ستظل الأنثي وآلامها حاضرة بقوة في المشهد الروائي المصري ، لأنها الرحم الأول الذي خرج منه الإنسان ، فتشكلت الحياة من لحمها ودمها ، كي يعيش الإنسان حياة طبيعية ، تناسب أهدافه الخالدة التي خلقه الله لأجلها ، وعلي الرغم من أن المرأة المصرية تحديدا تخطط وتضع ميزانية البيت ، وتربي الأبناء وتسهم بشكل واسع في إحياء العدم داخل بيتها ، وكأنها هي التي تصنع الحياة كي نعيش داخلها ، ومن ثمَّ كانت المرأة هي المتن الحقيقي في بنية المجتمع المصري والعربي بشكل عام، ولكن المجتمع الشرقي كان دائما ما ينظر إليها بوصفها هامشا تابعا للمتن / الفحل ( وهو الرجل ) ، لأن الثقافة الذكورية مازالت تسيطر علي العقل الجمعي العربي ، وعلي تفكيره وتاريخه وجغرافيا سياساته ، ومنطقه الغريب الذي يسلب المرأة حقها الطبيعي في تقدمها ، وكي تصبح فاعلة بشكل أو بآخر في صياغة المتن اليومي الذي تعيشه منذ طلوع الفجر حتي رجوع زوجها من عمله وأبنائها من مدراسهم . تجلي ذلك من خلال رواية الحريم ، ( صدرت عن دار صفصافة للنشر ، القاهرة ، يونيه 2014 ) وهي الرواية الأحدث في كتابات الروائي المصري حمدي الجزار . جاءت رواية الحريم في عشرين فصلا روائيا قصيرا ، اعتمد الكاتب علي تقنية البورتريهات السردية الكاشفة التي يحكي فيها الراوي العليم عن شخصيات الرواية ، فكل فصل من الرواية يحكي الكاتب فيه عن شخصية أنثوية ما ، بمعني أن الرواية قامت علي استدعاء الوجوه النسوية التي تعيش في أمكنة وأزمنة هامشية ، رصدها الكاتب من خلال أمكنة تحمل تاريخا وأزمنة لها دلالاتها الخالصة لما تحمله من انتقال مجازي من المتن إلي الهامش مثل ( أحمد بن طولون والقلعة والخليفة والسيدة زينب ) ، وقد كانت هذه الأمكنة في عهد ابن طولون وعصر المماليك متنا قويا في حياة المصريين ، ثم تحولت هذه المنطقة ( مصر القديمة ) إلي هامش لافت في حياة المصريين ،وحضن للعشوائيات وبائعي المخدرات . اتكأ الروائي حمدي الجزار في البناء الكلي لرواية الحريم علي أسماء الشخصيات النسوية داخل الرواية كثيرا ، وهو ما تحدث عنه الراوي العليم أثناء توالد السرد المائي الخالص لبطون الحواديت البسيطة ، ثم توالت الفصول علي الترتيب داخل الرواية كالآتي ( روحية زبيدة كريمة بطة إيمان أُنْس لوزة زهرة زوجة أبي ريم رانيا أوفيليا حفصة أرزاق ساها ماري حُسْن أمي سلوي ) يمتلك حمدي الجزار أرضية واسعة للتحليق في بواطن السردي والشعري داخل العمل الروائي ، لأن لغة السارد لم تخلق من عدم أو كانت تحت إطارات المقطم مثلا ، بل إن هذه اللغة التي يكتب بها حمدي الجزار رواياته إنما هي لغة المصريين الذين تشربتها أجسادهم عبر القرون والحضارات المتعاقبة ،وعليه فقد جاءت لغة رواية الحريم تكشف عن مدي العمق الفني الذي تطرحه الجمل علي ألسنة الشخصيات ، فهي لغة ترتقي بالحس الإنساني البسيط ولا تتكبر عليه أو تسخر منه وتهين عقله البشري المحدود ، ونلاحظ ذلك في حديث الراوي عن فرج نجار الموبيليا ( الأب ) وعلاقته بزوجه بطة ( الأم) فيقول : " راح الأسطي فرج مسرعا للهدف الجلل كما هو ، ببنطلونه الكاكي القديم والصديري البلدي ، المبقع بالغراء الناشف فوق القميص المشمر حتي الكوعين ، هرول نحو المدرسة والقلم الكوبيا علي أذنه اليمني ، والدوسيه الورقي تحت إبطه " نلاحظ في لغة الجزار عمق المجتمع وبساطته ، فهي لغة كاشفة عن الحواديت التي تحملها شخصية فرج النجار ، وعند عودته إلي البيت منتصرا ، وقدم لابنه سيد في مدرسة ابن طولون الابتدائية ، يمنح السرد صورة أخري علي لسان الأم مخاطبة زوجها فيقول " سخرت أمي : " فتحت عكا يا خيَّ " فتتراوح مستويات اللغة في رواية الحريم ما بين الحنين إلي عوالم سابقة داخل الحياة المصرية حيث الذوق والرقة والاحترام ، والسخرية المحببة التي تعبر عن صورة الأم ، وهي تغسل في الطست ملابس عائلتها . هذان المستويان اللغويان يمنحان السرد حميمية التلقي ، ويحلقان بالمتلقي في عوالم تقترب من تفكيره البسيط، ولكنه لايمتلك أدوات التعبير عن أنفاس روحه وأرواح الأقربين ، كما تضيف اللهجة الشعبية حسا دافئا ببراءة الصورة السردية لحظة