لقد قرأت بدقة النص الكامل للسياسة الثقافية للدولة المصرية، الذي نشرته جريدة "أخبار الأدب"بتاريخ 23 نوفمبر 2014، ويجب أن اعترف بانزعاجي الشديد من لغة النص ومن فلسفة السياسة. فاللغة متكلسة صدئة، والسياسة التي يعبر عنها النص ويدعو لها سياسة رجعية سلطوية. كما يعاني تحليل المشهد الثقافي الذي تطرحه وزارة الثقافة من تعارض جوهري كامن في صلب رؤية الوزارة للثقافة ولطبيعة الدولة، ومن شأن هذا التعارض أن يقوّض الحلول السياسية التي تدعو إليها الوزارة والتي يعبر عنها النص المنشور. يكاد المرء، عند قراءته للنص، أن يشك أننا في القرن الحادي والعشرين، وأن يظن أننا في صلب الستينات من القرن العشرين. ولا لوم عليه إن فعل هذا فمفردات نص الوزارة من "إعادة تشكيل بناء الإنسان"، إلي القول بأن السياسات الثقافية تهدف إلي "تحقيق أهداف وغايات تتفق وتوجهات الدولة الأيديولوجية"، إلي "تجديد القيم المصرية" هذه المفردات والكثير، غيرها مما يحفل به نص وزارة الثقافة، تنتمي لوزارة إرشاد فتحي رضوان وعبد القادر حاتم أكثر مما تنتمي لوزارة ثقافة في بلد قام بثورة اندلعت تحديدا ضد هذه الرؤي السلطوية المتعالية . ففلسفة السياسة الثقافية كما يعبر عنها نص وزارة الثقافة نابعة من إيمانها بالدور الأبوي الإصلاحي المتعالي للدولة المصرية علي الشعب المصري. فالدولة وفق هذا التصور كيان مستقل عن الشعب، كيان لا يخضع لإرادة الشعب ولا يخدمه. الدولة كما تراها وزارة الثقافة كيان له رؤية مستنيرة ومتسامحة ومعتدلة وتعمل علي نشر هذه الرؤية عبر مؤسساتها المختلفة، وفي القلب من تلك المؤسسات وزارة الثقافة. ودور هذه الوزارة، حسب هذا التخيل الستيني، هو نشر الوعي والمعرفة الصحيحة عن الثقافة والدين والهوية والتاريخ. أما الشعب فهو إما متعصب ومتطرف وذو نزعة للإرهاب، أو هو متهور، وغير ملتزم، ولا يقرأ بعناية، وذو نزعة ثورية لا تعترف بشرعية البرلمان. ومن هذا المنطلق السلطوي المتعالي تنطلق السياسة المقترحة للوزارة من العمل علي تصحيح الرؤية وإرشاد الشعب للفهم الصحيح للثقافة، فتقترح مثلا "إحياء الذاكرة الثقافية العربية، وذلك من خلال سلاسل خاصة تعيد نشر إبداعات النهضة العربية الأولي والنهضة المصرية الليبرالية ابتداء من رفاعة الطهطاوي و محمد عبده، وصولا إلي أهم رموز الفكر الليبرالي الحديث مثل أحمد لطفي السيد وطه حسين وسلامة موسي وغيرهم." المشكلة الحقيقية التي تعاني منها هذه السياسة الثقافية التي تدعو إليها وزارة الثقافة تكمن في تشخيصها لمشكلة التطرف الديني، تلك المشكلة التي أظن أنها مربط الفرس في الموضوع برمته. فالنص المنشور يشير في أكثر من موضع ل"اتجاهات التعصب والتطرف والنزوع إلي الارهاب"، وخطورة "العقل التقليدي الذي هو المقدمة الضرورية لنشأة العقل الإرهابي،" وضرورة الاهتمام بالفقر والأمية اللذين يعدان من أهم الأسباب "العميقة التي تؤدي إلي نشأة ظواهر التعصب الديني والتطرف.... والإرهاب." وبناء