حملة لتوفير أجهزة كمبيوتر.. دعوات لتأهيل المدارس لتعليم التكنولوجيا | تفاصيل    تراجعت على العربات وبالمحال الصغيرة.. مساعٍ حكومية لخفض أسعار سندوتشات الفول والطعمية    وفقا لوزارة التخطيط.. «صيدلة كفر الشيخ» تحصد المركز الأول في التميز الإداري    الجيش الأوكراني: 96 اشتباكا قتاليا ضد القوات الروسية في يوم واحد    طائرات جيش الاحتلال تشن غارات جوية على بلدة الخيام في لبنان    3 ملايين دولار سددها الزمالك غرامات بقضايا.. عضو مجلس الإدارة يوضح|فيديو    كرة سلة - ال11 على التوالي.. الجندي يخطف ل الأهلي التأهل لنهائي الكأس أمام الجزيرة    المقاولون العرب يضمن بقاءه في الدوري الممتاز لكرة القدم النسائية بعد فوزه على سموحة بثلاثية    تصريح مثير للجدل من نجم آرسنال عن ليفربول    السجن 15 سنة لسائق ضبط بحوزته 120 طربة حشيش في الإسكندرية    إصابة أب ونجله سقطا داخل بالوعة صرف صحي بالعياط    خناقة شوارع بين طلاب وبلطجية داخل مدرسة بالهرم في الجيزة |شاهد    برومو حلقة ياسمين عبدالعزيز مع "صاحبة السعادة" تريند رقم واحد على يوتيوب    رئيس وزراء بيلاروسيا يزور متحف الحضارة وأهرامات الجيزة    بفستان سواريه.. زوجة ماجد المصري تستعرض جمالها بإطلالة أنيقة عبر إنستجرام|شاهد    ما حكم الكسب من بيع التدخين؟.. أزهري يجيب    الصحة: فائدة اللقاح ضد كورونا أعلى بكثير من مخاطره |فيديو    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    بديل اليمون في الصيف.. طريقة عمل عصير برتقال بالنعناع    سبب غياب طارق مصطفى عن مران البنك الأهلي قبل مواجهة الزمالك    شيحة: مصر قادرة على دفع الأطراف في غزة واسرائيل للوصول إلى هدنة    صحة الشيوخ توصي بتلبية احتياجات المستشفيات الجامعية من المستهلكات والمستلزمات الطبية    رئيس جهاز الشروق يقود حملة مكبرة ويحرر 12 محضر إشغالات    أمين عام الجامعة العربية ينوه بالتكامل الاقتصادي والتاريخي بين المنطقة العربية ودول آسيا الوسطى وأذربيجان    سفيرة مصر بكمبوديا تقدم أوراق اعتمادها للملك نوردوم سيهانوم    مسقط تستضيف الدورة 15 من مهرجان المسرح العربي    فيلم المتنافسون يزيح حرب أهلية من صدارة إيرادات السينما العالمية    إسرائيل تهدد ب«احتلال مناطق واسعة» في جنوب لبنان    «تحيا مصر» يوضح تفاصيل إطلاق القافلة الخامسة لدعم الأشقاء الفلسطينيين في غزة    وزير الرياضة يتابع مستجدات سير الأعمال الجارية لإنشاء استاد بورسعيد الجديد    الاتحاد الأوروبي يحيي الذكرى ال20 للتوسع شرقا مع استمرار حرب أوكرانيا    مقتل 6 أشخاص في هجوم على مسجد غربي أفغانستان    بالفيديو.. خالد الجندي: القرآن الكريم لا تنتهي عجائبه ولا أنواره الساطعات على القلب    دعاء ياسين: أحمد السقا ممثل محترف وطموحاتي في التمثيل لا حدود لها    "بتكلفة بسيطة".. أماكن رائعة للاحتفال بشم النسيم 2024 مع العائلة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط    جامعة طنطا تُناقش أعداد الطلاب المقبولين بالكليات النظرية    الآن داخل المملكة العربية السعودية.. سيارة شانجان (الأسعار والأنواع والمميزات)    وفد سياحي ألماني يزور منطقة آثار بني حسن بالمنيا    هيئة الرقابة النووية والإشعاعية تجتاز المراجعة السنوية الخارجية لشهادة الايزو 9001    مصرع طفل وإصابة آخر سقطا من أعلى شجرة التوت بالسنطة    رئيس غرفة مقدمي الرعاية الصحية: القطاع الخاص لعب دورا فعالا في أزمة كورونا    وزير الأوقاف : 17 سيدة على رأس العمل ما بين وكيل وزارة ومدير عام بالوزارة منهن 4 حاصلات على الدكتوراة    «التنمية المحلية»: فتح باب التصالح في مخالفات البناء الثلاثاء المقبل    19 منظمة حقوقية تطالب بالإفراج عن الحقوقية هدى عبد المنعم    رموه من سطح بناية..الجيش الإسرائيلي يقتل شابا فلسطينيا في الخليل    تقرير حقوقي يرصد الانتهاكات بحق العمال منذ بداية 2023 وحتى فبراير 2024    مجهولون يلقون حقيبة فئران داخل اعتصام دعم غزة بجامعة كاليفورنيا (فيديو)    حملات مكثفة بأحياء الإسكندرية لضبط السلع الفاسدة وإزالة الإشغالات    «الداخلية»: تحرير 495 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة وسحب 1433 رخصة خلال 24 ساعة    "بحبها مش عايزة ترجعلي".. رجل يطعن زوجته أمام طفلتهما    استشاري طب وقائي: الصحة العالمية تشيد بإنجازات مصر في اللقاحات    إلغاء رحلات البالون الطائر بالأقصر لسوء الأحوال الجوية    عبدالجليل: سامسون لا يصلح للزمالك.. ووسام أبوعلي أثبت جدارته مع الأهلي    دعاء آخر أسبوع من شوال.. 9 أدعية تجعل لك من كل هم فرجا    مفتي الجمهورية مُهنِّئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نَبنِي بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    نجم الزمالك السابق: جوميز مدرب سيء.. وتبديلاته خاطئة    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحداثة والفنان والعاهرة
روائيو الانحطاط
نشر في أخبار الأدب يوم 25 - 10 - 2014

ما بين عامي 1830و1840، ظهرت موسوعات أخلاقية مثل »الفرنسيون يرسمون أنفسهم« وهي دراسات نفسية صغيرة الحجم، أو في هيئة قصص قصيرة مثل »مشاهد من حياة بوهيمي« لHenry Murger التي تقدم نماذج لأنماط شخصيات الحياة الباريسية، والنساء المنحلات يحتللن فيها مكاناً بارزاً، ومن جانبهم قدم شعراء مبتدأن ونحاتون وطلبة وأمراء البوهيمية ومتنغجون، وجهاً جديداً للعازب، مثل جافارني، وجراند فيل، ومونيه، وآخرين.. فنانو كاريكاتور يرصدون أدق تفاصيل الملابس والملامح والنظرات والهيئة العامة التي تلخص سمات شخصية ما.
الدراسات المعنية بالعاهرات والعزاب في القرن التاسع عشر تمركزت إذاً في تقاطع الأدب مع التاريخ، مع الأساطير، وهو ما يمكن أن يكون واقع حياة هؤلاء الرجال والنساء، ولا يمكننا إلا أن نتخيل بصعوبة انطلاقاً من هذه العناصر.
رغم انتشار الأعمال المخصصة للدعارة في القرن التاسع عشر، فإن الشهادات المباشرة نادرة، فأصوات العاهرات دُفنت تحت وفرة الأعمال الأدبية التي خصصت لهن، والعزوبية تحكي بطريقة أكثر ذاتية وأكثر حميمية، ولكن حتي كبار الكتاب العزاب مثل بودلير والأخوين جونكور وأويوسمانس، ذهبوا بكامل وعيهم للحديث عن شطحات وأشياء ينبذها الجميع، طبقاً لشهادات معاصريهم، والحقيقة الوحيدة التي لا يمكن دحضها هي الطريقة التي تم بها تخيل حياة العاهرات والعزاب، وطريقة الحديث عنهم في خطب وطريقة تصويرهم.
مهما كانت واقعية التمثيل لا يمكننا أن ننسي أنها خيالات مملاة بفانتازيا وأحكام مسبقة خاصة بذلك العصر، فالعزوبية والدعارة تلامسان من قريب جداً عالم الجسد والجنس، لكي لا يُلهم ذلك بردود أفعال متطرفة من السحر والرفض.
تلك الحياة التي تجعل من الجنس قضية عامة، وتنزع الغطاء عن السر، فالعاهرة تعرض الجنس حرفياً علي الطريق العام، والحياة الخاصة للعازب، لاسيما إن كانت سرية، تثير تساؤلات بلا نهاية، وميوله الجنسية تصبح أمراً مشكوكاً فيه، ومن الطبيعي أن يُشتبه في أنه يخفي عاهة مشينة أو انحرافا بغيضا، وحياة العزلة التي اختارها تكون مناسبة لكل أنواع الوهم، وبفضل السحر الممارس بواسطة وحدة عامة ارتبط العازب والعاهرة ارتباطاً وثيقاً بالحداثة.
ما ينظر إليه من جانب علي أنه لعنة، هو أيضاً شرط لا غني عنه لنشوء فكرة متفردة تحدث قطيعة مع العادات والتقاليد. الأنماط التي كانت منتشرة عن طريق موسوعات الأخلاق، والتي كانت منبثقة عن ثورة جمالية حقيقية، أعادت إلي الفنان صورة جديدة تماماً بالنسبة لوضعه، ففي ذلك العصر، كان لفظ »فنان« مقصوراً فقط علي من يشتغلون بالرسم والنحت والنقش، ثم بدأ نطاق استخدامه يتسع ليشمل كل من ينتج فناً بما في ذلك منتجو الأدب.
في القرون الوسطي وفي عصر النهضة، كان الفنان حرفياً وعاملاً ماهراً، وبحسب بروست، فإن »الفنان مواطن من وطن غير معلوم فهو نفسه نسي نفسه«، وباختلافات بسيطة يمكن أن يكون موسيقياً مثل فانتوي، أو نحاتاً مثل إلستير (من شخصيات رواية »بحثاً عن الزمن المفقود« لمارسيل بروست) أو كاتبا.
مع الرومانسية، لم يعد تعريف الفنان يتم من خلال طبيعة وممارسة العمل الذي يقدمه، ولكن أيضاً من خلال نمط حياته عموماً الذي يتعارض مع الوجود البرجوازي، فالعمل الفني لم يعد ينفصل عن الأخلاق، والعادات والسمات، بل وحتي المظهر الجسدي.
دون شك، بسبب العمل الأوبرالي »البوهيمية« لبوتشيني والذي تحول إلي قصة علي يد »هنري مورجيه«، فإن حياة البوهيمي تُختصر غالباً في الفقر، ويستثني من ذلك المتغنجين المتأنقين من الأغنياء، ومع ذلك فإن المعيار الجوهري لهذا الوجود ليس المال وإنما العزوبية، فالفنان البوهيمي يطالب باستقلاله تجاه الزواج تلك المؤسسة البرجوازية بامتياز التي ترجح المصلحة وليس الميل وما يفرضه الهوي.
