مصدر أميركي: انفجار رفح نجم عن خطأ "إسرائيلي".. ترامب يتدخل: المعبر يُفتح رغم التصعيد    بعد فشل الاحتلال فى معركة طوفان الأقصى…هل يسعى ناصر القدوة للقضاء على حماس بسلاح الدبلوماسية؟    بالتزامن مع رفع "المنقلب " الوقود على المصريين .. لماذا استجاب ملك المغرب لجيل "زد " واحتفى بمطالبهم ؟    كيف تعدل المركز الانتخابي قبل بدء التصويت في انتخابات مجلس النواب؟ الوطنية للانتخابات تجيب    فيضانات مدمّرة تجتاح ألاسكا وحاكمها يطالب ترامب بإعلان حالة كوارث كبرى (صور)    انتخابات الأهلي - ياسين منصور يكشف حقيقة استقالته من شركة الكرة.. ولقاءه مع توروب    تامر مصطفى ل في الجول: مباراة الأهلي صعبة ولكن    آلام الضهر تؤجل عودة عبد الله السعيد للزمالك    كرة سلة – جراحة ناجحة ل تمارا نادر السيد.. وتغيب عن الأهلي عدة شهور    حاصل على لقب "أستاذ كبير"، وفاة لاعب الشطرنج دانييل ناروديتسكي بعمر 29 عاما    القبض على زوج ألقى بزوجته من شرفة المنزل في بورسعيد    السيطرة على حريق داخل مستشفى خاصة بالمنيا دون خسائر بشرية    أول تحرك من أوقاف الإسكندرية في محاولة سرقة مكتب بريد عبر حفر نفق من داخل مسجد    هل تفكر هنا الزاهد في تكرار تجربة الزواج مرة أخرى؟ الفنانة ترد    أهلي جدة يحقق فوزًا مهمًا على الغرافة في دوري أبطال آسيا    متى وكيف تقيس سكر الدم للحصول على نتائج دقيقة؟    الأخبار العربية والعالمية حتى منتصف الليل.. حماس: ملتزمون بوقف إطلاق النار والاحتلال لديه ثوابت لاختراق الاتفاق.. ترامب يهدد بفرض رسوم على الصين تصل ل175%.. جهود لإنقاذ ناقلة نفط تشتعل بها النيران في خليج عدن    أخبار 24 ساعة.. صدور قرارات جمهورية بتعيين قيادات جامعية جديدة    وزارة العمل: قرارات زيادة الأجور لا تصدر بشكل عشوائي بل بعد دراسات دقيقة    متحدث الحكومة: نهدف لتيسير الخدمات الحكومية من أجل المواطن والمستثمر    إرسال عينات الدم المعثور عليها فى مسرح جريمة تلميذ الإسماعيلية للطب الشرعى    على طريقة فيلم لصوص لكن ظرفاء.. حفروا نفقا داخل مسجد لسرقة مكتب بريد "فيديو"    النواب البحريني: نتطلع لتهيئة مسار سلام يعيد الحقوق المشروعة لشعب فلسطين    بسمة داوود تكشف لتليفزيون اليوم السابع سبب توترها على الريدكاربت بالجونة    الموت يفجع الفنان حمدي الوزير.. اعرف التفاصيل    بالصور.. وزير الثقافة يقدم واجب العزاء في والدة أمير عيد    زيلينسكي: نسعى لعقد طويل الأمد مع أمريكا لشراء 25 منظومة باتريوت    شوربة الشوفان بالدجاج والخضار، وجبة مغذية ومناسبة للأيام الباردة    توم براك يحذر لبنان من احتمال مهاجمة إسرائيل إذا لم ينزع سلاح حزب الله    تحالف مصرفي يمنح تمويل إسلامي بقيمة 5.2 مليار جنيه لشركة إنرشيا    الخطيب يهنئ «رجال يد الأهلي» ببطولة إفريقيا    فى عيدها ال 58.. اللواء بحرى أ.