براتب 10 آلاف جنيه.. الإعلان عن 90 وظيفة في مجال الوجبات السريعة    رابط التسجيل المبكر لجامعة القاهرة الأهلية، ونظام الدراسة والتخصصات المتاحة    وزير الكهرباء يقضي ثالث أيام العيد مع العاملين في محطة توليد أبو قير الجديدة    محافظ مطروح يُقيل نائب رئيس مدينة براني ويحيل مدير النظافة للتحقيق بسبب تردي الأوضاع    «الزراعة» تتابع برامجها البحثية على مستوى الجمهورية في إجازة العيد (تفاصيل)    محافظ الدقهلية: سائق السيارة المشتعلة بمحطة وقود ترك بصمة إنسانية ووطنية خالدة    إيران: سننشر وثائق استخباراتية تتعلق بمنشآت إسرائيل النووية قريبًا    غارة إسرائيلية على الشهابية جنوب لبنان دون إعلان رسمي عن المستهدف    ناجلسمان يعبر عن خيبة الأمل بعد خسارة ألمانيا أمام فرنسا    عمرو أدهم: كأس مصر شهدت منافسة شريفة وطبيعية.. وأحداث تافهة أخذتنا عن تقدير عبد الشافي    الخليفي: ديمبيلي يحافظ على الصلاة.. والتسجيل في إسبانيا أسهل من فرنسا    ريندرز: سأسافر إلى مانشستر سيتي لإجراء الفحص الطبي    «الصحة» تثمن نجاح جهود السعودية والبعثة الطبية المصرية في موسم الحج 2025    الوطني للأرصاد: منى ومكة المكرمة ومزدلفة تسجل 45 درجة    ثاني أيام العيد "كامل العدد" على مسرح البالون.. هشام عباس يتألق في ليلة غنائية    "الناس بتتحاسب وعنكبوت بشوك".. "ماذا رأت حلا شيحة في رؤيا يوم القيامة؟    إلهام شاهين من الساحل الشمالي.. «الله على جمالك يا مصر» | صور    مدير التأمين الصحي في الأقصر تتفقد سير العمل بعدد من المستشفيات    لدغة عقرب تُنهي حياة "سيف"| المئات يشيعون جثمانه.. والصحة ترد ببيان رسمي    تنسيق الجامعات 2025، قائمة الجامعات المعتمدة في مصر    عقرهما كلب شرس.. تفاصيل إصابة طالبين داخل "سايبر" بالعجوزة    فرحة العيد جوه النيل.. إقبال على الرحلات النيلية بكفر الشيخ ثالث أيام العيد    لماذا تتجدد الشكاوى من أسئلة امتحانات الثانوية العامة كل عام؟.. خبير يُجيب    عمال الشيوخ: خروج مصر من قائمة ملاحظات العمل الدولية للعام الرابع "مؤشر ممتاز"    «الحج دون تصريح».. ترحيل ومنع «المخالفين» من دخول السعودية لمدة 10 سنوات    "الوطني الفلسطيني" يدعو المجتمع الدولي إلى ترجمة مواقفه لإجراءات لوقف الحرب على غزة    الدفاع المدني فى غزة: الاحتلال يمنع إنقاذ الأحياء فى القطاع    المتحف المصري بالقاهرة يحتفي بزوار عيد الأضحى المبارك |صور    درة تخطف الأنظار بإطلالة كاجوال احتفالا بالعيد والجمهور يعلق (صور)    5 أيام يحرم صومها تعرف عليها من دار الإفتاء    هدف الزمالك.. خطوة واحدة تفصل زين الدين بلعيد عن الوكرة القطري    "صحة غزة": أزمة نقص الوقود تدخل ساعات حاسمة قد يتوقف خلالها عمل المستشفيات    طريقة عمل كفتة الحاتى بتتبيلة مميزة    استقبال 1500 مريض وإجراء 60 عملية جراحية خلال أيام عيد الأضحى بمستشفى جامعة بنى سويف    بقرار من رئيس جهاز المدينة ..