علي هذا التشخيص لظاهرتي "التطرف الديني والإرهاب" فإن وزارة الثقافة تري أن الحل يكمن، أولا، في إعادة نشر كتب التنويريين مثل الطهطاوي ومحمد عبده وأحمد لطفي السيد وطه حسين وسلامة موسي كما سبق إيضاحه، وثانيا، في الاشتباك مباشرة مع تفسير وتأويل النصوص الدينية وعدم ترك هذه المهمة حكرا علي "من يتخصصون في الدين، بل ينبغي أن تُفتح لكافة المفكرين المؤهلين للدخول في عملية تجديد الفكر الإسلامي بما يلائم حاجات العصر." وتقترح رؤية الوزارة الاهتمام بمؤلفات "أستاذنا الشيخ اأبوزهرةب والشيخ عمر عبداللهب والشيخ خلاف وأخيراً الشيخ علي جمعة ، بالإضافة إلي كتب المستشار سيد العشماوي التي تعدنماذج ساطعة علي أهمية الاجتهادات القادمة من خارج المؤسسات الدينية التعليمية." إن هذا التشخيص لظاهرتي "التطرف الديني والإرهاب" هو في الحقيقة جزء من المشكلة وليس حلا لها. الوزارة تتخيل أن مشكلة التطرف نابعة من عدم إقبال بعض أفراد الشعب علي مؤلفات "أساتذتنا" التنويريين، ولذا فإنها تري أن رسالتها تكمن في إعادة نشر هذه الأعمال حتي "تستنير"العقول وتصحو من غفوتها. وبهذا التصور يغيب عنها حقيقة أن أصحاب "العقول المتطرفة" قد قرأوا بالفعل سلامة موسي، ودرسوا طه حسين، وألمّوا بكتابات رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين وعلي مبارك وزكي جمعة (علي رأي بهجت الأباصيري في مدرسة المشاغبين)، ولكنهم رفضوها وتمردوا عليها. إن مشكلة "التطرف الديني" لا تكمن في عدم دراية "المتطرفين" بكتب "التنويريين" أو عدم الإلمام بها، الأمر الذي يمكن علاجه بإعادة نشر هذه الكتب. المشكلة الحقيقية هي أن هناك قطاعا كبيرا من الشعب قد نفر من هذه الكتابات ورفضها. والمشكلة تزداد تعقيدا إذا افترضنا، كما تذهب فلسلفة وزارة الثقافة، أن هذا النفور وذلك الرفض منبعه "الفقر" أو "التخلف" أو "انتشار الفكر الوهابي". إن قطاعا كبيرا ممن تسميه وزارة الثقافة "متطرفين" و"إرهابيين" علي دراية عميقة بكتب التنويرين، كما أنهم أصحاب عقل وفطنة ورؤية. بالطبع الحديث هنا ليس عمن حمل السلاح لترويع الآمنين، ولكن عن الملايين الذين لا يشاركون وزارة الثقافة رؤيتها "التنويرية". فلسفة الوزارة تقوم علي عمل "مسوح اجتماعية وثقافية تخترق الكتل المليونية من الأميين والفقراء وسكان العشوائيات لاكتشاف المواهب الكامنة لمن يصلحون - بعد تدريبهم في وزارة الثقافة - موجهين ثقافيين شعبيين بحكم صلتهم العضوية بالجماهير."وبمعني آخر، فالوزارة، بعد أن أيقنت فشلها في نشر الوعي "التنويري"، تري ضرورة "اختراق الكتل المليونية" لتجنيد أفراد لهم صلات عضوية بتلك الكتل، ثم "تدريبهم" في وزارة الثقافة علي التفكير التنويري، لكي تعيد دمجهم بعد ذلك في "الجماهير" حتي يعم النور وتنقشع الظلمة. هناك ثلاثة مشاكل قاتلة تتسم بها الفلسفة الثقافية لوزارة الثقافة. المشكلة الأولي أن هذه "الفلسفة" الثقافية، إن جاز لنا أن نصفها كذلك، لا تدرك أن