ح. محمود عادل فوزى قائد القوات البحرية :العقيدة القتالية المصرية.. سر تفوق مقاتلينا    هل يشترط وجود النية في الطلاق؟.. أمين الفتوى يجيب    هل يجب القنوت في صلاة الوتر؟.. أمين الفتوى يجيب    هل تجوز الأضحية عن المتوفى؟.. أمين الفتوى يجيب    جامعة قناة السويس تعلن نتائج بطولة السباحة لكلياتها وسط أجواء تنافسية    أشرف عبد الباقي عن دوره في «السادة الافاضل»: ليس عادياً ومكتوب بشياكة    أول وحدة لعلاج كهرباء القلب بالفيوم    حقيقة مفاوضات حسام عبد المجيد مع بيراميدز    نقابة الأشراف تعليقا على جدل مولد السيد البدوي: الاحتفال تعبير عن محبة المصريين لآل البيت    متحدث الحكومة: سنبحث تعميم الإجازة يوم افتتاح المتحف الكبير    بريطانيا تتراجع 5 مراتب في تصنيف التنافسية الضريبية العالمي بعد زيادة الضرائب    وكيل تعليم الفيوم يشيد بتفعيل "منصة Quero" لدى طلاب الصف الأول الثانوي العام.. صور    أمينة الفتوى: الزكاة ليست مجرد عبادة مالية بل مقياس لعلاقة الإنسان بربه    محمد الحمصانى: طرحنا أفكارا لإحياء وتطوير مسار العائلة المقدسة    على الطريقة الأجنبية.. جددي من طريقة عمل شوربة العدس (مكون إضافي سيغير الطعم)    هشام جمال يكشف تفاصيل لأول مرة عن زواجه من ليلى زاهر    مركزان ثقافيان وجامعة.. اتفاق مصري - كوري على تعزيز التعاون في التعليم العالي    قرار وزارى بإعادة تنظيم التقويم التربوى لمرحلة الشهادة الإعدادية    الذكاء الاصطناعي أم الضمير.. من يحكم العالم؟    مجلس إدارة راية لخدمات مراكز الاتصالات يرفض عرض استحواذ راية القابضة لتدني قيمته    ضربه من الخلف وقطّعه 7 ساعات.. اعترافات المتهم بقتل زميله وتقطيعه بمنشار في الإسماعيلية    «العمل»: التفتيش على 1730 منشأة بالمحافظات خلال 19 يومًا    لعظام أقوى.. تعرف على أهم الأطعمة والمشروبات التي تقيك من هشاشة العظام    الرئيس السيسي يوجه بمواصلة جهود تحسين أحوال الأئمة والخطباء والدعاة    علي هامش مهرجان الجونة .. إلهام شاهين تحتفل بمرور 50 عامًا على مشوار يسرا الفني .. صور    طالب يطعن زميله باله حادة فى أسيوط والمباحث تلقى القبض عليه    التنظيم والإدارة يعلن عن مسابقة لشغل 330 وظيفة مهندس بوزارة الموارد المائية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ألف سگين وسگين
نشر في أخبار الأدب يوم 22 - 11 - 2014


1
في الظهيرة ينتظر جعفر الحكم في رأس الزقاق وهويعلق في رقبته منظارا عسكريا وفي حضنه كرة. يصل الاولاد تباعا، يحيطون بجعفر وهم يمازحونه ويتحدثون بشغف عن مهاجم فريق القطاع 32، جعفر يطمئنهم:
- احنا عدنا علّاوي السبع... إنه ميسي قطاع 29.
يتناوب الأولاد علي دفع كرسي جعفر المتحرك. أحدهم يقول: فريق قطاع 32 ربما يجلبون معهم حكما من عندهم.
لايأبه جعفر لهذا الكلام. يخبرهم أنه يعرف كيف سيتصرف. يصلون الي الساحة, يرمي جعفر الكرة. فيجري الاولاد خلفها.