إطلاق اسم سائق السيارة شهيد الشهامة على أحد شوارع العاشر من رمضان    196 ناديًا ومركز شباب تستقبل 454 ألف متردد خلال احتفالات عيد الأضحى بالمنيا    الداخلية تواصل تطوير شرطة النجدة لتحقيق الإنتقال الفورى وسرعة الإستجابة لبلاغات المواطنين وفحصها    تجهيز 100 وحدة رعاية أساسية في الدقهلية للاعتماد ضمن مؤشرات البنك الدولي    اللواء الإسرائيلي المتقاعد إسحاق بريك الملقب ب"نبي الغضب" يحذر من وصول إسرائيل إلى نقطة اللاعودة وخسارة حروب المستقبل!.. كيف ولماذا؟    لا يُعاني من إصابة عضلية.. أحمد حسن يكشف سبب غياب ياسر إبراهيم عن مران الأهلي    هل تشتهي تناول لحمة الرأس؟.. إليك الفوائد والأضرار    هل يجوز الاشتراك في الأضحية بعد ذبحها؟.. واقعة نادرة يكشف حكمها عالم أزهري    ضبط شخصين لاتهامهما بغسل 50 مليون جنيه من تجارة المخدرات    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى 996 ألفا و150 فردا    بين الحياة والموت.. الوضع الصحي لسيناتور كولومبي بعد تعرضه لإطلاق نار    موعد عودة الوزارات للعمل بعد إجازة عيد الأضحى المبارك 2025. .. اعرف التفاصيل    الكنيسة القبطية تحتفل ب"صلاة السجدة" في ختام الخماسين    منافذ أمان بالداخلية توفر لحوم عيد الأضحى بأسعار مخفضة.. صور    العثور على جثة رضيعة داخل كيس أسود في قنا    أمين المجلس الأعلى للآثار يتفقد أعمال الحفائر بالأقصر    محافظ أسيوط: لا تهاون مع مخالفات البناء خلال إجازة عيد الأضحى    حكم وجود الممرضة مع الطبيب فى عيادة واحدة دون محْرم فى المدينة والقرى    كامل الوزير يتابع حركة نقل ركاب القطارات ثالث أيام العيد، وهذا متوسط التأخيرات    المواجهة الأولي بين رونالدو ويامال .. تعرف علي موعد مباراة البرتغال وإسبانيا بنهائي الأمم الأوروبية    من قلب الحرم.. الحجاج يعايدون أحبتهم برسائل من أطهر بقاع الأرض    النسوية الإسلامية «خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى» السيدة هاجر.. ومناسك الحج "128"    أسعار الدولار اليوم الأحد 8 يونيو 2025    الوقت غير مناسب للاستعجال.. حظ برج الدلو اليوم 8 يونيو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ألف سگين وسگين
نشر في أخبار الأدب يوم 22 - 11 - 2014


1
في الظهيرة ينتظر جعفر الحكم في رأس الزقاق وهويعلق في رقبته منظارا عسكريا وفي حضنه كرة. يصل الاولاد تباعا، يحيطون بجعفر وهم يمازحونه ويتحدثون بشغف عن مهاجم فريق القطاع 32، جعفر يطمئنهم:
- احنا عدنا علّاوي السبع... إنه ميسي قطاع 29.
يتناوب الأولاد علي دفع كرسي جعفر المتحرك. أحدهم يقول: فريق قطاع 32 ربما يجلبون معهم حكما من عندهم.
لايأبه جعفر لهذا الكلام. يخبرهم أنه يعرف كيف سيتصرف. يصلون الي الساحة, يرمي جعفر الكرة. فيجري الاولاد خلفها.
