لا يقدم نفسه في ديوانه "كلاشنكوفي الحبيب" (شرقيات) إلا هكذا : هرمس، شاعر مصري، صدر له "التغريد بطريقة بريل" (مجموعة شعرية) 2012. بعد هذا التقديم الموجز جداً، وتعمد استخدام "هرمس" كمدخل، بدلاً من محمد مجدي، ستجد أنك أمام عمل لافت، تجربة واسعة لشاعر يصيغ عالمه المحبوك، كل الخيوط والصور والكلمات والحكايات مُحكمة، مشدودة للغاية..حتي أنك قد تترك الكتاب، (108 صفحات)، قليلاً لتهرب من هذه السيطرة. ستعيش عبر النصوص المكتوبة في الفترة من أبريل 2012 إلي مارس 2013 الحياة الواسعة لمُجند: مشاعره، خيالاته، انفلاته، نبوءاته، ملاحمه، وكذلك سخريته. عمل سيجعلك تتجاهل العديد من الأسئلة البديهية، لتحاول أن تعرف كيف كتبْ هذا الديوان؟ شعرت أنك تكتب عالماً أنت مركزه، تمسكه بإحكام شديد، كأن هناك سيطرة كاملة علي التخيل الذي تطرحه للقارئ. أقصد أننا لسنا أمام إعادة صياغة للعالم مثلا، وإنما أنت المركز والعالم كله مربوط بهذا المركز.. هل قصدت ذلك؟ لا أظن أن لأي أحد أن يدعي أنه مركز العالم، لكن عندما تبني عالما من حولك، تتضح للرائي مركزيتك فيه، ربما يمكنني صياغة ذلك بشكل آخر، العين والأذن، وبقية الحواس، مركزية في تلقيها لكل شيء، هكذا أقول مثلا "إنه واقف في وسط المدينة\ وقد وجه العدم سيفه إلي صدره." في الأمر ما يشبه مركزية الحالم في حلمه. سيجد قارئ العمل أنه يتابع مشاعر جندي، لكنها صورة خاصة وملهمة للغاية كما لو أنها كشف لجانب لم يتناول من قبل في "حياة الجنود". مرة سيظهر كشخص أسير لملحمة، أو بطلها بموقع آخر، أو شخص ساخر يلهو مع "نوح" بائع الشاي، ويسأله عن الطوفان.. هل كنت مشغولاً بإبراز هذا التنوع فيما يخص حياة الجندي؟ معظم نصوص الديوان، عدا ربما مقطع أو اثنين كُتِبَت أثناء أدائي لخدمتي العسكرية، هذه تجربة مفارقة ، ربما بالنسبي لي، عما مررت به من تجارب سابقة في حياتي، ثلاثون شهرا، أو قل سنتين هي فترة كتابة الديوان، أنت كجندي توضع علي المحك في مواجهة أشياء كثيرة، يتضح لك كم أن الحياة والموت صنوان، يوضع بيدك سلاح قاتل، تستخدمه في التصويب علي شواخص ورقية تري فيها عدوك، تعيش حياة متقشفة نوعا ما وجافة، أشبه بحياة النساك. تمر بتجارب بشرية مجاورة في علاقتك مع زملائك. كل هذا يضعك في مكان مختلف بعلاقتك مع الكون والإنسان. أظن أنني كنت أري الملحمة أمامي في كل شيء، وفداحة ما يحدث. في الملحمة تكون كل تفصيلة مهما دقت، دالة. أقصد لها عمق دلالي. أود أن نتوسع في الحديث عن أثر هذه التجربة.. هل كنت مترددا في الكتابة عنها؟ ماذا كنت تقرأ وهل قمت مثلا بقراءة مسودات قصائدك مرة جديدة خلال هذه الفترة؟ سأبدأ بالإجابة عن السؤال الأخير، أنا أقرأ الشعر باستمرار، وهو يشكل الجزء الأكبر من قراءتي، لكن قرأت عدة روايات أيضا، هي بالترتيب، علي الطريق، كرواك، مدار الجدي ميللر، الحرافيش نجيب محفوظ، Q84 1موراكامي، كنت أقرأ لجيجيك وفرويد ولاكان وديريدا وفوكوه وبارت ويونج. أما السؤال الثاني فسأقول أن مروري بتجربة كهذه كان له تأُثير علي كتابتي بالطبع، كيف يمكن أن نمر بتجربة حياتية ولا تؤثر فينا، كبشر، قبل أن نكون كتابا..