في الموسوعة الأخلاقية »الفرنسيون يرسمون أنفسهم«، التي نُشرت ما بين عامي 1839 و1842، يُعرف الشاعر علي أنه العازب: حيث إن المزاج المستقل للشاعر ينحني بصعوبة لينير الحياة الزوجية، فهو بحاجة لحرية الروح وحرية الحركة وهو ما يتعارض مع المشاحنات الزوجية.. كما أن الإزعاج الذي يسببه الأطفال يكفي لجعل المنزل لا يُطاق بالنسبة للشاعر، ذلك لأنه يُكن الكراهية لكل ما يعكر صفو تأملاته.
الإبداع الشعري هو مسألة إلهام مفاجئ، فالشاعر يجب أن تكون لديه الإمكانية علي الذهاب للغابة ولو في الثانية صباحاً، لكي يكتب أبياته علي ضوء القمر لو تطلب مزاجه ذلك، دون أن تمنعه زوجة متمردة أو صراخ أطفال.
استقلالية الفنان تجاه المجتمع البرجوازي تتضح كذلك بوضعه غريب الأطوار، وهو ما يشكل مصدر سعادة لرسامي الكاريكاتور.
الشاعر الرومانسي صاحب اللحية والشعر الطويل، يرتدي بكامل إرادته ملابس لامعة مستوحاة من رسم عصر النهضة والروايات القوطية، أو زياً عسكرياً أجنبياً، وكما يذكرنا تيوفيل جوتييه في »مذكراتي الرومانسية«: »كل فرد كان يحاول أن يميز نفسه بملابس خاصة: قبعة ذات شعر ناعم علي طريقة روبنز، أو معطف مخملي علي الكتف، أو صديري ضيق علي غرار فان ديك، أو معطف مضفر علي الطريقة المجرية، أو ملابس غريبة الشكل والألوان«.
رمز هذا الجيل هو السترة الحمراء الشهيرة التي كان جوتييه نفسه يرتديها، في أول ظهور علي المسرح مقدماً مسرحية »إيرناني«.
هذه السترة مفصلة علي النحو التالي: علي نفس طول دروع كان يرتديها مقاتلو ميلان في إيطاليا، ومعها قبعة كان يرتديها جنود الملك فيليب الثالث في القرن الرابع عشر، بدلا من الأحمر الصريح تحول لونها للأحمر الأورجواياني لتجنب عار أن يكون اللون الأحمر ترويجاً لشخصيات بعينها مثل »ماكسميليان روبسبيير« كان عليه ألا يعيد ما حدث عام 1793 من إعدامات ثورية دموية قام بها روبسبيير، وذلك بالبعد عما كان يجتاح القرن من أحداث واستخلاص الدروس من خلال الإغراق في الماضي الإقطاعي.
من وجهة النظر هذه، فإن عزوبية الفنان الرومانسي هي إحياء لتقاليد رهبان العصور الوسطي، والإجبار علي العفة في الرهبان، والبوهيميون أعادوا إنشاء مجتمع ذكوري متركز علي الثقافة، بحيث لا تكون المرأة فيه سوي صديقة تصنعها الصدفة أو مصدر إلهام دون التسبب في أي إزعاج، ولكن المرأة مع ذلك تلعب دوراً أساسياً في حياة الفنان، والذي نادراً ما يُظهر عزوبيته علي أنها امتناع عن الزواج.
وبما أنه تخندق بعيداً عن طقوس ومؤسسات الحياة البرجوازية، فإن للبوهيمياً غالباً علاقات مؤقتة مع فتيات تبعن المتعة، واللغة الخضراء حفظت أثار ذلك بمصطلحات عامية، مثل: »فنانة« أو »فنانة في الغرفة«، مصطلحان للدلالة علي أنها تستقبل بوهيمي في غرفتها.
فالفنان والعاهرة يلتقيان هنا حيث يُصب الفائض من المجتمع البرجوازي، وذلك بحسب اعترافات ساخرة لألفريد دو موسيه في »اعترافات طفل القرن«، ويضيف موسيه: »بعدما يقضي الرجل وطره من المرأة، كان يهمس بكلمة تجرح حتي الموت: يا لها من حقيرة، كان الرجال يلقون بأنفسهم في الخمر والنساء والطلبة والفنانون كانوا يفعلون الشئ ذاته، كانوا يعالجون الشر بالشر، كان الجيل الرومانسي يريد التحرر من سحره الأسود في المكان الخطأ«، كل ذلك مع تشويه مثالية الأنثي، علماً بأن فتاة المتعة تعرض بضاعتها بصدق، فهي لا تعد بأكثر مما تملك، ولا تعطي أقل مما تعد به، وعلي الجانب الآخر فإن الزواج بالنسبة للرومانسيين ليس إلا فخاً تنصبه العائلة البرجوازية للزوج أو للزوجة المستقبلية.
ها هو صديق يحدثكم عن فتاة شابة: »هي جميلة ومن أسرة طيبة قامت بتربيتها بشكل جيد، وللفوز بها عليك أن تدفع 300 ألف فرنك، وإذا أردت أن تقابلها فإن ذلك سيحدث بمقابلة صدفة علناً بينما هي معدة سلفاً سراً، ولمزيد من الابتذال، سيعقبها عقد يتفاوض علي بنوده اثنان من كاتبي العدل«.
الباقي المرئي من هذه القصة يحكيه بلزاك في »المآسي الصغري للحياة الزوجية«، والتي ظهر منها عدة أجزاء في »الشيطان في باريس«: فاستياء الزوجين تحول من الضرب تحت الحزام، بالمعني الحرفي للكلمة، للضرب بلكمات في الوجه والرأس إلي حرب بلا هوادة بينهما، ومع ذلك فإن البوهيمي الرومانسي ينتهي به المطاف غالباً بحياة شبه زوجية مع فتاة شابة من طبقة اجتماعية متواضعة، تكون مهمتها العناية بمنزله وذلك لأن عُزاب القرن التاسع عشر كانوا يجهلون تماماً فن الأعمال المنزلية.
الفنان ينتظر من عشيقته أن تعمل علي راحته المادية، وعليه أن يدفع لها مقابل ما تقدمه، فهي التي تذهب لتشتري له التبغ والخمر ولحم الخنزير، وهي التي تُعد الولائم حينما يدعو أصدقاءه.
ذلك المنزل الخاص بالفنان البوهيمي والعاهرة أصبح شيئاً أسطورياً في ظل ملكية يوليو. ويوضح جول جانان ذلك بقوله: »العاهرة هي العناية الإلهية لهذا النوع من الشباب الأعزب، شرف وروح وضوضاء مدارسنا.. هي حب ضاحك ومهمل لشعراء بلا عشيقات، لخطباء مازالوا في أول الطريق، لجنرالات دون سيف، لسياسيين دون منبر.. إن كل شاب يعيش في باريس بأموال هزيلة يمنحها إياه والداه وبقليل من الأمل، له الحق في أن يكون هو الطاغية الفائز بهؤلاء الماركيزات الجميلات في شارع فيفيان«.
الحق في العزوبية
المومس التي كانت تربح بالكاد ما يكفي لسد احتياجاتها الأساسية، كان يتم اعتبارها امرأة ليست علي خُلق ويمكن إغواؤها بسهولة، وإذا كانت لا تمارس الدعارة نفسها فإنها تكون قريبة من هذا الوسط، وفي بعض الحالات يمكن أن تتحول إلي »امرأة متنقلة« بين أكثر من رجل، وهو ما يجعلها موضع اشمئزاز واحتقار من الجميع.
في عام 1882، أوضح ألفريد ديلافو في »الساعات الباريسية« أن »الحي اللاتيني بالنسبة للفتيات هو غرفة انتظار كعاهرات، وبالنسبة للفتيان هو غرفة انتظار للمجد، فالفتيات يصبحن فتيات بينما الفتيان يصبحون أطباء ومحامين«.
طبقاً ل»فيسيولوجيا المومس«، »فإن القطيعة مع الحبيب قد تكون لفتاة في بداية حياتها العملية، فالفتاة ذات الحظ التعس تظل تتنقل من يد ليد كورقة بحاجة للختم من أكثر من موظف، إلي أن تسقط تدريجياً في الدرك الأسفل من الفساد«.
»الفتيات«،أي النساء غير المتزوجات، حينما يصبحن »فتيات« أي عاهرات، فإنهن بذلك لا يفعلن إلا تحقيق مصير مكتوب في اسمهن، فهن يصبحن ما كن دوماً عليه، أما الفتي فيجب أن تتغير أوضاعه، إذ ينتظره المجتمع ليخرج من شرنقة العزوبية ليكون مواطناً مفيداً.
أن تكون مومساً، أو طالباً أو بوهيمياً، أو غندوراً، فتلك حالة مؤقتة، فالمومس قد تتزوج أو تشيخ وهي فتاة والطالب القادم من الأقاليم يعود إلي بلده ليستقر بها، »ففي اليوم الذي يصبح فيه الطالب محامياً أو طبيباً فإنه ليس نفس الرجل الذي كان من قبل«،هكذا يؤكد مؤلف »فيسيولوجيا الطالب«، ويضيف »يشتري ملابس سوداء وقورة ويقص شعره ولا يشرب إلا القليل من التبغ في المناسبات، باختصار يصبح مصنفاً في طبقة البرجوازيين.. فالعازب القديم بشارع »سان جاك« تزوج حينما بلغ الأربعين وأصبح لديه كرشاً ويرتدي نظارة«.
فمن الصعب تخيل أن الفنان سيستمر لأجل غير مسمي في حياة بوهيمية في غرف الحي اللاتيني، في وقائعه التي دوّنها عن الجيل الرومانسي »فرنسا الشباب«، تيوفيل جوتيه الذي كان في الثانية والعشرين وقت كتابته تلك الوقائع، يؤكد أنه في سن الثانية والعشرين لم يكن يهتم بمستقبله علي الإطلاق، »لقد قيل لي عدة مرات بأنه يجب أن أفعل شيئا وأن أفكر في مستقبلي.. كانوا يقولون لي: ينبغي أن يكون لك وضع في المجتمع ولو لمجرد لقب، فلتعتبره دواء من الصيدلية وعليك ابتلاعه، وأنه لا يمكنني ألا أكون شيئاً فذلك لم يره أحد من قبل«، ولكن في ظل الإمبراطورية الثانية، جوتيه نفسه، الكاتب والناقد، كان مُحتفلاً به ورغماً عنه أصبح شخصاً آخر.
الشاب المتأنق المتغندر الذي يحظي بوضعية اجتماعية أفضل من الطالب والفنان البوهيمي، يمكنه الحفاظ علي شخصيته لفترة طويلة، ومع ذلك فإن حالة الشاب الغندور تتماشي بشكل سيئ مع العازبة العجوز، فمن الصعب تخيل أن غندورا عجوزا بإمكانه إطلاق موضة جديدة، أو التحدث بالنبرة الملائمة للمجتمع الذي يعيش فيه.
ملك الشباب المتغندر بو بروميل، العازب غير المرن بلغ ذروته علي كل المستويات في الفترة من 1810 1820 حينما كان مقرباً من أمير ويلز، ولكنه انتهي به الأمر مجنوناً وحيداً فقيراً بعدما هجره الجميع.
أما بودلير فلم يكن سلوكه الغريب مثيراً للدهشة إلا لفترة من الوقت، وحينما استقر في العاصمة البلجيكية بروكسل عام 1864، وتحديداً في فندق »المرآة العظيمة«، كان أسيراً لحالة من الخمول العميق ويعاني الإعياء بسبب المرض، وكان محبطاً طوال الوقت ويشتكي لأمه افتقاده لكل شئ حتي الملبس الجيد.