جعفر في الخامسة والاربعين من عمره، لكنه مازال ابن البارحة. بروحه الرياضية ونشاطه وارادته التي تدهش اصدقاءه وأعداءه القلة. كان اشهر من يلعب البليارد في قطاع 29. وحين كان هاربا من الجيش ،لم تتمكن قوات الانضباط العسكري من الامساك به،كان مثل الجن، لكن إدمانه علي صالات البليارد دمر حياته، حاصره افراد الانضباط العسكري ذات مساء في صالة الخرسان للبليارد في الكرادة, كان ينافس أشهر لاعبي الكرادة. بعدها لم يعد جعفر من الجبهة في حرب الكويت الا بعد ان بترت ساقيه. و( حميد خوش ولد. ابن عائلة وزلمة) هكذا يراه اهل القطاع! لكن بعضهم كان يعيب عليه شغفه بكرة القدم وملازمته لفتيان القطاع وهو في هذه السن. لم يكن جعفر يكترث كثيرا لمثل هذا الكلام, فعلي الصغار أن يتعلموا أصول اللعبة, وهكذا كان ينظم لهم المباريات ويقوم بدور الحكم فيها. كان يذكر منتقديه بلاعب المنتخب الوطني الشهير، الذي خرج من ملاعب قطاع 29 ( ومن بين يديّ هاتين ) وفي كل مرة يضيف قائلا: وستخرج معجزة تنقذ البلاد برمتها من بين يديّ ايضا!!
علي طرف الساحة هناك حاوية نفايات كبيرة يخرج منها دخان ابيض يملأ الساحة برائحة عطنة. تخرج نساء بعباءات ومن دونها من البيوت المحيطة بالساحة وهن يحملن أكياس الزبالة. يراقبهن جعفر بمنظاره العسكري, بينما يركض الاولاد متصايحين وراء الكرة. كذلك يتابع جعفر بمنظاره لعب الاولاد. وبعدها يصل فريق قطاع 32 الي الساحة مع شاب ملتح يتفق جعفر معه علي بأن يقوم بتحكيم الشوط الاول، والملتحي الشوط الثاني. وتبدأ المباراة. جعفر يدفع بقوة وسرعة عجلتي كرسيه وهويروح ويجيء بعصبية وشغف, يصرخ بالأولاد, مشجعا وموبخا. وحين يبتعدون عنه يتابعهم بمنظاره. ( كووووووووووووول ) يصيح جعفر. يعترض حكم قطاع 32 علي جعفر بسبب تشجيعه لفريقه وعدم حياديته. يتجاهل جعفر هذا الأعتراض, ويراقب بمنظاره ركب الأولاد وسيقانهم حين يسقطون علي الارض. يخاف عليهم وكأنهم أبناؤه الحقيقيين. لمرات كان يسهو ويري للحظات الأولاد وكأنهم أشباح تتقاتل! يخطف في ذاكرته دوي القذائف في الجبهة. لكنه يعود الي المباراة وينفخ الصفارة في فيه بكل حماس وحب, معلنا ضربة جزاء. يتصبب عرقا وهويدفع بكل مالديه من قوة عجلتي كرسيه للحاق بالاولاد الذين يتراكضون خلف الكرة بسرعة الغزلان, وحين يصعب اللحاق بهم وتكون الكرة بعيدة في الطرف الثاني من الساح، يستخدم جعفر الحكم منظاره لمتابعة المباراة...
يصفر جعفر ( فاول.... )
( بالعبّاس موفاول جعفر... ) يعترض احد الاولاد.
( أكول فاول, لا تناقش زمال.. )
( جعفر أنته كنت بعيد.... )
( لك حيوان، هذا شنو ،قابل آني أعمي.... ) يقول وهويشير الي منظاره.
تنتهي المباراة بالتعادل 2. 2 ويدفع الاولاد كرسي جعفر حتي المقهي. يودعهم ويوصيهم بالاستعداد لمباراة الاسبوع المقبل مع فريق قطاع 52.