جعفر في الخامسة والاربعين من عمره، لكنه مازال ابن البارحة. بروحه الرياضية ونشاطه وارادته التي تدهش اصدقاءه وأعداءه القلة. كان اشهر من يلعب البليارد في قطاع 29. وحين كان هاربا من الجيش ،لم تتمكن قوات الانضباط العسكري من الامساك به،كان مثل الجن، لكن إدمانه علي صالات البليارد دمر حياته، حاصره افراد الانضباط العسكري ذات مساء في صالة الخرسان للبليارد في الكرادة, كان ينافس أشهر لاعبي الكرادة. بعدها لم يعد جعفر من الجبهة في حرب الكويت الا بعد ان بترت ساقيه. و( حميد خوش ولد. ابن عائلة وزلمة) هكذا يراه اهل القطاع! لكن بعضهم كان يعيب عليه شغفه بكرة القدم وملازمته لفتيان القطاع وهو في هذه السن. لم يكن جعفر يكترث كثيرا لمثل هذا الكلام, فعلي الصغار أن يتعلموا أصول اللعبة, وهكذا كان ينظم لهم المباريات ويقوم بدور الحكم فيها. كان يذكر منتقديه بلاعب المنتخب الوطني الشهير، الذي خرج من ملاعب قطاع 29 ( ومن بين يديّ هاتين ) وفي كل مرة يضيف قائلا: وستخرج معجزة تنقذ البلاد برمتها من بين يديّ ايضا!!
علي طرف الساحة هناك حاوية نفايات كبيرة يخرج منها دخان ابيض يملأ الساحة برائحة عطنة. تخرج نساء بعباءات ومن دونها من البيوت المحيطة بالساحة وهن يحملن أكياس الزبالة. يراقبهن جعفر بمنظاره العسكري, بينما يركض الاولاد متصايحين وراء الكرة. كذلك يتابع جعفر بمنظاره لعب الاولاد. وبعدها يصل فريق قطاع 32 الي الساحة مع شاب ملتح يتفق جعفر معه علي بأن يقوم بتحكيم الشوط الاول، والملتحي الشوط الثاني. وتبدأ المباراة. جعفر يدفع بقوة وسرعة عجلتي كرسيه وهويروح ويجيء بعصبية وشغف, يصرخ بالأولاد, مشجعا وموبخا. وحين يبتعدون عنه يتابعهم بمنظاره. ( كووووووووووووول ) يصيح جعفر. يعترض حكم قطاع 32 علي جعفر بسبب تشجيعه لفريقه وعدم حياديته. يتجاهل جعفر هذا الأعتراض, ويراقب بمنظاره ركب الأولاد وسيقانهم حين يسقطون علي الارض. يخاف عليهم وكأنهم أبناؤه الحقيقيين. لمرات كان يسهو ويري للحظات الأولاد وكأنهم أشباح تتقاتل! يخطف في ذاكرته دوي القذائف في الجبهة. لكنه يعود الي المباراة وينفخ الصفارة في فيه بكل حماس وحب, معلنا ضربة جزاء. يتصبب عرقا وهويدفع بكل مالديه من قوة عجلتي كرسيه للحاق بالاولاد الذين يتراكضون خلف الكرة بسرعة الغزلان, وحين يصعب اللحاق بهم وتكون الكرة بعيدة في الطرف الثاني من الساح، يستخدم جعفر الحكم منظاره لمتابعة المباراة...
يصفر جعفر ( فاول.... )
( بالعبّاس موفاول جعفر... ) يعترض احد الاولاد.
( أكول فاول, لا تناقش زمال.. )
( جعفر أنته كنت بعيد.... )
( لك حيوان، هذا شنو ،قابل آني أعمي.... ) يقول وهويشير الي منظاره.
تنتهي المباراة بالتعادل 2. 2 ويدفع الاولاد كرسي جعفر حتي المقهي. يودعهم ويوصيهم بالاستعداد لمباراة الاسبوع المقبل مع فريق قطاع 52.