نعترف.. للشاب الغندور وللبوهيمي وللطالب وللمومس الحق في العزوبية، بل إننا نري هذه العزوبية إحدي أهم مميزاتهم، وشذوذ سلوكهم ليس بالشيء المقلق إذا ما كان عابراً، ولكن أن تستمر هذه الحالة وقتاً طويلاً فإن حكم المجتمع لن ينتظر، ومن الطبيعي إذاً أن الزوجين الشابين المكون من بوهيمي ومومس يعقبه زوج يحظي بتعاطف أقل، مكون من شاب أعزب في منتصف العمر وعاهرة، وكان ألفريد ديلافو يطلق عليهم، بشكل لا يخلو من الازدراء، »الأهطل«، و»العاهرة المستفزة، والكسول والكسولة، ونساء البحيرة وفرسان الوسام«، و»الأهطل« يُعرفه ألفريد ديلافو، في »قاموس اللغة الخضراء« (قاموس باللغة العامية لشرح مصطلحات الشارع) ب»أحمق يوظف وقت فراغه لتدمير نفسه من أجل بغايا يسخرن منه«.
وكان لقب »سيدة البحيرة« يمنح للعاهرات اللائي كن يذهبن يومياً لغابات »بولونيا« ويجلسن بجوار البحيرة الرئيسية حيث يتمشي الأغنياء الشيك، أما فرسان الوسام فهي إشارة لعالم مزيف لفرسان الصناعة أي عالم منحط من النصابين المخادعين القوادين، وعلي العكس من الفتاة العانس الوحيدة علي الدوام والتي تُعتبر مصدر إحباط ومنفرة لكثيرين فإن الشاب الأعزب ليس وحيداً بل هو رفيق لكل فتيات الهوي.
هذا ما يوضحه كتاب »فسيولوجيا العازب والفتاة العانس« الصادر عام 1842، ل»Louis Couailhac«، الذي يقدم، في وقت واحد، نظرة عامة متعاطفة مع البوهيمي، وآراء متحفظة إجمالاً تجاه العزوبية، ويؤكد كويلاك: »دائماً ما يوجد ضد العُزاب أحكام أخلاقية مسبقة، فيُنظر إليهم علي أنهم أناس ساخرون، بدون وضع اجتماعي، ولا يحظون بقبول أو بأي ضمانة في الحياة، ولا يُسمح لهم بالاندماج مع العائلات إلا بفرص نادرة«، علماً بأن العازب الذي يتحدث عنه كويلاك هو »ذلك الذي تجاوز الأربعين، أما الأكثر شباباً فيسميهم »عزاب مؤقتون«، منهم كتاب العدل، ومساعدو جنود الدرك، والكتاب المتمردون، والنوادل في المطاعم والمستمعون في مجلس الدولة، وأبناء الأسر المفككة«.
عازب منتصف العمر يثير خوف الفتيات الشابات والنساء المتزوجات، لأن مجرد وجوده يؤثر سلباً علي سمعتهم، و»أنفاسه تكون جاذبة لوباء الغيبة والنميمة، والجلوس معه في مكان واحد يكون شيئاً معدياً بالأمراض الاجتماعية، وبمجرد دخول أحد العزاب لصالون به أسر، فإن الجميع يقتربون من بعضهم البعض ويشكلون دائرة لا يسمحون له بالدخول فيها«، وبالتالي فإنه لا يستطيع مجالسة نساء إلا لو كانت سمعتهن مُعرضة بالفعل لكثير من القيل والقال.
»من النادر أن تري العازب يتمتع برصيد إلا عند فتيات ضائعات، وفتيات يرتدين قناع اللبؤات في الحفلات التنكرية، وفتيات يلعبن دور البطولة الثانوية في المسرحيات، فهن لا يحصلن علي الثناء والمديح والمغازلات إلا من العزاب، ويرفضن حب الرجل بمجرد علمهن أنه متزوج«.
رسم مونييه الذي يوضح ذلك التوجه، يُظهر أعزب متأنقاً تبدو علي ملامحه السذاجة، ويتجول علي أحد جوانب الطريق وإلي جواره مومس متأنقة، التي تتجاوزه بمسافة تساوي مقدار مد رقبتها وتعطي إيحاء بأنها من سيدات المجتمع الراقي، ليسا حبيبين وجهاً لوجه، ولكنهما يلعبان دوراً مستعاراً ولديهما شعور بأنهما في موقف تمثيلي، فالعازب والمومس يتحاشيان بعناية أن ينظر أحدهما في عين الآخر علناً كما لو أن كلا منهما يشعر بالعار من الأخر، فعيونهما تتحرك في اتجاهات عكسية تماماً وهو ما يخلق نوعاً من الكوميديا، ولكن كلا منهما يحتاج للأخر لكي يواجها نظرات الجموع، فذراع المرأة يستند علي ذراع الرجل وإن لم تلتق عيناهما فإن جسديهما يحتكان ببعضهما البعض.
الزوجان اللذان يشكلانهما بمثابة إهانة بالغة للأسرة التي تتنزه في نفس الشارع، لا سيما وأنهما يشبهانها بغرابة، فالعازب يحمل عصا ويرتدي قبعة، وهما من أهم ما يميز لبس الطبقة البرجوازية، إضافة للسراويل الضيقة ذات الأشرطة والأحذية الجلد، ورفيقته تتجول معه، ليس بشعر مكشوف مثل العاملات ولا ترتدي »بونيه« مثل المومسات، ولكنها ترتدي برنيطة ذات شبكة سوداء علي الوجه وشالاً مُزين بدبوس شيك أو ورد، فتبدو أكثر أناقة وتأنقاً من مومس مبتدئة، خاصةً أنها ترتدي شالاً مستورداً من الهند ومن أفخم أنواع القماش، لذا فمن حيث المظهر الخارجي بإمكانهما المرور بهدوء كما لو كانا زوجين برجوازيين، ولكنهما من الداخل يقلبان، رأساً علي عقب، قيم العائلة، فهذان الزوجان معرضان للانفصال بشكل أسرع مما ارتبطا به، فالمومس ترافق الشاب الأعزب علي أمل الزواج منه، ولكن لا شئ يجبر الرجل علي فعل ذلك، وحتي إن أعطي وعداً وأخلفه فإن القانون لا يعاقبه، فلا يوجد أي قاعدة أو عقد يربطهما، ولا يوجد بينهما شئ مشترك: فالفتاة لا تشاركه ما يأتيها من أموال، وهي تنفق كل ما لديها بسرعة علي المسكن والمأكل والملبس، وليس لديهما أطفال ولن يكون ذلك أبداً، وحتي إن حملت الفتاة وأنجبت فلا يوجد ما يضمن لها تلقي أي مساعدة مالية من والد الطفل، لأن القانون المدني يمنع منعاً باتاً التحقق من الأبوة.
فتيات العار
وبالرغم من أن العازب يتمتع، في نظر المجتمع بقدر أكبر من الحرية مقارنةً بالعاهرة ولكن يتم وضعه أيضاً في طبقة غير المصنفين، ففي فصل »الزواج« ب»قاموس العلوم الطبية«، الصادر عام 1872، يقوم مؤلفه الطبيب والمختص بعلم الإحصاء والتعداد السكاني جاك بيرتيون بوضع العازب علي المقصلة »يجب أن يعتبر المشرِّع أن من أعدي أعداء المجتمع والمرأة ومؤسسة الزواج، هما أكبر قرحتين فيه: العازب وفتاة الهوي«، وإذا كانت »فتيات العار« كما أطلق عليهن، »يلقحن رجالنا بوقاحتهن، فإن الخطأ يعود علي الشباب الذين أضلوا هؤلاء الفتيات السبيل، وذلك لأن عدداً كبيراً منهن تم إغواؤه وخداعه، ثم إلقاؤهن في الشوارع من قبل من غرر بهن«، ويمكن أن نلتمس لهن العذر أكثر من ذلك المنحل الذي غرر بهن والذي يعتبره الدكتور بيرتيون ثعباناً خبيثا، ويلقبه ب»رجل المتعة«.
حتي في الأدب الشعبي المختص بعلم وظائف الأعضاء (فيسيولوجي)، الذي يأخذ منهم الجوانب الجميلة والمثيرة للضحك في نفس الوقت، فإن العاهرات والعزاب يستدعون دوماً أحكاماً قاسية، فهناك من يعتقد أنهم من اختاروا مصيرهم في الأساس، فذلك النمط من الأشخاص له خصائص غير قابلة للتغيير، وإلي حد ما، فإن البورتريهات الخاصة بالعازب والعاهرة، والتي تم ابتكارها في العصر الرومانسي، عززت الأحكام المسبقة الموجودة بالفعل، فالتهميش الذي يجعل منهما شخصيات رائعة يكرسهما أيضاً ليصبحا لعنة علي الطبقة البرجوازية، فالعاهرة بالنسبة لضابط الشرطة »فتاة برقم« أو »فتاة بكارت«، وهي أيضاً موضع دراسات أخلاقية.
إذ إن مؤلفي الموسوعات الأخلاقية ومفتشي البوليس، يتشاركان في شبكة كبيرة للتجسس، فصورة البوهيمي الأعزب في علم وظائف الأعضاء من الأشياء المسلية، ولكن ذلك يجعله محكوما عليه بالوجود في عزلة، حيث يتم تصويره علي أنه كائن طفيلي وغير مسئول وكسول، ويعند بالمجئ متأخراً عن موعده، وبالنسبة للطبقة البرجوازية فإن كل رجل يرفض أن يكون مواطناً مفيداً منتجاً فإنه يتم تصنيفه في طبقة المجرمين المحتملين.
حينما ظهر كتاب »حياة البوهيمية«، غضب أويسمانس كاتباً عام 1876: »كل وسطاء بيع كريمات الشعر والخمور شعروا بزيادة رعبهم الوحشي من الكتاب والرسامين.. كان الجمهور مقتنعاُ أن الكاتب »كائن مختلف عن الآخرين.. مجرد رعاية من الرعاع شعره مسبسب أو يرتدي برنيطة مدببة.. هو مجرد وغد لا يجيد سوي البكاء ناظراً للنجوم، وخداع بواب البناية التي يقطن فيها ونادل المقهي الذي يجلس عليه، كي لا يدفع ما عليه». ولكن تلك النتائج المستلخصة من الحياة البوهيمية، تُستخدم فقط للوصف دون بحث أو تحليل أو تصحيح، فالعزوبية والدعارة كان يتم اعتبارهما من أعمال الحياة الباريسية، وشيئان لا مفر منهما مثل إضاءة الشوارع بمصابيح الغاز حينما يحل الظلام.
بواسطة الفكاهة ونبرتهم القصصية الساخرة النادرة وتركيبتهم المفككة، قام علم الفسيولوجي بتفريغ ادعاءاتهم، وتدريجياً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأت الكتابات الجذابة الطريفة تختفي ليحل محلها كتابات خطب قاسية عنيفة ذات صبغة علمية مستوحاة من الهاجس بالسلوكيات المنحرفة.
أطباء العلاج النفسي ومعالجو المختليون عقلياً والمتخصصون في علم الجريمة، سوف يطالبون بمساءلة العاهرات والعزاب، وتحليل أسباب »شذوذهم«، والبحث عن أفضل السبل لوضعهم في حالة لا تكون مؤذية للمجتمع، وظهر علم جديد للتصنيفات والرموز يهتم بشكل كبير بدراسة الأجسام والعقول، وبمرور الوقت بات العزاب والعاهرات يجسدون انحرافاً جسدياً وجنسياً ونفسياً، وبعيداً عن مقاومة هذا الاتجاه شارك الأدب والفنون في تلك الدراسات بشكل واسع، فالعاهرات في الأدب الطبيعي لم يعدن في صورة ورود علي أرصفة باريس بأي شكل من الأشكال، بل مجرد جثث يتم تحليلها بشكل لا نهائي ممن ابتكروهن في رواياتهم.