يلعب جعفر الدومينوفي مقهي الشعب وهويحلل للاخرين مستوي الأندية الاسبانية. تدوي ضحكته في المقهي وتحرك صورة الأمام الكبيرة المعلقة علي الحائط. يقول صاحب المقهي ان الامريكان سيفتشون القطاع الليلة بحثا عن الاسلحة...
( ماذا يريدون عصابات الكاوبوي هؤلاء.. بتروا ساقي في حرب الكويت...ماذا يريدون بعد... خراء عليهم.. يوما ما ستذهب امريكا الي الخراء...). يقول جعفر بعصبية، ثم يغير موضوع الحديث الي كرة القدم. يبدأ الشجار والضحك بينه وبين مشجعي ( ريال مدريد). جعفر( برشلوني) متعصب وبضع مرات ( ليفربولي ).
انتظره في باب المقهي. يخرج وهويقهقه، ثم يسدد لكمة محبة قوية في معدتي.أدفع كرسيه ونعبر الشارع. يسألني عن أحوال أخته ( زوجتي ). أجيبه: بخير.
(هل ستخفي اليوم سكينا! ) يسأل وهويسعل، فهومدخّن مزمن.
( لا... ربما سأتحدث قليلا عن تفسير الاحلام )
أطرق الباب فتفتحه سعاد ( أثنينهم هنا ) تقول وهي تقبل رأس جعفر. تساعدني في ادخال كرسيه من الباب الضيق. أقرص مؤخرتها، فتضرب يدي بحذر لكي لاينتبه جعفر.
في الغرفة كنبة خشبية من دون فرش يجلس فوقها صالح القصاب. علاوي يجلس علي الارض متربعا وبين اصابعه مسبحة خضراء. وهي نفس طريقة جلوسه حين يخفي سكينا.
يقول جعفر وهويصافح صالح:
بابا علاوي قم واقعد علي الكنبة.
يرد علاوي باعتزاز:
عمري ماجلست فوق كرسي أوكنبة
- تقصد كل عمرك ؟!
- طبعا.
- كوّاد هوانت عمرك 15 سنة... اللي يسمعك يقول عمر ديناصور
يطلق جعفر ضحكته المدوية وهويعدّل صورة أبيه علي الجدار.
تختفي سعاد في المطبخ وأجلس انا قرب القصاب. يعدل جعفر كرسيه كي يكون قبالتنا. تعود سعاد بصينية الشاي تجلس علي السجادة قرب علاوي وتصب الشاي، وهي توزع ابتسامتها التي كلها مودة، علي الجميع, ومرات تغمز إليّ. ارسل لها قبلة في الهواء. فيلتفت الي جعفر ويقول:
عيني طيور الحب...يعني عدنا شغل هسه... من يخلص الاجتماع, شمّر الها بوسات علي راحتك.
القصاب ينطق بصوته النسائي العجيب:
هسه ياجعفر... اللي يسمعك يقول اجتماع حزب سري راح يغيّر الدنيا... هن كم سكين نخفيهن وسعاد ترجعهن وأبوك الله يرحمه.. وصار 10 سنين علي هاي الحال.
يضحك علاوي ويقول:
اني كل عمري خفيت السكاكين.. بس اريد اخفي بعد وبعد وما ادري ليش...
يغير جعفر الكلام ويسأل علاوي هل ستأتي اليوم أم ابتسام. يجيب بأنه متأكد هذه المرة! فهي أقسمت له ب( العباس أبوفاضل ) ثلاث مرات بأنها ستأتي و(...أكيد هي هسه بالطريق...أنت تعرف الأميركان الخره سادين نص الشوارع... )
2
كنا كعائلة واحدة. لا نتقاسم مواهبنا في التعامل مع السكاكين فحسب، بل ايضا مشاكلنا وافراحنا وجهلنا في هذه الحياة. طوال سنوات, تقلبت أحوالنا، وعصف بنا اليأس بمختلف أشكاله،أصابتنا أكثر من مرة الخيبة بالسكاكين, وهناك الهموم الأخري للحياة. وكدنا نفترق اكثر من مرة. لكننا كنا مشدودين بغرابة ومتعة مواهبنا عدا صالح القصاب، فالسكاكين كانت سلوتنا ومصدر حيرتنا المثيرة.