وأنا لم أتردد أبدا في الكتابة. أظن أن اقترابي من واقع شديد الواقعية، جاف، صلب، كمعدن الكلاشنكوف، محسوب بدقة وخطير علي الحياة، اقترابي من هكذا واقع، أدي بكتابتي لشيء يشبه عمل الأزميل في الحجر، نحتها، أزال نتوءاتها تقريبا، وجعل لها عمقا ما أستطيع اكتشافه الآن عندما أعيد قراءة ما كتبته. في قصيدة "عطل اللاشيء" كتبت "لم أستطع أن أكون عسكريا في الليل /خرجت نفسي من الزيتي والنحاسات"..فلنتكلم قليلا عن العلاقة بين المدينة والمعسكر، كيف تراها؟ عندما تخرج من المعسكر إلي المدينة في أيام الإجازات تشعر أن جبلا ضخما أزيح عن كاهلك، تعود لطعامك و شرابك و ملبسك وبيتك وأهلك، ولكن عندما تنزل للشارع، وتجتاحك ميادينه، تبدأ تدريجيا في التدرج في الهم من جديد، الشاعر شخص مهموم بطبيعته. مصاب بهم كل ما يستطيع أن يشعر به، هذه هي الحقيقة، وهكذا نكتب عن همومنا المتفاقمة، للمدينة-القاهرة تجربة خاصة بها، لا أظن أني بحاجة لإخبارك عن مدينتنا، تلك الرحي. ماذا تعني لك كلمة "شص"، هل هي معبرة عن نظرتك للشعر، فكرة الصيد مثلا تعبر عن نظرتك للكتابة؟ شص هو الخطاف، وفي فترة أحدث يتم إطلاقه علي خطاف صيد السمك الصغير الذي يكون في نهاية خيط الصنارة، أنا أعتبر الكتابة طريقة لاصطياد المعاني، أنت تكتب ويأتيك المعني، وليس العكس، لا تدخل للنص بمعني مسبق، الكتابة تولد المعني، وهي عملية لا نهائية من التوليد المعنوي تحدث بالتأويل والترجمة والقراءة. طرحت العديد من الأفكار حول اللغة، الرغبة في تعلم لغة جديدة مثل الألمانية، أو أن تكون اللغة المتناثرة في المقهي والسوق والشارع لها دالة متصلة.. كيف تنظر للغة؟ اللغة بالنسبة لي وجود، وهي تشمل كل شيء، هناك لغة في كل شيء من حولنا، وهذه هي الهبة التي وُهِبَها الشاعر، أن يقرأ لغة الوجود ويلقيها في الحروف، هذا الكلام قديم وليس جديدا، بالنسبة لي، اللغة طين للخلق، وأنا كتبت مقالا بهذا الشأن منذ سنوات اسمه سيميا الشعر- المشروع. علاقة اللغة بالعَالَم ممّا حيّر الكثيرينْ، علاقَة الكَلِمة، كنَسَقٍ صَوتيّ، و كَنَسَقٍ مكتوبٍ بعدَ ذلك، بِما تُسمّيه، بِما تستحضرُهُ في الوَعي اللغوي لقارئها، .فالمكتوبُ فَرَض نَفسَهُ في قُرونٍ قليلة ، لكنّ الذاكرة الصوتيّة لهُ ، هي ممّا يقَعُ في "الواضِح-الغامِضِ للكائن المفكّر" كما يقولُ باشلار مُفضيةً للعلاقة بين الكلمة و المعني، أو هذا ما نجِدُه في آلية الشعر ، كونَ تلكَ معنيّة بالجمال كتجربة ، باقتناص الأثَر و رَقْمِهِ وفق الأنساق " اللغوية" ، أو العكس. أقصد أن الشعر معني بهذا بشكل رئيسي، باللغة التي هي المادة المائية التي يسبح فيها الشاعر. خارج و داخل النص، الشاعر كائن لغوي. أعرف أن هذا قد يساء فهمه ضمن الرواج الحادث في شعر العربية لفكرة التخلي عن البلاغة التقليدية، لكن أحب أن أشير إلي أن "البلاغة" هي نطاق اللغة، وأعتقد أنني بهذا أوضح رأيي منها تماما، وعموما كل قصيدة بالنسبة لي هي تجربة لغوية جديدة، ويتضح هذا من نصوص الديوان. حسنا لماذا كان اختيار، لغة المنطق، للألمانية تحديداً ؟ في الحقيقة أنا لا أتقن الألمانية، ولا الفرنسية، أنا فقط أتحدث الإنجليزية و العربية، لكن، هذه حكاية طريفة، في منتصف يناير 2011، قبل الاحداث الشهيرة، كنت قد بدأت في حضور دروس خصوصية للغة الألمانية، ثلاثة أو أربع حصص قامت بعدها الثورة، ولم أتمكن للأسف من استكمال درسي، وبصراحة اخترت أن أتعلم الألمانية ليس لأنها لغة المنطق والفلسفة، ولكن لأنها لغة ريلكه و تسيلان وجوته وشيللر وهلدرلين. وأنا أقرأ أجد أن هناك حكايات مكثفة داخل بعض القصائد، كيف تتعامل مع الحكاية/الحكي في القصيدة..بمعني هل تكون الحكاية مادة خام أو فكرة لكتابة قصيدة ثم تعيد إنتاجها/كتابتها شعريا؟ إيراد حكاية في نص شعري أمر شائع، خصوصا في قصائد النثر، و أنت تعرف أن قصيدة النثر ابتدأت في فرنسا بإيعاز من قصص إدغار آلان بو القصيرة التي ترجمها بودلير، الأمر يعتمد علي فنية الحكاية، ثم إن بعض هذه الحكايات درامية، و الدراما و الشعر مرتبطان منذ سوفوكليس. أحيانا تردني جملة، سطر وأنا في الطريق، تركيب ما، بالطبع مصدره هو ما هو حولي، ما أشعر به، وفي أحيان أخري يكون مشهدا أريد وصفه كما هو، وأفعل ذلك باللغة، والخيال يلعب دورا كبيرا في ذلك. وبالنسبة للشعر، لا تكون الحكاية هي المصدر، يحدث هذا في السرد أكثر، لكن لا يمنع ذلك أن تلهمك حكاية ما بقصيدة، لكن الشعر يهتم بالدفقات المعنوية التي بين مفاصل الحكاية، بالوميض الشعوري وكيفية ترجمة ذلك لكلمات، إذا المادة الخام للشعر هي اللغة، كما يقول لاكان اللاوعي هو علي شكل لغة، هذا هو المزج العظيم بين اللغة و الخيال الذي حدث علي يد جاك لاكان. وما يحدث هو أنني أدخل للنص محملا بطاقة شعورية وبضع صور وتراكيب أبدأ بها السطر الأول، وما يلي هو ارتجال و متح من الخيال وتتبع لأطراف الشعور داخل الوعي. أستطيع أن أقول لك العالم يمنح نفسه لي في اللغة. وعلي شكلها..تلك التي هي شكل الخيال. لنتكلم أخيراً عن شكل الكتاب، لماذا اخترت هذا التقسيم هل لذلك علاقة بنظرتك لهذه التجربة كمراحل مثلا؟ في الحقيقة، النصوص ليست مرتبة زمنيا داخل الكتاب، وبالنسبة لزمن الكتابة، فهذا الترتيب عشوائي تماما، لكنني قمت بتنميط هذه النصوص وفق خيوط دلالية معينة أفصحت عنها في عناوين الفصول، وبالضرورة إيضاح أن الفصلين الثالث و الرابع هما فصلان، وليسا نصين طويلين، المتتبع للمسارات الدلالية في النصوص سيفطن للعلاقة بين النصوص في كل فصل، أما عن ترتيب الفصول، فهناك دراسة قام بها صديقي الجراح و الشاعر محمد سالم عبادة عن كنه هذا الترتيب أجد فيها تأويلا جيدًا لهذا الأمر. بالنسبة لفصل "هادئ و عديد" فقد كتبته كما قلت لك ليس كوحدة تامة متكاملة، لكن هي نصوص جمعتها وليست متتابعة زمنيا، لكن أستطيع أن أقول أن هذا الفصل يعالج أطوارا عدة في الوعي ربما يتضح هذا من عدة نصوص مثل نص رقم 1، و3،و7.