أويوسمانس وفيلييه دو ليزل آدم كانا متهمين بالإغراق في الفحش وبارتداء ثوب »روائيو الانحطاط«، وتمكنا من اللعب علي الغموض ما بين الشخصية الحقيقية للكاتب والشخصيات التي يبتكرها.
هؤلاء المتغندرون الذين يحتقرون عصرهم ويكرهون الزواج البرجوازي، يستغلون الحرية التي تمنحها لهم العزوبية من أجل تشخيص مجتمع في طور الاضمحلال.
في عام 1976 أصدر أويوسمانس روايته الأولي في بروكسل، بوحي ذاتي، »مارتا.. حكاية فتاة«، تم توقيفها علي الحدود الفرنسية البلجيكية، وتمت مصادرة الكتاب سريعاً بتهمة التعدي علي الأخلاق العامة، وفي العام التالي ظهرت رواية أخري قابلة للاشتعال بعنوان »الفتاة إيلزا« لإدموند جونكور، وهي مستوحاة من قصص عشيقة الأخوين جونكور المرأة العاقلة »ماريا«.
في عام 1880 أثارت رواية »نانا« لإيميل زولا ضجة كبيرة، إذ صنع زولا شيئاً استثنائياً في عالم طبيعاني تحكمه العزوبية، وهو ما يفسر لماذا »نانا« الأقل حميمية والأكثر استخداماً للاستعارات البلاغية عن كل رواياته التي خصصها لفتيات الهوي، وبينما رسامو الكاريكاتور ضاعفوا من رسوماتهم المعبرة عن كتابات زولا الطبيعية، مستوحين الكثير والكثير من شخصية »نانا«، كانت حكومة جامبتا تخطط لمصادرة العمل.
وفيما يُعد فضيحة رأي كبيرة، خرجت فتاة المتعة من مجال الرسم الكاريكاتوري لتدخل بشكل مثير مجال الفنون الجميلة، فبعد »الغداء علي العشب«، و»أوليمبيا« لمانيه، وفيلسيان روبس وتلميذه تولوز لوتريك وجان لوي فوران وإدجار ديجا صنعوا منها (فتاة المتعة) رمزاً لجمالية انحلالية لا تمت بصلة للمواثيق الأكاديمية.
أويوسمانس كتب بحماسة شديدة عام 1880 عن إحدي اللوحات المائية لجان لوي فوران التي تظهر 3 بنات في صالون أحد بيوت الدعارة: »إن ما يبدو إعجازياً في ذلك العمل هو قوة الحقيقة التي تظهر منه، إنهن فتيات يعملن في ذلك البيت ولسن فتيات أخريات، وإذا كان وضع جسدهن، ورائحتهن المزعجة، وتعفن جسدهن تحت أضواء مصابيح الغاز، كل ذلك يظهر بوضوح ودقة بشكل غير مسبوق، فإنه أظهر أيضاً إنسانيتهن البهيمية وطفولتهن«.
حينما يلتقي الأخوان جونكور بفيلسيان روبس لأول مرة، وهما اللذان قد وثقا فيه ليرسم رسماً توضيحياً عن »المومس« (رواية ألفها الأخوان جونكور)، قال لهما الرسام لشاب إنه يريد أن يجعل، بدراساته عن العاهرات، »الشئ الحداثي من وجهة نظر الطبيعة«، وكان روبس يحكي عن جانب كارثي مفجع وجده خلال ليلة واحدة أمضاها مع عاهرة تدعي كلارا بلوم.
بالنسبة لروبس وفوران، فإن الفتيات العاهرات يمثلن بشكل أساسي مفهوماً سوداوياً من الحداثة، وهو ما يتجلي عندهن في الكآبة والشذوذ والبشاعة، فمن بين فتيات فوران اللائي يعرضن أنفسهن أمام العميل توجد فتاة سمينة خمرية اللون جسدها ذابل عليه أثار أيادي من ضاجعوها، وأخري شقراء بساقين مقوستين«، هكذا كتب أويوسمانس ناسباً إلي فوران هوسه بالجلد الحريمي الناعم المتعفن، إنه ذلك العطر المتعفن الذي يجذب الكتاب الطبعانيين والرسامين الواقعيين، فبعدما سحقتهم الحياة ومصيرهم الأسود أصبحت هؤلاء الفتيات يعشن كالحيوانات بدون هدف أو إدراك ما يدور حولهن، انتظاراً للتحلل النهائي لأجسادهن بعدما يقضي عليهن المرض.
وبينما الفن الأكاديمي يحتفل بالأعمال الراقية من ماض مجيد ويخلد لحظات تاريخية ذات مغزي، فإن رسم الفتيات وعلي العكس من ذلك كان يهتم باللحظات الميتة من العالم المعاصر.
إدجار ديجا كان مهتماً بوجوه وأجساد النساء المنهكات جراء حياتهن: فتيات بيوت الدعارة وفتيات الشوارع، والغسالات والممثلات ومغنيات المقاهي والحفلات الخاصة.. كلهن كن مشتبها بهن أنهن يمارسن الدعارة في ذلك الوقت.
في وصفة أدبية خفيفة نُشرت عام 1877 بعنوان »نساء في شرفة مقهي وقت المساء«، يُظهر ديجا 4 فتيات يجلسن في شرفة مقهي ذات إضاءة عالية، أعمدة الشرفة إضافة لزاوية رؤية منحرفة كانت تقطع أجسادهن، وكن جميعهن منهكات، وكانت إحداهن تقرض أظافرها بينما نظراتها شاردة، فيما رفيقتها كانت مغلقة العينين وبالكاد تستطيع أن تجلس معتدلة علي مقعدها، كما لو كانت قواها قد خارت أو أفرطت في الشرب، وتحت أضواء مصابيح الجاز كانت وجوههن تبدو طباشيرية، وقبعاتهن كانت بألوان مبهرجة.
الفتيات لم يكن يشكلن نموذجاً يرسم من خلاله الرسام، بل هن كن بالفعل علي طبيعتهن في هذا الموقف مثل فتيات أحد منازل الدعارة اللائي رسمهن كونستان جايز.
في الواقع فإن العاهرة، علي العكس من الفتاة الموديل، لا تقف كنموذج للرسام، إنها ببساطة تنتظر الزبون.
نساء شارع »مولان«، في باريس حيث كان هنري تولوز لوتريك يقضي يومه، كن ينتظرن بفارغ الصبر في الصالون الكبير المعلق الغالب عليه لونا البنفسج والاحمر الأوروجواياني، وتلكم النساء اللائي كن ينادينه بمودة »سيد هنري« لم يكن يشعرن بوجوده، وهنا أيضاً لا يحدث شئ فالنساء يجلسن وينظرن في الفراغ.
وإذا كانت فتيات الهوي يسحرن الرسامين بسلبيتهن الكئيبة، فإن حضورهن الدائم في الحياة الباريسية كان يشكل مصدر قلق للجهات الحكومية، فشرطة الآداب التي طالما تعرضت لانتقادات لاذعة كانت دائمة محاصرة بأسئلة عن طرق مراقبة والتحكم في الدعارة، وكان مفتش الشرطة ليكور قد أصدر دراسة مثيرة للقلق عام 1874 بعنوان »عن الحالة الراهنة للدعارة الباريسية«.
»في الحالة الراهنة للأفكار والأشياء نحن لم نعد قادرين علي السيطرة علي الدعارة في الأماكن المخصصة لممارسة الانحلال في الأحياء الضائعة«، هكذا كتب مفتش الشرطة بحزن وأسي مقترحاً مهاجمة أماكن الدعارة السرية في المقاهي والكباريهات مع إصدار بيان تحذيري قبل ذلك لأصحاب تلك الأماكن، ولكنه يخلص في النهاية إلي أن الأسباب الجذرية للدعارة ليس لها علاقة بقمع الشرطة.
ويكشف الرجل عن ان الدعارة بمثابة مرض اجتماعي عميق، سببه تراجع الوازع الديني، والإحساس الزائد بالرفاهية، وغياب السلطة الأبوية، والتساهل المفرط من قبل النساء مع من يغازلونهن.
أفول الثقافة الأوروبية
في أعقاب هزيمة 1870أصبحت الدعارة رمزاً لمجتمع معيب ساهمت في انحداره، وذلك هو الدور الذي منحه زولا ل»نانا« في روايته، فهي فتاة متمردة بامتياز، وبقوة فرجها استطاعت أن تجعل البروليتاريا الحضرية، حيث تعود أصولها، علي اتصال بكل طبقات المجتمع الباريسي: الصحافة والطبقة الأروستقراطية ووجهاء الدولة، حيث تكشف عن ضعفهم جميعاً، ويقول عنها زولا: »عملها هو الخراب والموت وتم إنجازه بالفعل، فالذبابة الطائرة (يقصد نانا) القادمة من زبالات الضواحي أتت حاملة العفن الاجتماعي، وسممت الرجال ولم يعد بمقدورنا أن نطلب منهم شيئاً«.
في نهاية ذلك القرن، لعبت الدعارة دوراً هاماً في ضبابية نظريات »الانحطاط« التي تقترح تعريفاً جديداً للمعايير الجنسية والاجتماعية، فتلك الأنماط الجديدة من التفكير قريبة جداً من الطبيعانية الفرنسية فأثرتها وغذتها بالكثير من الأفكار.
في عام 1857، كان للدكتور موريل مؤلف »معاهدة الانحطاط الجسدي والفكري والأخلاقي للجنس البشري«، للإيطالي سيزار لومبروزو، أب الأنثروبولجيا الجنائية، التأثير الحاسم علي زولا، فمن خلالهما تمكن من فهم كيفية انتقال العيوب الجسدية والأخلاقية من جيل لجيل، بشكل يؤدي للعقم والجنون.
غير أن لومبروزو نفسه كان يستشهد بشخصيات زولا كدليل علي صحة نظرياته، فحينما يشرح كيف أن العاهرات والمجرمات يتميزن بالقوة الجسدية مقارنةً بمتوسط قوة النساء، فإنه يذكر بونهور كمثال تلك العاهرة التي كانت ترتدي ملابس الرجال وقتلت عدداً منهم بمطرقة، وكذلك »فيراجو« تلك المرأة سليطة اللسان في رواية زولا »الوحش الآدمي«، والتي أخرجت قطاراً عن القضبان لتنتقم من حبيبها.
النمساوي أوتو فينجر هو أيضاً استخلص من روايات »زولا«، عدة نماذج لدعم أطروحاته في كتابه الشهير »جنس وحرف« الذي ظهر في فيينا عام 1903.