عشر سنوات مضت منذ ان صرنا فريقا في لعبة السكاكين. علاوي انضم الينا قبل ثلاث سنوات. واصلت انا دراستي، دخلت كلية التربية. سعاد صارت في السادس العلمي. حلمها كلية الطب. صالح القصاب وسّع محله وطلق زوجته ام اولاده وتزوج شابة صغيرة سمعتها سيئة في الحي. عثر جعفر، لعلاوي علي عمل في مصنع للاحذية النسائية. لم يكن جعفر يريد ان يبقي علاوي في السوق يلعب بالسكاكين. اما جعفر نفسه، فكما هو، كرة قدم وتحكيم ودومينوومقهي وحرص دائم علي أن لاينفرط عقد جماعتنا، ومواصلته الجادة في البحث عن مواهب جديدة في الكرة ولعبة السكاكين أيضا. كان علي اعتقاد بان مواهبنا مع السكاكين هي رسالة خفية، ستغير البلاد. اما كيف ولماذا ومتي، فكلهاعلامات استفهام لكن لاشأن له بها: - بحياتي آني حتي جريدة ما قاري, شلون اقدر افهم سر السكاكين!
كنت والقصاب وعلاوي وجعفر نملك القدرة علي اخفاء السكاكين، اما سعاد فهي الوحيدة التي تتمكن من إعادتها
تسأل سعاد ان ماكانت السيدة، أم ابتسام، تشرب شيئا.
( قهوة، شكرا )
يحاول جعفر تبديد شعورالمرأة بأنها محرجة, ويبدأ حديثا عن ارتفاع أسعار الخضراوات، ساخرا من استيراد الخضر من الدول المجاورة، ونحن الذين نملك نهرين وأراض خصبة،. ثم يقفز الي موضوع ارتفاع اسعار الغاز والنفط, ونحن الذين نملك اكبر احتياطي خره اسود في العالم!
تقدم سعاد القهوة لأم ابتسام وتعود الي مكانها. ترتشف القهوة, وتقول لعلاوي، بأنها علي عجلة ولابد من أن تعود الي أولادها. علاوي هومن عثر علي أم أبتسام. يقول, أنه كان في جولة في الأزقة البغدادية القديمة وسط العاصمة، عندما انتبه الي دكان صغير لا تباع فيه سوي السكاكين بمختلف أشكالها وأحجامها. دخل الدكان وراح يقلب السكاكين. اقتربت منه امرأة خمسينية وعرضت عليه المساعدة. قال لها انه يبحث عن سكين صغيرة كان قد فقدها قبل سنوات، مقبضها علي شكل سمكة قرش. رمقته المرأة بنظرة قلقة وقالت انها تبيع السكاكين ودكانها غير مخصص للمفقودات! باغتها علاوي، كما يقول، بالسؤال عما إذا كانت تعرف إخفاء السكاكين. ردت عليه بانها لاتفهم ما يعنيه، وعرضت عليه سكينا صغيرة تلتف أفعي علي مقبضها. قلّبها علاوي,
وقال للمرأة انه يعرف كيف يخفيها! جلس وسط الدكان، وبعد 30 ثانية من التركيز ودمعتين اختفت السكين. ارتبكت المرأة وطلبت من علاوي الانصراف فورا.
أنصرف علاوي، وعاد في اليوم التالي. أخبرها ان كل ما يريده الحديث معها.لكنها لم ترد سماعه. لكن علاوي قال بخبث ووعيد, بامكانه اخفاء كل سكاكين الدكان مرة واحدة.