تلقيها ، كان نجيب محفوظ عبقريا في صياغة مثل هذه الجمل ، حيث كان حسيسا وواقعيا في علاقته باللغة الروائية تحديدا . تكشف رواية الحريم عن صورة المعاناة الحقيقية للمرأة المصرية ، وهي تحمل الحياة جانب زوجها كتفا بكتف ، تنسج من خيوط رأسها حياة لأطفالها العابرين ، كما جاء في حديث الراوي عن روحية الخياطة التي فصلت المريلة الأولي لسيد ( الطفل ) ومنحته حقيبة من القماش ، كي تدخل علي قلبه الفرحة الغائبة ، وهي تكد وتعمل من أجل تحقيق ذاتها وصبرها علي عدم زواجها وقد بلغت الأربعين من عمرها . وكانت روحية تلجأ كثيرا لزيارة الست سكينة وتتعلق بأركان مقامها باكية خاشعة راجية العفو والمغفرة ، وتتماس معها شخصية ( بطة ، وزوجة الأب ، وأمي ) هذه العناوين الثلاثة تتحدث عن شخصية واحدة لكنها تمارس أدوارا متعددة ومختلفة في الحياة تتغير بتغير الزمان ففي وقت الطفولة كانت ترعي سيد رعاية كاملة من ملبس ومأكل ومدرسة ، وفي وقت زوجة الأب كانت تربي سيد تربية قاسية بجوار والده حتي تورمت يداه في إحدي المرات التي ضربه والده علي يديه ليربيه علي طريقة الأحياة الشعبية وفي القري المصرية . والدور الأخير وهو دور الأم الكبيرة التي تبحث عن عروس لولدها سيد مدرس الفلسفة . حاول الكاتب أن يربط بين شخصياته النسوية ربطا وثيقا من خلال تركيبات الشخصية المختلفة أنهن علي علاقة ما بالسارد أو الذات الساردة التي تحمل المشاهد الروائية علي كاميرا تربط الأحداث بعضها ببعض ، من خلال الحزن والبكاء وهي حالة نسوية خالصة وليس في الرواية فقط ، جاءت النسوة متشحات بالبكاء في كل فصل من فصول الرواية ، رانيا طالبة الفلسفة المتحررة والتي تعمل وتنفق علي نفسها وتحلم بالسفر إلي أمريكا ، عندما تدعو سيد إلي بيتها لايفكر سيد إلا في معاشرتها ، وعند يحاول تعريتها تصرخ بشدة ، وتقول انت عايز تعريني يا سيد !! أنت لا تفهمني أنت حيوان !! أراد الجزار أن يفضح أقنعة الذكر المزيفة التي لا تري في الأنثي إلا جسدا رخيصا خلق للمتعة وليس للحياة والتفكير ،والعمل جانب الرجل ، وهي ظاهرة مهمة في واقعنا المصري والعربي . وارتبط ذلك مع شخصية ريم المجتهدة في المدرسة ،ومحبة الطلاب لها وعشقهم لها علي الرغم من عدم اهتمامها بهم ، وساها اليابانية التي تتعلم الفلسفة وتشكو كثيرا من خطيبها الياباني الذي يعيش في مصر ، ويعمل في السفارة اليابانية . وزميلة سيد في قسم الفلسفة وتشاركه احترامه للدكتور رياض أستاذ الفلسفة بالكلية ، وتأتي شخصية حفصة واسمها لايخلو من دلالة دينية ، شخصية متوترة قلقة ، منزوعة الرأي والهدف معا ، يغلب علي تركيبتها النفسية الإدعاء الكامل بالدين ومحاولة التقرب من سيد وملاطفته متهمة إياه بالعلمانية ، وأنه سيدخل جهنم ، لأنه يتبع أقوال أستاذه الدكتور رياض العلماني .فتقول : لماذا لايدرسون لنا المودودي وحسن البنا وسيد قطب ؟؟ وهنا يكشف السارد عن حفصة دارسة الفلسفة والكارهة لها أيضا . لأنها غير مقتنعة بما تدرسه منتمية لأفكار قديمة أسهمت في اختلاط تفكيرها وتعقده . تطل شخصية أُنْس القوادة التي لا تتكلم كلمة دون أن تحمل الكلمة معاني مختلفة كلها تفضي إلي الجنس ، وكيف كانت تتعامل مع الأسطي فرج النجار والد سيد ، وكأن العالم الذي تعيشه أنس هو العالم الصاخب الذي نحياه الآن ، ويستعيد الكاتب صورة بيت الهوي في شخصية أرزاق التي تمارس الجنس مع سيد وهو في حالة من المتاهة والحيرة والقلق ،في حين تقول المعلمة : لأرزاق ( شهلي يا بت اخلصي عندنا شغل تاني) ، هل كانت المرأة هنا مجبرة علي عملها ؟ في ظني أن حمدي الجزار قدم عوالم متباينة التفكير ، وكأنه مشغول دائما بالمرأة المتن في الخفاء والتي صارت هامشا في العلن ؟ وينبغي القول : إن هذه الكتابة تنتصر للمرأة في كل مكان وزمان ، لأنها كتابة تعيد للحياة جمالها الطبيعي متخلية عن المكياجات اللفظية والهندسة المزيفة لبناء الرواية ، بل تكتب ما تحبه وتشعر بصدق حديثه ونظراته . بل تنبش دائما في روح المرأة وعبقريتها في إدارة شئون الحياة رغم ضيق العيش ، وتؤمن إيمانا كاملا بدروها المهم في خلق مجتمع نظيف اليد والوجه واللسان.