يلعب جعفر الدومينوفي مقهي الشعب وهويحلل للاخرين مستوي الأندية الاسبانية. تدوي ضحكته في المقهي وتحرك صورة الأمام الكبيرة المعلقة علي الحائط. يقول صاحب المقهي ان الامريكان سيفتشون القطاع الليلة بحثا عن الاسلحة...
( ماذا يريدون عصابات الكاوبوي هؤلاء.. بتروا ساقي في حرب الكويت...ماذا يريدون بعد... خراء عليهم.. يوما ما ستذهب امريكا الي الخراء...). يقول جعفر بعصبية، ثم يغير موضوع الحديث الي كرة القدم. يبدأ الشجار والضحك بينه وبين مشجعي ( ريال مدريد). جعفر( برشلوني) متعصب وبضع مرات ( ليفربولي ).
انتظره في باب المقهي. يخرج وهويقهقه، ثم يسدد لكمة محبة قوية في معدتي.أدفع كرسيه ونعبر الشارع. يسألني عن أحوال أخته ( زوجتي ). أجيبه: بخير.
(هل ستخفي اليوم سكينا! ) يسأل وهويسعل، فهومدخّن مزمن.
( لا... ربما سأتحدث قليلا عن تفسير الاحلام )
أطرق الباب فتفتحه سعاد ( أثنينهم هنا ) تقول وهي تقبل رأس جعفر. تساعدني في ادخال كرسيه من الباب الضيق. أقرص مؤخرتها، فتضرب يدي بحذر لكي لاينتبه جعفر.
في الغرفة كنبة خشبية من دون فرش يجلس فوقها صالح القصاب. علاوي يجلس علي الارض متربعا وبين اصابعه مسبحة خضراء. وهي نفس طريقة جلوسه حين يخفي سكينا.
يقول جعفر وهويصافح صالح:
بابا علاوي قم واقعد علي الكنبة.
يرد علاوي باعتزاز:
عمري ماجلست فوق كرسي أوكنبة
- تقصد كل عمرك ؟!
- طبعا.
- كوّاد هوانت عمرك 15 سنة... اللي يسمعك يقول عمر ديناصور
يطلق جعفر ضحكته المدوية وهويعدّل صورة أبيه علي الجدار.
تختفي سعاد في المطبخ وأجلس انا قرب القصاب. يعدل جعفر كرسيه كي يكون قبالتنا. تعود سعاد بصينية الشاي تجلس علي السجادة قرب علاوي وتصب الشاي، وهي توزع ابتسامتها التي كلها مودة، علي الجميع, ومرات تغمز إليّ. ارسل لها قبلة في الهواء. فيلتفت الي جعفر ويقول:
عيني طيور الحب...يعني عدنا شغل هسه... من يخلص الاجتماع, شمّر الها بوسات علي راحتك.
القصاب ينطق بصوته النسائي العجيب:
هسه ياجعفر... اللي يسمعك يقول اجتماع حزب سري راح يغيّر الدنيا... هن كم سكين نخفيهن وسعاد ترجعهن وأبوك الله يرحمه.. وصار 10 سنين علي هاي الحال.
يضحك علاوي ويقول:
اني كل عمري خفيت السكاكين.. بس اريد اخفي بعد وبعد وما ادري ليش...
يغير جعفر الكلام ويسأل علاوي هل ستأتي اليوم أم ابتسام. يجيب بأنه متأكد هذه المرة! فهي أقسمت له ب( العباس أبوفاضل ) ثلاث مرات بأنها ستأتي و(...أكيد هي هسه بالطريق...أنت تعرف الأميركان الخره سادين نص الشوارع... )
2
كنا كعائلة واحدة. لا نتقاسم مواهبنا في التعامل مع السكاكين فحسب، بل ايضا مشاكلنا وافراحنا وجهلنا في هذه الحياة. طوال سنوات, تقلبت أحوالنا، وعصف بنا اليأس بمختلف أشكاله،أصابتنا أكثر من مرة الخيبة بالسكاكين, وهناك الهموم الأخري للحياة. وكدنا نفترق اكثر من مرة. لكننا كنا مشدودين بغرابة ومتعة مواهبنا عدا صالح القصاب، فالسكاكين كانت سلوتنا ومصدر حيرتنا المثيرة.