الطبيب النفسي ماكس نوردو، تلميذ سيزار لومبروزو، ومؤلف العمل الضخم »الانحطاط«، هو أيضاً لا يتوقف عن تتبع أعمال زولا، ولكن علي العكس من أستاذه ليظهر إلي أي مدي أن الإدعاءات الطبيعانية العلمية بلا أي أساس تستند عليه، إذ أن نوردو يري في زولا رومانسياً غاضباً مصاباً بمرض الجرافومانيا (مرض يدفع صاحبه للكتابة باستمرار)، وسيكوباتياً جنسياً مصاباً بهاجس المجانين والعاهرات والمجرمين.. »نانا« هي نفسها زولا، فهو يثري نفسه بدس قاذوراته في المجتمع، إنه يدور في دائرة مغلقة وهو أكثر انحطاطاً من الشخصيات المنحطة التي يبتكرها في أعماله، ويري نوردو أن روايات زولا تطمس الحدود بين الحقيقة والخيال، بادعائه ابتكار أشياء وهمية تحت مسمي عمل بحثي في وثائق، وطبقاً لانتقادات نوردو فإن زولا هو العرض والمسبب لمرض اجتماعي عميق، وبتركيزه علي الانحراف الجتماعي أصبح زولا متهماً بابتكار أدب الجريمة.
التعرف علي شخصية الكاتب من خلال شخصياته في أعماله ليس شيئاً مبتكراً، فبعد 10سنوات من نشر »نانا« ظهر مقال نقدي في مجلة »ميركور دو فرانس«، ليؤكد أن »نانا« هي نفسها زولا، هي رمز حياته العامة، وعلي مدي 10سنوات أرسل لتلك المومس خطابات عُلقت منها نسخ علي جدران غفته وكُتب منها مقاطع في مقدمات رواياته«.
ويعتقد نوردو أن التعرف علي الكاتب بهذا الشكل يكشف المرض العقلي لديه (لدي الكاتب) ويوضح أيضاً أفول الثقافة الأوروبية، علماً بأن نوردو وجد في أويوسمانس هدفاً آخر نموذجياً، إذ لا يفرق بينه وبين البطل الرئيس في روايته »العد التنازلي«، ذلك البطل هو جان ديزسانت شخص عصبي مصاب بالتشنجات وغارق في الضلال، ويطلق ماكس نوردو علي روائيين مثل زولا وأويوسمانس: »حفنة من المخصيين عقلياً غير القادرين علي إنجاب عمل حي ولكنهم يقلدون عملية الإنجاب نفسها«، ويضيف نوردو أن مثل هؤلاء يطفئون أنفسهم بأنفسهم لأن الانحطاط لا يمكن أن يكون له نسل ممتد.
فأي كان الشكل الذي تتخذه في الفكر الأوروبي في أواخر القرن التاسع عشر، فإن أفكار الانحطاط مرتبطة غريزياً بهاجس العقم، ولهذا السبب فإن العازب والعاهرة متهمان دوماً بتراجع فرنسا علي المستوي الديموجرافي، فالأمر هنا لا يتعلق ببقاء شخص واحد ولكن ببقاء الأمة بأكملها، فالعزوبية كانت سبباً في مخاوف ديموجرافية ضخمة بسبب انتشار فكرة رفض الزواج في الفترة من 1875وحتي 1900، مما أدي لانخفاض نسبة المواليد، علماً بأن العزوبية النهائية (التي تجاوز صاحبها الخمسين من العمر) لم تكن موجودة سوي بين أقلية من الشعب الفرنسي بنسبة تُقدر ب10٪ عند الرجال، و12٪ عند النساء، ولكن كانت هناك مخاوف من ارتفاع تلك النسبة، لا سيما بعد الهزيمة العسكرية المذلة لفرنسا أمام ألمانيا عام 1870، وكان دائماً يُشار بأصابع الاتهام للعزاب الذين يرفضون الانجاب علي أنهم السبب في أن البلاد لا تملك ما يكفي من شباب للأخذ بالثأر من ألمانيا.
فيبنما الشعب الألماني كان ينمو ديموجرافياً بسرعة كبيرة في النصف الثاني من القرن العشرين، كان الشعب الفرنسي يعطي إحساساً بالركود، فكان رفض الانجاب بمثابة الخيانة، وقبل ثلاث سنوات من اندلاع الحرب العالمية الأولي، وقف جاك برتيون مدير مكتب التعداد والإحصاء بباريس، علي الملأ ليعنف مواطنيه قائلاً: »كل رجل يقع عليه واجب المساهمة في استمرارية بلده كما يقع عليه واجب الدفاع عنها«.
الدعارة التي، يُعتقد أنها تصرف الرجال عن الانجاب، كان يبدو أنها تزيد الخطر، فالنظام الانضباطي الذي يُسمح فيه بممارسة الدعارة ولا توجد عليها مراقبة إلا لأسباب صحية، ينتهي إلي الفشل الكامل، وبعيداً عن أنها باتت شيئاً يحتويه المجتمع، فقد تضاعفت الدعارة علي مدار القرن التاسع عشر، متخذة أشكالا أكثر ذكاءً ومهارة ومن الصعب جداً تمييزها، ففي عام 1888، كتب الدكتور شارل فيريه صاحب أطروحة »الانحطاط والجريمة«، قائلاً: »في الحالة الراهنة من حضارتنا تحدث العلاقات الجنسية بطريقة تختفي معها الحدود الفاصلة مع الدعارة«، فالحكومة عاجزة عن القضاء علي الدعارة أو حتي مجرد السيطرة علي الدعارة السرية، إذ أن فتيات البارات تجذبن الزبائن بشكل متزايد، وحينما مُنع تقديم البيرة للنساء في عام 1888، أصحبت فتيات المقاهي والكباريهات والمغنيات يتناوبن علي بيوت خاصة حولها أصحابها بشكل غير مباشر لبيوت دارة لاستقبال البرجوازيين الراغبين في المتعة واللهو.
العاهرات السريات ضاعفن من حيلهن من أجل جذب الزبائن، فبعضهن تنكر في هيئة مسافرات وكن شبه مقيمات في محطة قطار »سان لازار«، من أجل اصطياد الرجال القادمين من الضواحي والمدن الأخري، فيما أخريات كن يصطدن الرجال من عند القبور، حيث كن يرتدين ملابس الحداد السوداء ويتظاهرن بالحزن لإثارة الشفقة، فيما أخريات يصطدن زبائنهن من خلال أصحاب مهن يتعاملن مع النساء أكثر من غيرهن، كصانع قبعات حريمي، وصاحب محل أزهار، وجواهرجي.
تلك الحيل التي لا تُعد ولا تُحصي طمست كذلك الحدود بين النساء المحترمات وفتيات الهوي.
إبان عهد بارون دو شاتيليه، كانت الدعارة في شوارع باريس شراً لابد منه، »إنهن في كل مكان«، كما يقول مفتش الشرطة ليكور: »في البارات والمسارح والملاهي الليلية والمقاهي.. نقابلهن في كل مكان: في المؤسسات العامة وفي محطات السكك الحديدية.. في كل أماكن التنزه وأمام المحلات والمقاهي، وحتي ساعات متأخرة من الليل نراهن يتجولن في أكبر شوارع العاصمة بشكل فاضح أمام الجميع«.
هوس الزهري
العزوبية والدعارة في باريس لم يكونا مجرد شر (أخلاقي وسياسي وميتافيزيقي)، بل كان العزاب والعاهرات أكبر حاملين لمرض الزهري، وكانوا ينقلون كل المخاوف الصحية في المجتمع الفرنسي بالقرن التاسع عشر، وكان مرض الزهري في ذلك الوقت مرعباً لأنه كان من السهل الإصابة به بينما كان من الصعب بل من المستحيل الشفاء منه، وكانت ليلة واحدة تكفي لنقل العدوي، وكانوا يستخدمون الزئبق في العلاج دون العلم بأضراره الجانبية علي الصحة، وكذلك أوديد البوتاسيوم، وأحياناً نبات الفشتاغ كما توضح مراسلات فلوبير.
في أواخر القرن، فهم الأطباء تطور المرض علي ثلاث مراحل، ففي المرحلة الثالثة يهاجم الزهري العصبي المخ ويسبب اضطرابات مستعصية، فمن المعروف أن موباسون أنهي حياته متأثراً بهلاوس وأوهام في عيادة الدكتور بلانش في باريس، وبدءا من العام 1888، كان الخطاب الطبي عاملاً مساعداً في نشر نظرية شعبية مفادها أن الزهري وراثي، وهو ما يعني أن المرض ممكن أن ينتقل لفترة طويلة حتي بعد الشفاء منه، وعززت تلك النظرية فكرة الاضطراب العقلي (الذهان) عند مريض الزهري، وكان الاعتقاد السائد في ذلك الوقت هو أنه لا حاجة لأن يكون الشخص نفسه مصاباً بالعدوي لكي ينقلها.
وكلما خاف البرجوازيون من مرض الزهري عظّم الكتاب من شأنه، ففي خطاب إلي صديقه روبير بينشون كتب موباسون متفاخراً متجاهلاً النهاية البشعة التي تنظره: »نعم أنا مصاب بالزهري وليس السيلان.. لا أملك الكريستال الإكليريكي ولاعرف ديك كمثل الذي يملكه هؤلاء البرجوازيون المأفنون، ولا أملك حتي القرنبيط.. لا، لا، إنني مصاب بالزهري العظيم ذلك الذي مات به فرانسوا الأول، إنني لفخور بذلك رغم أنها مصيبة ولكني أحتقر قبل كل شئ هؤلاء البرجوازيين«.
الزهري هو شكل من أشكال التطعيم (الراديكالي) ضد أي التزام جاد يمكن أن يؤدي بصاحبه إلي الزواج، فالعزوبية تضع الكتاب في وضع مريح يجعلهم مكرسين أنفسهم لعبادة الفن، وبذلك فإن المرض يتخذ شكلاً من أشكال الزواج الأحادي، فالكتاب العزاب، وبإحساس نابع من الفضيحة، يتبنون موقف الشخص المنبوذ الذي يمنحهم إياه الأدب والمرض، ففي خطاب موجه لصديقه إيرنست فايدو يقارن فلوبير اهتمامه بالأدب ب»قرحة لا شفاء منها«، ويضيف: »نعم الأدب يزيد ضيقي ومرارتي لأعلي درجة.. لقد أصبح الأدب بالنسبة لي بمثابة الزهري المستمر، إنني مسلوب العقل أمام الفن والجماليات، من المستحيل أن يمر يوم دون أن أحك ذلك الجرح الغائر الذي ينخر في جسدي«.
غير أن مثل تلك الجرأة في التعبير عن الرأي يقابلها إدانة غير قابلة للاستئناف من قبل المجتمع البرجوازي، ففي عام 1887 ألف الدكتور بيير جارنييه كتاباً بعنوان »عزوبية وعزاب .. خصائص ومخاطر صحية«، جارنييه نصب نفسه متخصصاً أو حامياً ل»صحة الجيل«، وظاهرياً كان هدفه إسداء نصائح صحية مجانية للجمهور، ولكن الواقع أن »عزوبية وعزاب« كان غطاءً علمياً لكُتيب مجهز خصيصاً لتوجيه نقد لاذع للعزوبية، وهو ما يعكس ثقل المسألة في تفكير ذلك العصر، إذ أصر جارنييه في كتابه علي توضيح المخاطر التي تهدد الصحة العامة بتلك العلاقات بين العاهرات والعزاب.
في رأيه »كل عاهرة مصيرها إلي الزهري لا محالة فهي مصابة به أو سيصيبها لا محالة«، وكان ذلك الرأي ذائعاً بشدة في القرن التاسع عشر، »كلهن بغايا وشاذات.. وكلهن أصابهن المرض«، هكذا كتب الأخوان جونكور، في إحدي مذكراتهم، فيما صاح الدكتور جارنييه في أحد الصالونات الثقافية بنبرة شاعرية قائلاً:» إن الدعارة ذلك المصدر النجس المسموم هي التي تتدفق منها كل الشرور، وإليه يذهب معظم الشباب لإطفاء نار شهوتهم الربيعية المتأججة«.