قال لها علاوي وجلس علي ارضية الدكان متربعا.ثم سألها هل تريد مشاهدة عرض آخر في اخفاء السكاكين. لم تجب، وبقيت تحملق فيه بريبة وهي تحمل السكين في يدها. راح علاوي يحدثها ومن دون مقدمات عن موهبة اخفاء السكاكين واعادتها وعن جماعتنا. وكانت هذه إحدي حماقاته الكبيرة، فنحن كنا حذرين في الحديث عن الجماعة مع الآخرين. لكن علاوي كان قد قضي أوقاتا طويلة في السوق ولايأبه لاستعراض عضلاته أمام الآخرين!
قال علاوي: وجه المرأة أصبح بلون الطماطمة وانا احدثها عن لعبة السكاكين. جلست فوق كرسي امامي ووضعت السكين علي فخذها. ثم أخذت تبكي بحرقة. بعدها نهضت فجأة واغلقت باب الدكان. مسحت دموعها وحدثته عن حكاية دكان السكاكين، بعد ان اخذت منه وعدا بألا يفشي سرها!
كانت المرأة أما لخمس بنات. قتل زوجها في تفجير لسيارة مفخخة شطرت جسم الزوج الي نصفين امام وزارة الداخلية. كان زوجها يريد التطوع للشرطة بعد ان يئس من العثورعلي عمل. كانت كارثة. لم تعرف المرأة كيف ستعول بناتها. وكان حزنها علي زوجها يمزق قلبها ويحرمها من النوم. فالكوابيس هاجمتها: شاهدت رجلا ضخما يذبح زوجها بسكين. وهذا الكابوس تكرر كثيرا. وفي كل مرة يذبح الزوج بسكين أخري. قالت ام ابتسام لعلاوي، إنها لم تفهم ظهورالسكاكين في نومها!
بعد شهر واحد علي تكرر تلك الكوابيس. عثرت أم أبتسام علي سكين في حديقة المنزل الخلفية. كانت سكينا قديمة. اتصلت المرأة بأخيها، فقد اصابها الهلع من ظهور السكين في الحديقة. أخذ الرجل يسأل الجيران عن السكين لكنهم نفوا إن كانت لهم. أثارت السكين اهتمام الرجل.قال إنها تبدوكسكين أثرية. طمأنها واخبرها انه سيطلب من ابنه الكبير المبيت كم ليلة معها ومع بناتها. عاد الأخ بعد اسبوع بمبلغ جيد فقد باع السكين في سوق التحف. وقال لها ان السكين ثمينة فهي تعود الي الفترة العثمانية. مازح الاخ اخته، قائلا: ليتك تعثرين علي سكاكين اخري تجعلنا أثرياء حقا!
وقالت أم أبتسام إن الكوابيس الليلية كفت عن الظهور. لكن في الحديقة ظهرت في المكان نفسه ست سكاكين لكنها سكاكين مطبخ. احتفظت أم ابتسام بالسكاكين ولم تخبر اخيها هذه المرة. ثم ظهور السكاكين,وفي الأخير أخبرت الأخ. لم يخبرا أحدا بسر السكاكين فهم أنتظروا الي متي ستبقي السكاكين تظهر في الحديقة. لكنها استمرت بالظهور. ونادرا ما ظهرت سكين قديمة. ظهرت مرة سكين من العصر العباسي باعها الاخ في السوق السوداء للتحف، بمبلغ كبير، وقال لأخته إن الله يبعث لها برزقها ورزق بناتها، لأن زوجها مات مظلوما. وطرح عليها فكرة فتح دكان لبيع السكاكين. استأجر الأخ دكانا صغيرا قريبا من بيتها, وهكذا راحت أم أبتسام تبيع السكاكين...