رؤيتها لنشر الفكر والثقافة لا تختلف كثيرا عن رؤية الإسلاميين الذين تتصدي لهم وتتنافس معهم علي الوصول ل"الجماهير". فالإسلاميون، هم أيضا، أصحاب رسالة، وهم أيضا مهتمون بنشرها، وهم أيضا لهم مؤلفاتهم التي يتمسكون بقراءتها وتلقينها، دون غيرها، لل"كتل المليونية". الإسلاميون يستخدمون لغة أبوية ومتعالية يبدو بها الشعب كافرا أو ضالا أو فاقدا لهويته. الإسلاميون لا يحترمون الشعب ومعتقداته، ويرون أن رسالتهم المقدسة تكمن في وعظه وهدايته والأخذ بيده للصراط المستقيم. وزارة الثقافة تشارك الإسلاميين رؤيتهم المتعالية علي الشعب. هي أيضا تدرك أن أفراد الشعب، وخاصة الشباب منهم، قد ضلوا عن الفكر النقدي الخلاق والمبدع، وتري أن رسالتها المقدسة تكمن في هدايته والأخذ به للطريق المستنير. المشكلة الجوهرية الثانية التي تعاني منها "فلسفة" وزارة الثقافة هي اعتقادها أن لديها مشروعا تنويريا تسعي لإقناع سائر أجنحة النظام بجدواه لمواجهة "الإرهاب". علي أنه في وقت الأزمات سريعا ما تحسم الجهات الأمنية وتلك المسماة بال"سيادية"الصراع علي من له شرف مواجهة ذلك "الإرهاب" المخيف. فنص الوزارة نفسه يشير إلي محاولة قامت بها الوزارة لنشر الفكر التنويري في "الكتل المليونية" ولكن تلك المحاولة انتهت نهاية مأسوية عندما أدركت "مباحث أمن الدولة أن هذه - في نظرها - محاولة يسارية لرفع وعي الفلاحين، ومن ثم قامت بجمع نسخ الكتاب وأعدمتها وصدر قرار بإيقاف البحث." بمعني آخر فإن وزارة الثقافة قد تنظر لنفسها علي أنها نبراس العلم ومنارة العقل، لكنها في حقيقتها جزء لا يتجزأ من منظومة قمعية سلطوية متغطرسة، وأن تمسكها بما تسميه "الفكر المستنير" لا يقابله أي فعل واقعي أو جاد يسمح للعقل أن يبدع ولا للفن أن يزدهر كما تدعي. أما المشكلة الثالثة فتنبع من المشكلتين السابقتين، فبناء علي مبدأ الوصاية علي ال"جماهير" الذي تتبناه الوزارة، وبناء علي عدم وعيها بعمق انخراطها في البنية القمعية للدولة المصرية، نراها، عند تعرضها لثورة يناير، تتهم الثوار بالرعونة والاندفاع وعدم الإذعان ل"شرعية الميدان"، من ناحية، وتعتقد، من ناحية ثانية، أن الثورة قامت فقط بسبب "احتكار السلطة عن طريق انفراد الحزب الوطني الديمقراطي بالهيمنة علي مجمل الفضاء السياسي، عن طرق شبكات الفساد وممارسة التزوير المنهجي لكل الانتخابات: برلمانية كانت أو رئاسية." وبذا غاب عن رؤية وزارة الثقافة أن الثورة لم تقم علي مبارك فقط، أو أبنائه ووزرائه فقط، أو الحزب الوطني ورجاله فقط، بل قامت لتغيير الطبيعة الجوهرية للدولة المصرية الحديثة، تلك الدولة التي تعبر عنها وزارة الثقافة أحسن تعبير: دولة متعالية متغطرسة تنتهج منهجا أبويا في التعامل مع الشعب. ولكي أوفر علي وزارة الثقافة عناء "تحليل تراث المدونات، والتحليل النقدي لوسائل التواصل الاجتماعي لمعرفة اتجاهات شباب [الثورة] ورؤاهم للعالم،" أعطي لنفسي الحق، أولا، كواحد ممن كان له شرف الانخراط