وإذا أصيب أحد العزاب من عاهرة، ثم تزوج فإنه يجازف بنقل المرض لزوجته وأطفاله، ومن وجهة نظر المؤمنين بنظرية الزهري الوراثي، فإن الأب هو الذي ينقل الشر، فالعدوي تنتقل إليه من نساء شعبيات »وتتحول عنده إلي جرثومة موت تصيب كل ذريته رغم نقاء الأم«، وإذا كانت البغايا المصابات بالمرض لا يحظين بأي تعاطف، فإنه ليس من المقبول أن يكون الزهري سبباً في أن يكون عالم الدعارة علي اتصال بعالم الأسرة البرجوازية، محققاً بذلك خوفاً أبداه القديس أوجستين، فالرجل الذي يصيب زوجته وذريته بالعدوي يخلق بذلك علاقة لا تُطاق بين فتيات الشوارع ونسله النقي، فالزهري الذي تحمله فتاة الهوي يهدد بنشر عفنها في كل مكان، لدرجة تدفع المجتمع للاعتقاد أنه بالكامل مهدد بال»الزهرنه«، وهو ما أوضحه »جان ديزاسانت« (»جان ديزاسانت« الشخصية الرئيسية في رواية »عد تنازلي« ل»أويوسمانس«)، حيث لخص هذا الهاجس الوحشي بقوله مفسراً حالة الرعب المسيطرة عليه دوماً »الأمر ليس إلا الزهري«.
لقد أصبحت العاهرة إذاً سامة ومجرمة وقاتلة أطفال، ومسئولة عن تدمير مستقبلهم، بل مستقبل أمة بأكملها، ومن وجهة نظر الأطباء النفسيين فإن العاهرة القاتلة المجرمة كمثل المجنونة بالضبط لا فارق بينهما.
في عام 1888، الدكتور فيريه الذي شرح ارتكاب الجريمة بفعل الجنون، أشار في »انحطاط وجريمة«، أن »ثمة قاسماً مشتركاً بين العاهرات والمجرمين إذ أنهم قرروا ألا يكونوا أشخاصاً منتجين وبالتالي هم ضد المجتمع«، فالدعارة بالنسبة له تشكل نوعاً من الجريمة ولكنها بلا عنف، ولكن آثارها مدمرة. ويخلص فيريه إلي أن »العجزة والمجانين والمجرمين والمنحلين من كل الفئات، يجب اعتبارهم جميعاً نفايات فشلت في التكيف مع الحضارة، إنهم لا يستحقون الغضب ولا يستحقون الكراهية، ولكن علي المجتمع، إذا أراد ألا يشهد انحطاطه بنفسه، عليه أن يحصن نفسه منهم جميعاً دون تفرقة، وأن يضعهم في وضع لا يستطيعون معه الإيذاء«.
ويري الدكتور جارنييه أنه لا يوجد سوي وسيلة واحدة للحماية من ويلات الدعارة: تقديم سن الزواج، »لكي نكون بمنأي عن جنون وفوضوية الشباب الذي طالت به فترة العزوبية، ولا يوجد تدابير صحية أخري للتغلب علي الحوافز الجنسية المبكرة، فالشهية الجنسية عنيفة جداً عند الفتيان في بداية مرحلة الشباب ويتم استفزازها وإلهابها بالدعارة«.
رباط الزواج ليس فقط إجراء وقائياً، ولكنه تميمة ضد الموت والمرض، ومن الضروري وضع حد للتأخير الضار الذي يفصل بين حياة الفتي وحياة الرجل.
بالزواج وباختيار مهنة وبإنجاب أطفال فإننا بذلك ندرك ونملأ وقت العزوبية الميت، ولكن هذا العلاج لا ينطبق إلا علي الرجال، فالدكتور جارنييه يعارض بشدة زواج العاهرات، إذ يري أن الغرغارينا تمكنت منهن بشكل لا يعطي لهن الحق في الزواج والاستقرار والانجاب، ورغم اشمئزازه فإن الدكتور جارنييه لا يري في الدعارة أصلاً للشر، فالمسألة ليست في إخضاع الرجال لنفس الرقابة الطبية الدورية التي تخضع لها الفتيات المسجلات رسمياً في كشوف الدعارة، ولكن المسألة هي ذلك العازب الواقع في قلب خوف كبير يعتمل في نفس الدكتور جارنييه، وإذا كانت العاهرة تقدم وسيلة سهلة لتقديم سن الزواج وعدم إنجاب أطفال، فإن العازب يعمل علي إيجاد الفسق من خلال الدعارة والفجور، الذي يمارسه ونتائجه المباشرة: الزهري، والزنا، والإجهاض وقتل الأطفال، وهي أمور ليست كبيرة بالنظر إلي تأثيرها الأكبر والمتمثل في قلة التعداد السكاني الذي تعاني منه فرنسا حالياً.
المتحولون
أحد الأسباب الجوهرية التي بسببها يثير العزاب والعاهرات جدلاً مثيراً ويجعل الآخرين يرفضونها رفضاً قاطعاً، هو تناقضهم الجنسي، إنه ذلك الهاجس المزدوج بتأنيث الرجال و»ترجيل« النساء في القرن التاسع عشر، فيما أشاعت الرومانسية في ذوق ذلك العصر صورة لشباب في غاية الجمال بشعر طويل وميول جنسية غامضة.
زوجان لا يمكن نسيانهما مكونان من الرجل.. »الرقيق» ألفريد دي موسيه، والمرأة ذات الميول الذكورية جورج ساند نصيرة ارتداء المرأة للسروال وحقها في التدخين، هما الشاهد الأبرز علي ذلك التبدل في الأدوار.
لوسيان دو روبمبريه العازب المتغندر الذي تخيله بلزاك يملك رقة وجمالاً تتناسبان مع النساء، فيما كان الأولي بهما ابنة عمه »بيت« التي خصها بلزاك بملامح وصفات الرجال، ولكن حينما تمر مرحلة الشاب فإن ذلك الخلط في الجنس ينمو بشكل هزلي، فيما الاعتقاد الشعبي يريد أن الرجال والنساء العزاب يؤولون في نهاية المطاف إلي التشابه مع ما يناسبهما في العمر.
في الخيال الشعبي، تمتلك الفتيات العوانس شارباً وصدراً مسطحاً، فيما الفتيان مصابون بوسواس داخلي وهواجس نرجسية تصبغ عليهم صفات نسوية.
بعد وفاة أخيه جول، قام إدموند دو جونكور الملقب آنذاك ب»الأرملة«، بتأليف كتاب من جزءين ليشرح بالتفصيل الممل ديكورات منزله في »أوتيل«، وفي مراسلاته مع العزاب الأخرين، كان فلوبير علي سبيل المثال، يختتم رسالته إليه بكلمات حب والرغبة في احتضانه بدفء، وكان فلوبير يطلق عليهما »كلبيه الصغيرين« من باب الدلال، وفي عام 1868 كتب إليهما طالباً ما يشبه كشف الحساب عن فترة انقطاعهما عن الكتابة له، وكان يتكتب عن نفسه بصيغة الأنثي قائلاً »هل متما؟ نسيتما فتاتكما العانس؟«.
الأطباء والأخصاء النفسيون، يرون أن الجانب النسوي عند العازب ليس قابلاً للمزاح والنكات، فالعازب دائماً مشكوك فيه بأن لديه ميولاً ضد الطبيعة، فأسوأ الانحرافات المتأصلة عند العازب بحسب الدكتور جارنييه، هو »البرود الجنسي« وهو هنا بمعني »حب وهمي انحرافي لأقرانه من نفس جنسه«، ويعتبر لومبروزو الارتداد الوراثي للكائنات المنحطة بمثابة تراجع نحو خنوثة بدائية »الانحطاط يميل رويداً رويداً إلي تقريب الجنسين وخلطهما ببعض، من خلال ميل للارتداد الوراثي نحو مرحلة الخنوثة، وينتج عن ذلك عند المجرمين الذكور العودة إلي مرحلة الطفولة أو التحول إلي الأنوثة وكلاهما يقود إلي اللواط، وبالنسبة للفتيات فإنهن يتحولن إلي كائنات ذكورية«.
ماكس نورداو كان طبيباً وفيزيائياً وكاتباً وناقداً اجتماعياً، وكان من أبرز زعماء الصهيونية. أيضاً خص الرجل المنحط بصفات ضعف اعتبرها أنثوية، مثل الانفعالية المفرطة ورخاوة بدنية واضحة والهيستريا. الشخصية الخيالية التي اتخذها هدفاً لانتقاداته تتوافق كل التوافق مع أوصاف جان ديزاسانت، فذلك الرجل »العصبي المصاب بالأنيميا« ينحدر من سلالة رياضية عسكرية عابسة، ولقد وصفه أويوسمانس بقوله.. إنه المنتج الوحيد »لتخنيث الذكور« من عائلته القديمة، والمنزل الذي كان يقيم فيه مؤثث بقطع قيمة وستائر غالية وأزهار نادرة، ولم يكن ديزاسانت ينجذب إلا للنساء شديدات الشبه بالرجال، كتلك الرياضية الأكروباتية قوية البنية »ميس أورانيا« التي كانت تعمل في سيرك، والتي اعتقد أنه وجد فيها »سحر الرشاقة وقوة رجل«، فتلك الفتاة البهيمية البشعة الحقيرة ذات الجسد النحاسي هي الشئ الوحيد الذي يناسب »مخلوقاً ضعيفاً منبطحاً لاهثاً« إنها »فتاة شاحبة اللون مثله تماماً«.
وإذا كان العزاب »المنحطون« يميلون إلي التحول جسدياً ونفسياً إلي نساء، فإن الاعتقاد السائد أيضاً هو أن المجتمع لم يكن يفصل ما بين الأدوار بشكل كاف، فطبقاً لمخيلة القرن التاسع، كان خرق القواعد الجنسية يغذي الحلقة المفرغة للعزوبية والدعارة، فالنساء ينخرطن في الدعارة حينما يغتصب الرجال وظائف مخصصة تقليدياً للنساء، إذ أن نسبة كبيرة من العزاب عملت كموظفين في محلات الملابس وخدم بالمنازل والكافيهات، حارمين بذلك النساء من وظائف شرعية، وكتب بارون دو شاتيليه ضد هذا الوضع ساخطاً »أليس من المخجل أن نري آلاف الشباب في مقتبل العمر يعملون في محلات ومقاهي باريس؟ حياة رخوة ومخنثة ولا تناسب إلا النساء«.
الفيلسوف الطوباوي شارل فورييه، الذي لا يجمعه قاسم مشترك مع دوشاتيليه، عبر أيضاً عن اشمئزازه لرؤية »رياضيين في الثلاثينات من العمر يجلسون القرفصاء أمام المكاتب وينقلون البضائع بسواعد قوية كثيفة الشعر، ويمسكون بأقداح القهوة ويبدو كما لو أنهم يفتقدون للزوجة والأطفال لكي ينشغلوا بتلك الوظائف التافهة«، وعلي العكس منه نسب دو شاتيليه إلي العاهرات عيوباً شائعة في عالم المجرمين الذكور، مثل تعاطي الكحوليات وسرعة النزق والعنف، وطبقاً لملاحظاته، فإن »العاهرات وبينما هن فريسة للحظات الغضب العام يبدين طاقة جسدية وروحية لا تخطئها العين، وفي تلك الحالة فإنهن تتعاركن بالأيدي العارية وتتقاتلن حتي الموت وتصيب كل منهن الأخري بجروح خطيرة«.