راحت أم ابتسام تستحلف جعفر أن يحفظ سرها، فهومصدر معيشتها. لم تضف شيئا الي ما روته لعلاوي الذي كان قد دعاها لحضور اجتماعنا. يقسم جعفر لها بالله وشرفه بأن يحفظ سرها، وعرض عليها الانضمام الي جماعتنا. لكنها لم تستجب لذلك, فكل ما تريده أن نتركها لحالها. تعانق سعاد أم ابتسام، والدموع في أعينهما, وربما لغرابة أوجاع هذه الحياة!
ترافقها سعاد الي الباب وتسلمها كيسا من الكعك قائلة: هدية بسيطة للبنات.
ألتزمنا جميعا الصمت. إذن هناك سكاكين تظهر في أمكنة أخري! ياله من لغز يعقد
المسألة!
ندخن كلنا, جعفر صالح وعلاوي وأنا, كذلك سعاد التي تستل سيجارة من علبتي. رغم انها لا تدخن عادة. ننتبه الي سحابة الدخان الكثيفة في الغرفة وننفجر بالضحك معا. ويأخذ جعفر بالسعال وكأنه عجوز هرم. نخرج سكاكيننا ونبدأ اللعب. أحدثهم عن أول كتاب في تفسير الأحلام. حيث ظهر في لوح من لكش السومرية. يقال ان ملك لكش غوديا كان يصلي في المعبد. ثم غط في النوم فجأة...
أنا أروح لشغلي
يقول القصاب بصوته النسائي وينصرف.
4
بعد عام من تخرجي من كلية التربية اختفي جعفر الحكم فجأة. لم نترك مستشفي اومركز شرطة لم نبحث فيه عنه. اتصلنا بناس لهم علاقات ببعض الجماعات المسلحة وبآخرين يعملون كعصابات للخطف. لكن بلا نتيجة، وكأن الارض قد ابتلعته كما الألوف في هذه البلاد. سعاد حامل في شهرها الثاني, وأجلت دراستها في كلية الطب. أنا قلقت كثيرا عليها. فقد كانت محبطة وحزينة مثل طائر كسرت العاصفة جناحيه.
حزن أولاد قطاع 29 علي اختفاء جعفر. ونظموا بأنفسهم بطولة كروية لفرق القطاعات الاخري، وسموها ( بطولة جعفر الحكم ) ووجهوا لي الدعوة للتحكيم في المباراة النهائية.
مرت الايام ثقيلة وكئيبة. كما وجه البلاد البائس. وكأن الحروب والعنف صارتا ماكنة للنسخ. ونحن أصبحنا مثل قناع واحد، مادته الوجع والعذاب. نطارد لقمة العيش بصدور أثقلها الحزن والمخاوف التي أفرزها المجهول والمعلوم. لم تعد لعبتنا جالبة المسرة. فالزمن بعثر مواهبنا الغامضة تلك. تهاوينا واحدا تلوالاخر، وكأننا دمي من زجاج مطروحة في هذا العالم. انفرط عقد جماعتنا. لم تعد هناك لقاءات ولا نقاشات. سحقت الكراهية أصابعنا الطفولية. سحقت عظامنا.
لم يكن من السهل علي خريج حديث العهد مثلي الحصول علي عمل. كانت الجماعات الدينية قد فتحت مدارس لحفظ القرآن. عرضوا علي العمل في مدارسهم الي أن احصل علي وظيفة حكومية. انخرطت في تعليم الاولاد القرآن، وتركت أمر السكاكين. ومن وقت الي آخر كتبت قصائد غاضبة وعدوانية لامعني لها.
هجر علاوي العاصمة وراح يطوف في مدن الجنوب. يتجول في الاسواق عارضا موهبته في اخفاء السكاكين مقابل اجور زهيدة، الي ان وصلت الينا آخر أخباره: سطا علي مطعم، وقبضوا عليه وهويسرق السكاكين من المطبخ. دخل السجن وانقطعت اخباره. واصلت سعاد الطيبة والمحبة زيارة صالح القصاب كي تعيد له سكاكينه. وكان صالح يقدم لنا، افضل مالديه من قطع اللحم مقابل إعادة سكاكينه.