في الثورة والثبات علي مبادئها، وثانيا، ك"شاب" (إذ أني ما زلت في أوائل الخمسينات)، لكي أقول إن الثورة قامت ليس لهدم الدولة كما تدعي أبواق الثورة المضادة، بل لتقويم مسارها وتغيير طبيعتها. وبخصوص السياسة الثقافية، فما نبغاه هو سياسة ثقافية تحترمنا ولا تتعالي علينا. نحن نريد وزارة ثقافة تفتح مؤسساتها لنا، كأفراد من الشعب، دون وصاية ودون إرشاد ودون تعالٍ. هذه المؤسسات ملك لنا، لا ملك وزارة الثقافة. الدولة، ممثلة في وزارة الثقافة، أمينة فقط علي هذه المؤسسات، لا مالكة لها. وبالتالي فيجب أن تتيح لنا، كلنا دون إقصاء أو استبعاد، حق استخدام هذه المؤسسات والاستمتاع بما تتيحه من خدمات وإمكانيات. نريد أن تتحول قصور الثقافة لأماكن عامة تكون مفتوحة لنا ليس لنتلقي فيها أفكارا تنويرية، ولكن لنعرض فيها أعمالنا، وندير فيها نقاشاتنا، ونشاهد فيها أفلامنا، ونعرض فيها مسرحياتنا. نريد أن ندخل المكتبات العامة لكي نطالع ليس فقط كتب طه حسين، ولكن أيضا لنقرأ كتب السلفيين والإخوان و"الفكر الوهابي الصحراوي". نريد أن تكون مكتباتنا العامة أماكن نقارن فيها بين هذه الأدبيات المختلفة نعمل فيها عقلنا ونطلق لخيالنا فيها العنان، دون وصاية ودون رقابة، نختار ما نختار ونرفض ما نرفض. نريد أن تتحول دور النشر الحكومية، سواء الهيئة العامة للكتاب أو مكتبة الأسرة، من بوق تنويري للنظام إلي دور نشر مهنية محترمة، تنشر الكتب المحكّمة سواء "التنويرية" أو "الظلامية". القارئ هو الحكم وليس الرقيب. نريد أن نري دار الوثائق القومية تفتح أبوابها للجمهور لا أن تخضع للرقابة الأمنية القاتلة التي قلصت عدد زائريها لأقل من عشرة زائرين في اليوم الواحد، علما بأن لديها ملايين الوثائق. نريد أن نري دار الوثائق مكانا نقصده لقراءة تاريخ بلدنا الإلمام بماضيه بدلا من الاعتماد علي كتب ومراجع أجنبية. نريد أن نري متاحفنا تفتح أبوابها لنا وليس فقط للسياح الأجانب. نريد منها أن تهتم بنا كزائرين وتقدم لنا الخدمات المتحفية المتطورة من كتب ومطبوعات وندوات ومحاضرات ومؤتمرات. نريد من متاحفنا أن تدرك أن معيار نجاحها ليس إرضاء هذا الوزير أو ذاك المسئول، ولا في إبهار هذا الزائر الأجنبي أو تلك السائحة، ولا في منع السرقات، بل معيار نجاحها الأول والأهم هو عدد من تردد عليها من المواطنين ومستوي الخدمة التي تقدمه لهم. نحن سعينا، وما زلنا نسعي، لكي تكون لنا دولة تخدمنا بدلا من دولة نحن نخدمها، دولة تخضع لإرادتنا لا نخضع نحن لغطرستها وسياساتها المتعالية، دولة تحكمنا بها علاقة تعاقدية لا روابط أزلية، فإن فشلت في مهامها جاز لنا أن نثور عليها ونجبرها علي تعديل مسارها. أنا أدرك أن الجهات الأمنية وتلك "السيادية" تدرك خطورة هذه المطالب وستعمل علي وأدها أوتشويهها أوالتقليل منها. ولكن ماذا عن وزارة الثقافة: هل ستنحاز للثورة ولأفكارها التحررية، أم ستظل منحازة للدولة السلطوية المتعالية بأفكارها "التنويرية"؟