بزينتها وملابسها المستفزة، تمثل العاهرة في نهاية المطاف الأنوثة ولا شئ غير ذلك، ولكن تلك الأنوثة بلغت درجة من اللا معقول حتي أنها تستخدمها لإخفاء حقيقة مختلفة تماماً، فها هي امرأة تمتلك خصائص الرجل وترتدي زي امرأة، ولأن كل الموازين انقلبت رأساً علي عقب، فنري رجلا يأخذ مكاناً هو في الأصل للنساء وامرأة تأخذ مكاناً تركه الرجال بمحض إرادتهم.
حينما نقارنها بامرأة متزوجة قانوناً وخاضعة لزوجها أو لسلطة الأم، التي لا يمنحها القانون المدني سوي سلطة محدودة علي أطفالها، فإن العاهرة تمتلك سلطة تتجاوز السلطة الذكورية، فتعدد العلاقات الجنسية هي من صميم الصلاحيات الذكورية، والإمكانية التي تمتلكها الأكثر غني من بين العاهرات في اختيار حبيبها (أو حبيبتها) وفي أن تعيش حياتها علي النحو الذي تريده، وقدرتها علي ممارسة الجنس بهدف الامتاع وليس الانجاب، يجعل منها »امرأة بصفات رجل« تنافس الرجل في ملعبه الخاص.
في »غادة الكاميليا« تقول »مارجريت« ل»أرمون دوفال« إنها تبحث عن »شاب مُحب بلا إرادة، وأن يُحب بلا ضعف وأن يكون محبوباً«، وحتي »أرمون« عند نقطة معينة يطيع طاعة عمياء.
وبذلك فإن »مارجريت« عكست قانون العلاقات ما بين عاهرة خاضعة وزبونها الذي يتمتع بالقوة، وفي عام 1841 نشرت مجلة Le Charivari النقدية، رسماً حجرياً، مأخوذا من سلسلة رسومات »البغايا« لجافارني، يُظهر امرأة متمددة علي فراش مغمضة العينين، وتدخن سيجارها بهدوء ونهم واستمتاع، بينما لا تعير أدني اهتمام لحبيبها الواقف إلي جوارها، والذي يقول لها »أيتها الملاك الجميل، سجائرك أصدقاء أوفياء ولكنهم في غاية القسوة«، ويبدو المجاز هنا في غاية الوضوح: فالمرأة هي من تملك السيجار في إشارة رمزية جلية للتملك الذكوري، إنها هي من تقود اللعبة، إنها هي التي تتميز بالقسوة،إنها مثل »أوليمبيا« شخصية مانيه، متمددة علي هذا النحو لتعبر عن رفضها لكل شئ.
»نانا« (شخصية زولا) تمثل أيضاً النمط ذاته من العاهرات ذات الصفات الرجولية، إنها لبؤة أمازونية محاربة تحتقر الرجال، ولها فتاة المتعة الخاصة بها، إنها شيطان رجيم، هنا فإن العاهرة نفسها تلعب دور الزبون العازب الذي يدفع للنساء، دور يكشف عما كانت عليه طوال حياتها، علماً بأن شرطة الآداب كانت تقوم بتوقيف عاهرات متمردات بسبب سلوكياتهم الذكورية، فأحد الضباط يذكر علي سبيل المثال سوزان لاجييه ممثلة ومغنية شهيرة ضاجعت فلوبير والأخوان جونكور، ويقول عنها »بذكائها الشديد استطاعت أن تنشيء أعمالها التجارية الخاصة بها، إنها داهية خدعت الكثير من المغفلين«.
تلك الممثلة التي كانت تدفع الأموال لفتيات الهوي كي تمارس معهن السحاق، لم تكن تجعل من ميولها الجنسية المزدوجة سراً، فحينما سألها الأخوان جونكور عن ذلك أجابت »إن في السحاق حرية تتشابه لحد ما مع تلك الحرية التي ينعم بها الرجال فيما بينهم، كحرية الضراط علي سبيل المثال«.
العاهرات والعزاب أطاحوا بقوانين كان القرن التاسع عشر يعتبرها طبيعية، فهم لم يكشفوا فقط »الازدواجية الجنسية المتأصلة في كل الكائنات الحية«، والكلام هنا علي مسئولية أتو فينجر، ولكنهم يجسدون أيضاً إمكانية العار غير المقبولة، بأن يتحول الرجال إلي نساء والنساء إلي رجال، وإذا العاهرات والعزاب يمكنهم هكذا اقتراح عكس الأدوار الجنسية، فإن ذلك ليس لأنهم بلا شك كائنات محدودة ولكن لأنهم مخلوقات ناقصة يعيشون نمط حياة متوسط وبلا أصول واضحة ومستقبلهم زائل لا محالة، وفي نهاية ذلك القرن (القرن التاسع عشر) كان يتمركزون عند نقطة حيث الحالة الأكثر تقدماً بالحضارة لحقت بحالتهم البدائية.
ما بين عامي 1830و1840، ظهرت موسوعات أخلاقية مثل »الفرنسيون يرسمون أنفسهم« وهي دراسات نفسية صغيرة الحجم، أو في هيئة قصص قصيرة مثل »مشاهد من حياة بوهيمي« لHenry Murger التي تقدم نماذج لأنماط شخصيات الحياة الباريسية، والنساء المنحلات يحتللن فيها مكاناً بارزاً، ومن جانبهم قدم شعراء مبتدأن ونحاتون وطلبة وأمراء البوهيمية ومتنغجون، وجهاً جديداً للعازب، مثل جافارني، وجراند فيل، ومونيه، وآخرين.. فنانو كاريكاتور يرصدون أدق تفاصيل الملابس والملامح والنظرات والهيئة العامة التي تلخص سمات شخصية ما.
الدراسات المعنية بالعاهرات والعزاب في القرن التاسع عشر تمركزت إذاً في تقاطع الأدب مع التاريخ، مع الأساطير، وهو ما يمكن أن يكون واقع حياة هؤلاء الرجال والنساء، ولا يمكننا إلا أن نتخيل بصعوبة انطلاقاً من هذه العناصر.
رغم انتشار الأعمال المخصصة للدعارة في القرن التاسع عشر، فإن الشهادات المباشرة نادرة، فأصوات العاهرات دُفنت تحت وفرة الأعمال الأدبية التي خصصت لهن، والعزوبية تحكي بطريقة أكثر ذاتية وأكثر حميمية، ولكن حتي كبار الكتاب العزاب مثل بودلير والأخوين جونكور وأويوسمانس، ذهبوا بكامل وعيهم للحديث عن شطحات وأشياء ينبذها الجميع، طبقاً لشهادات معاصريهم، والحقيقة الوحيدة التي لا يمكن دحضها هي الطريقة التي تم بها تخيل حياة العاهرات والعزاب، وطريقة الحديث عنهم في خطب وطريقة تصويرهم.
مهما كانت واقعية التمثيل لا يمكننا أن ننسي أنها خيالات مملاة بفانتازيا وأحكام مسبقة خاصة بذلك العصر، فالعزوبية والدعارة تلامسان من قريب جداً عالم الجسد والجنس، لكي لا يُلهم ذلك بردود أفعال متطرفة من السحر والرفض.
تلك الحياة التي تجعل من الجنس قضية عامة، وتنزع الغطاء عن السر، فالعاهرة تعرض الجنس حرفياً علي الطريق العام، والحياة الخاصة للعازب، لاسيما إن كانت سرية، تثير تساؤلات بلا نهاية، وميوله الجنسية تصبح أمراً مشكوكاً فيه، ومن الطبيعي أن يُشتبه في أنه يخفي عاهة مشينة أو انحرافا بغيضا، وحياة العزلة التي اختارها تكون مناسبة لكل أنواع الوهم، وبفضل السحر الممارس بواسطة وحدة عامة ارتبط العازب والعاهرة ارتباطاً وثيقاً بالحداثة.
ما ينظر إليه من جانب علي أنه لعنة، هو أيضاً شرط لا غني عنه لنشوء فكرة متفردة تحدث قطيعة مع العادات والتقاليد. الأنماط التي كانت منتشرة عن طريق موسوعات الأخلاق، والتي كانت منبثقة عن ثورة جمالية حقيقية، أعادت إلي الفنان صورة جديدة تماماً بالنسبة لوضعه، ففي ذلك العصر، كان لفظ »فنان« مقصوراً فقط علي من يشتغلون بالرسم والنحت والنقش، ثم بدأ نطاق استخدامه يتسع ليشمل كل من ينتج فناً بما في ذلك منتجو الأدب.
في القرون الوسطي وفي عصر النهضة، كان الفنان حرفياً وعاملاً ماهراً، وبحسب بروست، فإن »الفنان مواطن من وطن غير معلوم فهو نفسه نسي نفسه«، وباختلافات بسيطة يمكن أن يكون موسيقياً مثل فانتوي، أو نحاتاً مثل إلستير (من شخصيات رواية »بحثاً عن الزمن المفقود« لمارسيل بروست) أو كاتبا.
مع الرومانسية، لم يعد تعريف الفنان يتم من خلال طبيعة وممارسة العمل الذي يقدمه، ولكن أيضاً من خلال نمط حياته عموماً الذي يتعارض مع الوجود البرجوازي، فالعمل الفني لم يعد ينفصل عن الأخلاق، والعادات والسمات، بل وحتي المظهر الجسدي.
دون شك، بسبب العمل الأوبرالي »البوهيمية« لبوتشيني والذي تحول إلي قصة علي يد »هنري مورجيه«، فإن حياة البوهيمي تُختصر غالباً في الفقر، ويستثني من ذلك المتغنجين المتأنقين من الأغنياء، ومع ذلك فإن المعيار الجوهري لهذا الوجود ليس المال وإنما العزوبية، فالفنان البوهيمي يطالب باستقلاله تجاه الزواج تلك المؤسسة البرجوازية بامتياز التي ترجح المصلحة وليس الميل وما يفرضه الهوي.
في الموسوعة الأخلاقية »الفرنسيون يرسمون أنفسهم«، التي نُشرت ما بين عامي 1839 و1842، يُعرف الشاعر علي أنه العازب: حيث إن المزاج المستقل للشاعر ينحني بصعوبة لينير الحياة الزوجية، فهو بحاجة لحرية الروح وحرية الحركة وهو ما يتعارض مع المشاحنات الزوجية.. كما أن الإزعاج الذي يسببه الأطفال يكفي لجعل المنزل لا يُطاق بالنسبة للشاعر، ذلك لأنه يُكن الكراهية لكل ما يعكر صفو تأملاته.
الإبداع الشعري هو مسألة إلهام مفاجئ، فالشاعر يجب أن تكون لديه الإمكانية علي الذهاب للغابة ولو في الثانية صباحاً، لكي يكتب أبياته علي ضوء القمر لو تطلب مزاجه ذلك، دون أن تمنعه زوجة متمردة أو صراخ أطفال.
استقلالية الفنان تجاه المجتمع البرجوازي تتضح كذلك بوضعه غريب الأطوار، وهو ما يشكل مصدر سعادة لرسامي الكاريكاتور.