عشر سنوات مضت منذ ان صرنا فريقا في لعبة السكاكين. علاوي انضم الينا قبل ثلاث سنوات. واصلت انا دراستي، دخلت كلية التربية. سعاد صارت في السادس العلمي. حلمها كلية الطب. صالح القصاب وسّع محله وطلق زوجته ام اولاده وتزوج شابة صغيرة سمعتها سيئة في الحي. عثر جعفر، لعلاوي علي عمل في مصنع للاحذية النسائية. لم يكن جعفر يريد ان يبقي علاوي في السوق يلعب بالسكاكين. اما جعفر نفسه، فكما هو، كرة قدم وتحكيم ودومينوومقهي وحرص دائم علي أن لاينفرط عقد جماعتنا، ومواصلته الجادة في البحث عن مواهب جديدة في الكرة ولعبة السكاكين أيضا. كان علي اعتقاد بان مواهبنا مع السكاكين هي رسالة خفية، ستغير البلاد. اما كيف ولماذا ومتي، فكلهاعلامات استفهام لكن لاشأن له بها: - بحياتي آني حتي جريدة ما قاري, شلون اقدر افهم سر السكاكين!
كنت والقصاب وعلاوي وجعفر نملك القدرة علي اخفاء السكاكين، اما سعاد فهي الوحيدة التي تتمكن من إعادتها
تسأل سعاد ان ماكانت السيدة، أم ابتسام، تشرب شيئا.
( قهوة، شكرا )
يحاول جعفر تبديد شعورالمرأة بأنها محرجة, ويبدأ حديثا عن ارتفاع أسعار الخضراوات، ساخرا من استيراد الخضر من الدول المجاورة، ونحن الذين نملك نهرين وأراض خصبة،. ثم يقفز الي موضوع ارتفاع اسعار الغاز والنفط, ونحن الذين نملك اكبر احتياطي خره اسود في العالم!
تقدم سعاد القهوة لأم ابتسام وتعود الي مكانها. ترتشف القهوة, وتقول لعلاوي، بأنها علي عجلة ولابد من أن تعود الي أولادها. علاوي هومن عثر علي أم أبتسام. يقول, أنه كان في جولة في الأزقة البغدادية القديمة وسط العاصمة، عندما انتبه الي دكان صغير لا تباع فيه سوي السكاكين بمختلف أشكالها وأحجامها. دخل الدكان وراح يقلب السكاكين. اقتربت منه امرأة خمسينية وعرضت عليه المساعدة. قال لها انه يبحث عن سكين صغيرة كان قد فقدها قبل سنوات، مقبضها علي شكل سمكة قرش. رمقته المرأة بنظرة قلقة وقالت انها تبيع السكاكين ودكانها غير مخصص للمفقودات! باغتها علاوي، كما يقول، بالسؤال عما إذا كانت تعرف إخفاء السكاكين. ردت عليه بانها لاتفهم ما يعنيه، وعرضت عليه سكينا صغيرة تلتف أفعي علي مقبضها. قلّبها علاوي,
وقال للمرأة انه يعرف كيف يخفيها! جلس وسط الدكان، وبعد 30 ثانية من التركيز ودمعتين اختفت السكين. ارتبكت المرأة وطلبت من علاوي الانصراف فورا.
أنصرف علاوي، وعاد في اليوم التالي. أخبرها ان كل ما يريده الحديث معها.لكنها لم ترد سماعه. لكن علاوي قال بخبث ووعيد, بامكانه اخفاء كل سكاكين الدكان مرة واحدة.