ذات صباح شتوي كنت ألقن الاولاد في المدرسة سورة الحديد، حين دخل المدير واخبرني ان شابا غريبا يريد الكلام معي في أمر مهم!
كان شابا طويلا في أواسط العشرين, اسمه حسن، وقال انه يريد ان يحدثني بخصوص جعفر الحكم. استأذنت من المدير وذهبت برفقة الشاب الي المقهي القريب. طلبنا شايين، واخبرني بما حدث لجعفر:
كانت القوات الأمنية قد حررت بعض المخطوفين من وكر للارهابيين. وكان، حسن، من ضمن المحررين. يقول إنه تعرف علي جعفر في سجن الارهابيين في بيت في مزرعة علي أطراف العاصمة. اختطفوا جعفر لأنه كان يتاجر بالمجلات السكسية في احد الاحياء الغنية التي يقطنها ظباط شرطة وجنود. يقول، حسن، إنهم عذبوه بطريقة بشعة. قال الارهابيون لجعفر ( ان الله عاقبه ببتر ساقيه في الحرب، ولكنه جعفر لم يتب, بل واصل بيع صور الفسق والفجور ) لذلك قررت الجماعة الارهابية بتر ذراعي جعفر ليكون عبرة لكل فاسق كافر. جمع الإرهابيون كل المخطوفين لمشاهدة عملية بتر ذراعي جعفر. لم نكن نصدق ماحدث, يقول حسن, كانت السيوف تختفي من قبضات الارهابيين كلما اقتربوا من جعفر وكانت الدموع تسيح من عينيه. لم يبق سيف ولا سكين واحدة لدي الارهابين. ارتعبوا من جعفر وقالوا انه شيطان! جردوه من ملابسه أمام اعيننا وصلبوه علي الجدار. دقوا المسامير في كفيه، وراح يتلوي من الألم، عاريا، من دون ساقين. قرروا ان يبتروا ذراعيه عن طريق الرصاص. وقف امامه رجلان وامطرا ذراعيه بزخات الرصاص. اصابت احدي الرصاصات قلبه فمات فورا. سحلوا الجثة الي النهر. جمعوا اغصانا يابسة وصبوا البنزين. احرقوه وهم يكبّرون باسم الله.
رزقنا انا وسعاد بولد جميل. اسميناه جعفر. واصلت عملي في المدرسة الدينية. لم أتمكن أبدا من إخبار سعاد بماحدث لاخيها جعفر. كتمت الرعب الذي سببه موته, وزدت من حبّي لسعاد. كانت أملي الوحيد في هذه الحياة. وقد عادت هي الي كلية الطب. وأخذ الزمن يداوي الجروح ببطء وحذر.
جاءت إلينا أم ابتسام. كانت امورها المادية قد تحسنت كثيرا.قالت اننا ناس طيبون وانها لم تنسانا. عرضت علينا ان تفتح لنا دكانا كبيرا في الحي لبيع السكاكين.
كانت تجارتنا مربحة. رغم انني كنت اخفي في بعض الأحيان سكينا وأخري من دون قصد. في الليل أبدأ بتقبيل أصابع قدمي سعاد ثم ازحف الي فخذيها ثم الي سرتها ثم الي نهديها وأبطيها ورقبتها الي ان اصل الي اذنها فأهمس: حبيبتي احتاج الي مساعدة!
تقرصني من مؤخرتي بقوة ثم تركب فوق صدري, تخنقني بيديها وتقول ( ها يا ملعون هم خفيت كم سكين... ماراح ارجعهن الي أن تبوسني الف بوسة وبوسة )
اقبل كل مسامات جسدها بشغف وتقديس وكأنها الحياة التي ستختفي بعد قليل.
عندما بلغ جعفر الخامسة من عمره. ظهرت موهبته: كان مثل أمه يعيد السكاكين المخفية!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.