أي خطوة تتضمن إجراء معيناً بدون هذه الورقة.
قررت أن أرتب كتبي وأوراقي بعد عودتي من الإدارة حيث أبدأ إجراءات الخطوة الأولي، التأمين الصحي، مهما كانت إقامتي قصيرة أو عابرة فلابد أن أنشئ علاقة خاصة بالمكان حتي ولو غرفة في فندق سأقيم فيه ليلة واحدة، مضينا إلي أحد المباني المجاورة لمركز دراسات الشرق الأوسط والذي يوجد به مكتب الدكتور فاروق عبدالوهاب، دخلنا إلي الطابق تحت الأرض، المكاتب حديثة، الواجهة من الخارج كلاسيكية، استقبلنا الموظف المختص بتسجيل ما يخصني وإجراء التأمين الصحي، رجل هادئ جداً، مكتبه أنيق، منظم، ثمة موسيقي كلاسيكية، واضح أنه صاحب مزاج، رايق جداً، أنهي إجراءات القدوم، طبع ورقة فيها المطلوب يقول في بدايتها إنه أول من يتم التعامل معه في الجامعة، طلبة وأساتذة، الحقيقة أنه مدخل جيد، سألت عن إجراءات التأمين الصحي، أريد تأميناً يغطي مدة إقامتي حتي مغادرتي الجامعة، لا أطلب علاجاً، علاجي أتيت به من القاهرة، ولكن أحتاج إلي إشراف متخصص، الحق أنه أبدي تفهماً ومعاونة، قام بمراجعة أنواع التأمين ومستوياته، طبقاً للنظام المعمول به في الولايات المتحدة يتم التأمين من خلال شركات متخصصة، اختار أحدها، لم أهتم بمعرفة اسمها، دفعت المبلغ المطلوب نقداً وكان ضخماً بالنسبة لي، سألت بدقة عن المستشفي الذي سأتردد عليه، قال إنه يتبع الجامعة، علي بعد خمس دقائق من هنا سيراً علي الأقدام، برنامجي الدراسي سيبدأ بعد أسبوع، سأقوم بإلقاء محاضرة واحدة في الأسبوع لمدة ساعتين يمكن أن تمتد إلي ثلاث، فيما عدا ذلك أنا حُر، بعد إنهاء الإجراءات، كنت أريد التعرف علي مكان المستشفي الذي سأتعامل معه، عبرنا طريق تقف فيه عربات الأكل السريع، المباني حديثة بعكس مباني الكليات الجامعية، توقفت نورا لتجيب علي الهاتف المحمول، قالت لنا إنها تلقت اتصالاً من البروفيسور مايكل سيلز، سيمر بنا في البيت، الخامسة ويرسل تحياته إلينا، وأمر آخر، إذ تغير موعد المحاضرة المقرر كل يوم اثنين لأنه تم ترتيب موعد آخر يبدأ من الثالثة يكون المكان مهيأ لاستقبالي مع الطلاب، إنه مكان إنسان أحبه وأحترمه، وقد حرص البروفيسرور مايكل علي أن أجلس في نفس مقعده، في الغرفة التي كان يُلقي فيها دروسه علي طلبة المصريات، تساءلت: أي مصريات؟ ظننت أنني سأجلس مكان الدكتور فاروق عبدالوهاب رحمه الله قالت نورا:
«أنت ستدرس في مبني القاعة الشرقية، فوق المتحف المصري، في غرفة جيمس هنري برستد..»
توقفت عن الخطو
«برستد؟»
قالت نورا:
«نعم» غمرني شعور عميق، مزيج من رضا وفرح وخجل وتأثر حتي أنني نسيت المستشفي والتأمين، ربما دُهشت نورا من رد فعلي الصامت بعمق، قالت:
«الأستاذ مايكل يعرف أنك تحبه.. بذل جهداً حتي يحصل علي الوقت المناسب.. أنت تحب برستد طبعاً»
قالت ماجدة:
«إنه يضع صورته في البيت..»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.