قال لها علاوي وجلس علي ارضية الدكان متربعا.ثم سألها هل تريد مشاهدة عرض آخر في اخفاء السكاكين. لم تجب، وبقيت تحملق فيه بريبة وهي تحمل السكين في يدها. راح علاوي يحدثها ومن دون مقدمات عن موهبة اخفاء السكاكين واعادتها وعن جماعتنا. وكانت هذه إحدي حماقاته الكبيرة، فنحن كنا حذرين في الحديث عن الجماعة مع الآخرين. لكن علاوي كان قد قضي أوقاتا طويلة في السوق ولايأبه لاستعراض عضلاته أمام الآخرين!
قال علاوي: وجه المرأة أصبح بلون الطماطمة وانا احدثها عن لعبة السكاكين. جلست فوق كرسي امامي ووضعت السكين علي فخذها. ثم أخذت تبكي بحرقة. بعدها نهضت فجأة واغلقت باب الدكان. مسحت دموعها وحدثته عن حكاية دكان السكاكين، بعد ان اخذت منه وعدا بألا يفشي سرها!
كانت المرأة أما لخمس بنات. قتل زوجها في تفجير لسيارة مفخخة شطرت جسم الزوج الي نصفين امام وزارة الداخلية. كان زوجها يريد التطوع للشرطة بعد ان يئس من العثورعلي عمل. كانت كارثة. لم تعرف المرأة كيف ستعول بناتها. وكان حزنها علي زوجها يمزق قلبها ويحرمها من النوم. فالكوابيس هاجمتها: شاهدت رجلا ضخما يذبح زوجها بسكين. وهذا الكابوس تكرر كثيرا. وفي كل مرة يذبح الزوج بسكين أخري. قالت ام ابتسام لعلاوي، إنها لم تفهم ظهورالسكاكين في نومها!
بعد شهر واحد علي تكرر تلك الكوابيس. عثرت أم أبتسام علي سكين في حديقة المنزل الخلفية. كانت سكينا قديمة. اتصلت المرأة بأخيها، فقد اصابها الهلع من ظهور السكين في الحديقة. أخذ الرجل يسأل الجيران عن السكين لكنهم نفوا إن كانت لهم. أثارت السكين اهتمام الرجل.قال إنها تبدوكسكين أثرية. طمأنها واخبرها انه سيطلب من ابنه الكبير المبيت كم ليلة معها ومع بناتها. عاد الأخ بعد اسبوع بمبلغ جيد فقد باع السكين في سوق التحف. وقال لها ان السكين ثمينة فهي تعود الي الفترة العثمانية. مازح الاخ اخته، قائلا: ليتك تعثرين علي سكاكين اخري تجعلنا أثرياء حقا!
وقالت أم أبتسام إن الكوابيس الليلية كفت عن الظهور. لكن في الحديقة ظهرت في المكان نفسه ست سكاكين لكنها سكاكين مطبخ. احتفظت أم ابتسام بالسكاكين ولم تخبر اخيها هذه المرة. ثم ظهور السكاكين,وفي الأخير أخبرت الأخ. لم يخبرا أحدا بسر السكاكين فهم أنتظروا الي متي ستبقي السكاكين تظهر في الحديقة. لكنها استمرت بالظهور. ونادرا ما ظهرت سكين قديمة. ظهرت مرة سكين من العصر العباسي باعها الاخ في السوق السوداء للتحف، بمبلغ كبير، وقال لأخته إن الله يبعث لها برزقها ورزق بناتها، لأن زوجها مات مظلوما. وطرح عليها فكرة فتح دكان لبيع السكاكين. استأجر الأخ دكانا صغيرا قريبا من بيتها, وهكذا راحت أم أبتسام تبيع السكاكين...
راحت أم ابتسام تستحلف جعفر أن يحفظ سرها، فهومصدر معيشتها. لم تضف شيئا الي ما روته لعلاوي الذي كان قد دعاها لحضور اجتماعنا. يقسم جعفر لها بالله وشرفه بأن يحفظ سرها، وعرض عليها الانضمام الي جماعتنا. لكنها لم تستجب لذلك, فكل ما تريده أن نتركها لحالها. تعانق سعاد أم ابتسام، والدموع في أعينهما, وربما لغرابة أوجاع هذه الحياة!
ترافقها سعاد الي الباب وتسلمها كيسا من الكعك قائلة: هدية بسيطة للبنات.
ألتزمنا جميعا الصمت. إذن هناك سكاكين تظهر في أمكنة أخري! ياله من لغز يعقد
المسألة!
ندخن كلنا, جعفر صالح وعلاوي وأنا, كذلك سعاد التي تستل سيجارة من علبتي. رغم انها لا تدخن عادة. ننتبه الي سحابة الدخان الكثيفة في الغرفة وننفجر بالضحك معا. ويأخذ جعفر بالسعال وكأنه عجوز هرم. نخرج سكاكيننا ونبدأ اللعب. أحدثهم عن أول كتاب في تفسير الأحلام. حيث ظهر في لوح من لكش السومرية. يقال ان ملك لكش غوديا كان يصلي في المعبد. ثم غط في النوم فجأة...
أنا أروح لشغلي
يقول القصاب بصوته النسائي وينصرف.
4
بعد عام من تخرجي من كلية التربية اختفي جعفر الحكم فجأة. لم نترك مستشفي اومركز شرطة لم نبحث فيه عنه. اتصلنا بناس لهم علاقات ببعض الجماعات المسلحة وبآخرين يعملون كعصابات للخطف. لكن بلا نتيجة، وكأن الارض قد ابتلعته كما الألوف في هذه البلاد. سعاد حامل في شهرها الثاني, وأجلت دراستها في كلية الطب. أنا قلقت كثيرا عليها. فقد كانت محبطة وحزينة مثل طائر كسرت العاصفة جناحيه.
حزن أولاد قطاع 29 علي اختفاء جعفر. ونظموا بأنفسهم بطولة كروية لفرق القطاعات الاخري، وسموها ( بطولة جعفر الحكم ) ووجهوا لي الدعوة للتحكيم في المباراة النهائية.
مرت الايام ثقيلة وكئيبة. كما وجه البلاد البائس. وكأن الحروب والعنف صارتا ماكنة للنسخ. ونحن أصبحنا مثل قناع واحد، مادته الوجع والعذاب. نطارد لقمة العيش بصدور أثقلها الحزن والمخاوف التي أفرزها المجهول والمعلوم. لم تعد لعبتنا جالبة المسرة. فالزمن بعثر مواهبنا الغامضة تلك. تهاوينا واحدا تلوالاخر، وكأننا دمي من زجاج مطروحة في هذا العالم. انفرط عقد جماعتنا. لم تعد هناك لقاءات ولا نقاشات. سحقت الكراهية أصابعنا الطفولية. سحقت عظامنا.
لم يكن من السهل علي خريج حديث العهد مثلي الحصول علي عمل. كانت الجماعات الدينية قد فتحت مدارس لحفظ القرآن. عرضوا علي العمل في مدارسهم الي أن احصل علي وظيفة حكومية. انخرطت في تعليم الاولاد القرآن، وتركت أمر السكاكين. ومن وقت الي آخر كتبت قصائد غاضبة وعدوانية لامعني لها.
هجر علاوي العاصمة وراح يطوف في مدن الجنوب. يتجول في الاسواق عارضا موهبته في اخفاء السكاكين مقابل اجور زهيدة، الي ان وصلت الينا آخر أخباره: سطا علي مطعم، وقبضوا عليه وهويسرق السكاكين من المطبخ. دخل السجن وانقطعت اخباره. واصلت سعاد الطيبة والمحبة زيارة صالح القصاب كي تعيد له سكاكينه. وكان صالح يقدم لنا، افضل مالديه من قطع اللحم مقابل إعادة سكاكينه.
ذات صباح شتوي كنت ألقن الاولاد في المدرسة سورة الحديد، حين دخل المدير واخبرني ان شابا غريبا يريد الكلام معي في أمر مهم!
كان شابا طويلا في أواسط العشرين, اسمه حسن، وقال انه يريد ان يحدثني بخصوص جعفر الحكم. استأذنت من المدير وذهبت برفقة الشاب الي المقهي القريب. طلبنا شايين، واخبرني بما حدث لجعفر:
كانت القوات الأمنية قد حررت بعض المخطوفين من وكر للارهابيين. وكان، حسن، من ضمن المحررين. يقول إنه تعرف علي جعفر في سجن الارهابيين في بيت في مزرعة علي أطراف العاصمة. اختطفوا جعفر لأنه كان يتاجر بالمجلات السكسية في احد الاحياء الغنية التي يقطنها ظباط شرطة وجنود. يقول، حسن، إنهم عذبوه بطريقة بشعة. قال الارهابيون لجعفر ( ان الله عاقبه ببتر ساقيه في الحرب، ولكنه جعفر لم يتب, بل واصل بيع صور الفسق والفجور ) لذلك قررت الجماعة الارهابية بتر ذراعي جعفر ليكون عبرة لكل فاسق كافر. جمع الإرهابيون كل المخطوفين لمشاهدة عملية بتر ذراعي جعفر. لم نكن نصدق ماحدث, يقول حسن, كانت السيوف تختفي من قبضات الارهابيين كلما اقتربوا من جعفر وكانت الدموع تسيح من عينيه. لم يبق سيف ولا سكين واحدة لدي الارهابين. ارتعبوا من جعفر وقالوا انه شيطان! جردوه من ملابسه أمام اعيننا وصلبوه علي الجدار. دقوا المسامير في كفيه، وراح يتلوي من الألم، عاريا، من دون ساقين. قرروا ان يبتروا ذراعيه عن طريق الرصاص. وقف امامه رجلان وامطرا ذراعيه بزخات الرصاص. اصابت احدي الرصاصات قلبه فمات فورا. سحلوا الجثة الي النهر. جمعوا اغصانا يابسة وصبوا البنزين. احرقوه وهم يكبّرون باسم الله.
رزقنا انا وسعاد بولد جميل. اسميناه جعفر. واصلت عملي في المدرسة الدينية. لم أتمكن أبدا من إخبار سعاد بماحدث لاخيها جعفر. كتمت الرعب الذي سببه موته, وزدت من حبّي لسعاد. كانت أملي الوحيد في هذه الحياة. وقد عادت هي الي كلية الطب. وأخذ الزمن يداوي الجروح ببطء وحذر.
جاءت إلينا أم ابتسام. كانت امورها المادية قد تحسنت كثيرا.قالت اننا ناس طيبون وانها لم تنسانا. عرضت علينا ان تفتح لنا دكانا كبيرا في الحي لبيع السكاكين.
كانت تجارتنا مربحة. رغم انني كنت اخفي في بعض الأحيان سكينا وأخري من دون قصد. في الليل أبدأ بتقبيل أصابع قدمي سعاد ثم ازحف الي فخذيها ثم الي سرتها ثم الي نهديها وأبطيها ورقبتها الي ان اصل الي اذنها فأهمس: حبيبتي احتاج الي مساعدة!
تقرصني من مؤخرتي بقوة ثم تركب فوق صدري, تخنقني بيديها وتقول ( ها يا ملعون هم خفيت كم سكين... ماراح ارجعهن الي أن تبوسني الف بوسة وبوسة )
اقبل كل مسامات جسدها بشغف وتقديس وكأنها الحياة التي ستختفي بعد قليل.
عندما بلغ جعفر الخامسة من عمره. ظهرت موهبته: كان مثل أمه يعيد السكاكين المخفية!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.