الشاعر الرومانسي صاحب اللحية والشعر الطويل، يرتدي بكامل إرادته ملابس لامعة مستوحاة من رسم عصر النهضة والروايات القوطية، أو زياً عسكرياً أجنبياً، وكما يذكرنا تيوفيل جوتييه في »مذكراتي الرومانسية«: »كل فرد كان يحاول أن يميز نفسه بملابس خاصة: قبعة ذات شعر ناعم علي طريقة روبنز، أو معطف مخملي علي الكتف، أو صديري ضيق علي غرار فان ديك، أو معطف مضفر علي الطريقة المجرية، أو ملابس غريبة الشكل والألوان«.
رمز هذا الجيل هو السترة الحمراء الشهيرة التي كان جوتييه نفسه يرتديها، في أول ظهور علي المسرح مقدماً مسرحية »إيرناني«.
هذه السترة مفصلة علي النحو التالي: علي نفس طول دروع كان يرتديها مقاتلو ميلان في إيطاليا، ومعها قبعة كان يرتديها جنود الملك فيليب الثالث في القرن الرابع عشر، بدلا من الأحمر الصريح تحول لونها للأحمر الأورجواياني لتجنب عار أن يكون اللون الأحمر ترويجاً لشخصيات بعينها مثل »ماكسميليان روبسبيير« كان عليه ألا يعيد ما حدث عام 1793 من إعدامات ثورية دموية قام بها روبسبيير، وذلك بالبعد عما كان يجتاح القرن من أحداث واستخلاص الدروس من خلال الإغراق في الماضي الإقطاعي.
من وجهة النظر هذه، فإن عزوبية الفنان الرومانسي هي إحياء لتقاليد رهبان العصور الوسطي، والإجبار علي العفة في الرهبان، والبوهيميون أعادوا إنشاء مجتمع ذكوري متركز علي الثقافة، بحيث لا تكون المرأة فيه سوي صديقة تصنعها الصدفة أو مصدر إلهام دون التسبب في أي إزعاج، ولكن المرأة مع ذلك تلعب دوراً أساسياً في حياة الفنان، والذي نادراً ما يُظهر عزوبيته علي أنها امتناع عن الزواج.
وبما أنه تخندق بعيداً عن طقوس ومؤسسات الحياة البرجوازية، فإن للبوهيمياً غالباً علاقات مؤقتة مع فتيات تبعن المتعة، واللغة الخضراء حفظت أثار ذلك بمصطلحات عامية، مثل: »فنانة« أو »فنانة في الغرفة«، مصطلحان للدلالة علي أنها تستقبل بوهيمي في غرفتها.
فالفنان والعاهرة يلتقيان هنا حيث يُصب الفائض من المجتمع البرجوازي، وذلك بحسب اعترافات ساخرة لألفريد دو موسيه في »اعترافات طفل القرن«، ويضيف موسيه: »بعدما يقضي الرجل وطره من المرأة، كان يهمس بكلمة تجرح حتي الموت: يا لها من حقيرة، كان الرجال يلقون بأنفسهم في الخمر والنساء والطلبة والفنانون كانوا يفعلون الشئ ذاته، كانوا يعالجون الشر بالشر، كان الجيل الرومانسي يريد التحرر من سحره الأسود في المكان الخطأ«، كل ذلك مع تشويه مثالية الأنثي، علماً بأن فتاة المتعة تعرض بضاعتها بصدق، فهي لا تعد بأكثر مما تملك، ولا تعطي أقل مما تعد به، وعلي الجانب الآخر فإن الزواج بالنسبة للرومانسيين ليس إلا فخاً تنصبه العائلة البرجوازية للزوج أو للزوجة المستقبلية.
ها هو صديق يحدثكم عن فتاة شابة: »هي جميلة ومن أسرة طيبة قامت بتربيتها بشكل جيد، وللفوز بها عليك أن تدفع 300 ألف فرنك، وإذا أردت أن تقابلها فإن ذلك سيحدث بمقابلة صدفة علناً بينما هي معدة سلفاً سراً، ولمزيد من الابتذال، سيعقبها عقد يتفاوض علي بنوده اثنان من كاتبي العدل«.
الباقي المرئي من هذه القصة يحكيه بلزاك في »المآسي الصغري للحياة الزوجية«، والتي ظهر منها عدة أجزاء في »الشيطان في باريس«: فاستياء الزوجين تحول من الضرب تحت الحزام، بالمعني الحرفي للكلمة، للضرب بلكمات في الوجه والرأس إلي حرب بلا هوادة بينهما، ومع ذلك فإن البوهيمي الرومانسي ينتهي به المطاف غالباً بحياة شبه زوجية مع فتاة شابة من طبقة اجتماعية متواضعة، تكون مهمتها العناية بمنزله وذلك لأن عُزاب القرن التاسع عشر كانوا يجهلون تماماً فن الأعمال المنزلية.
الفنان ينتظر من عشيقته أن تعمل علي راحته المادية، وعليه أن يدفع لها مقابل ما تقدمه، فهي التي تذهب لتشتري له التبغ والخمر ولحم الخنزير، وهي التي تُعد الولائم حينما يدعو أصدقاءه.
ذلك المنزل الخاص بالفنان البوهيمي والعاهرة أصبح شيئاً أسطورياً في ظل ملكية يوليو. ويوضح جول جانان ذلك بقوله: »العاهرة هي العناية الإلهية لهذا النوع من الشباب الأعزب، شرف وروح وضوضاء مدارسنا.. هي حب ضاحك ومهمل لشعراء بلا عشيقات، لخطباء مازالوا في أول الطريق، لجنرالات دون سيف، لسياسيين دون منبر.. إن كل شاب يعيش في باريس بأموال هزيلة يمنحها إياه والداه وبقليل من الأمل، له الحق في أن يكون هو الطاغية الفائز بهؤلاء الماركيزات الجميلات في شارع فيفيان«.
الحق في العزوبية
المومس التي كانت تربح بالكاد ما يكفي لسد احتياجاتها الأساسية، كان يتم اعتبارها امرأة ليست علي خُلق ويمكن إغواؤها بسهولة، وإذا كانت لا تمارس الدعارة نفسها فإنها تكون قريبة من هذا الوسط، وفي بعض الحالات يمكن أن تتحول إلي »امرأة متنقلة« بين أكثر من رجل، وهو ما يجعلها موضع اشمئزاز واحتقار من الجميع.
في عام 1882، أوضح ألفريد ديلافو في »الساعات الباريسية« أن »الحي اللاتيني بالنسبة للفتيات هو غرفة انتظار كعاهرات، وبالنسبة للفتيان هو غرفة انتظار للمجد، فالفتيات يصبحن فتيات بينما الفتيان يصبحون أطباء ومحامين«.
طبقاً ل»فيسيولوجيا المومس«، »فإن القطيعة مع الحبيب قد تكون لفتاة في بداية حياتها العملية، فالفتاة ذات الحظ التعس تظل تتنقل من يد ليد كورقة بحاجة للختم من أكثر من موظف، إلي أن تسقط تدريجياً في الدرك الأسفل من الفساد«.
»الفتيات«،أي النساء غير المتزوجات، حينما يصبحن »فتيات« أي عاهرات، فإنهن بذلك لا يفعلن إلا تحقيق مصير مكتوب في اسمهن، فهن يصبحن ما كن دوماً عليه، أما الفتي فيجب أن تتغير أوضاعه، إذ ينتظره المجتمع ليخرج من شرنقة العزوبية ليكون مواطناً مفيداً.
أن تكون مومساً، أو طالباً أو بوهيمياً، أو غندوراً، فتلك حالة مؤقتة، فالمومس قد تتزوج أو تشيخ وهي فتاة والطالب القادم من الأقاليم يعود إلي بلده ليستقر بها، »ففي اليوم الذي يصبح فيه الطالب محامياً أو طبيباً فإنه ليس نفس الرجل الذي كان من قبل«،هكذا يؤكد مؤلف »فيسيولوجيا الطالب«، ويضيف »يشتري ملابس سوداء وقورة ويقص شعره ولا يشرب إلا القليل من التبغ في المناسبات، باختصار يصبح مصنفاً في طبقة البرجوازيين.. فالعازب القديم بشارع »سان جاك« تزوج حينما بلغ الأربعين وأصبح لديه كرشاً ويرتدي نظارة«.
فمن الصعب تخيل أن الفنان سيستمر لأجل غير مسمي في حياة بوهيمية في غرف الحي اللاتيني، في وقائعه التي دوّنها عن الجيل الرومانسي »فرنسا الشباب«، تيوفيل جوتيه الذي كان في الثانية والعشرين وقت كتابته تلك الوقائع، يؤكد أنه في سن الثانية والعشرين لم يكن يهتم بمستقبله علي الإطلاق، »لقد قيل لي عدة مرات بأنه يجب أن أفعل شيئا وأن أفكر في مستقبلي.. كانوا يقولون لي: ينبغي أن يكون لك وضع في المجتمع ولو لمجرد لقب، فلتعتبره دواء من الصيدلية وعليك ابتلاعه، وأنه لا يمكنني ألا أكون شيئاً فذلك لم يره أحد من قبل«، ولكن في ظل الإمبراطورية الثانية، جوتيه نفسه، الكاتب والناقد، كان مُحتفلاً به ورغماً عنه أصبح شخصاً آخر.
الشاب المتأنق المتغندر الذي يحظي بوضعية اجتماعية أفضل من الطالب والفنان البوهيمي، يمكنه الحفاظ علي شخصيته لفترة طويلة، ومع ذلك فإن حالة الشاب الغندور تتماشي بشكل سيئ مع العازبة العجوز، فمن الصعب تخيل أن غندورا عجوزا بإمكانه إطلاق موضة جديدة، أو التحدث بالنبرة الملائمة للمجتمع الذي يعيش فيه.
ملك الشباب المتغندر بو بروميل، العازب غير المرن بلغ ذروته علي كل المستويات في الفترة من 1810 1820 حينما كان مقرباً من أمير ويلز، ولكنه انتهي به الأمر مجنوناً وحيداً فقيراً بعدما هجره الجميع.
أما بودلير فلم يكن سلوكه الغريب مثيراً للدهشة إلا لفترة من الوقت، وحينما استقر في العاصمة البلجيكية بروكسل عام 1864، وتحديداً في فندق »المرآة العظيمة«، كان أسيراً لحالة من الخمول العميق ويعاني الإعياء بسبب المرض، وكان محبطاً طوال الوقت ويشتكي لأمه افتقاده لكل شئ حتي الملبس الجيد.
نعترف.. للشاب الغندور وللبوهيمي وللطالب وللمومس الحق في العزوبية، بل إننا نري هذه العزوبية إحدي أهم مميزاتهم، وشذوذ سلوكهم ليس بالشيء المقلق إذا ما كان عابراً، ولكن أن تستمر هذه الحالة وقتاً طويلاً فإن حكم المجتمع لن ينتظر، ومن الطبيعي إذاً أن الزوجين الشابين المكون من بوهيمي ومومس يعقبه زوج يحظي بتعاطف أقل، مكون من شاب أعزب في منتصف العمر وعاهرة، وكان ألفريد ديلافو يطلق عليهم، بشكل لا يخلو من الازدراء، »الأهطل«، و»العاهرة المستفزة، والكسول والكسولة، ونساء البحيرة وفرسان الوسام«، و»الأهطل« يُعرفه ألفريد ديلافو، في »قاموس اللغة الخضراء« (قاموس باللغة العامية لشرح مصطلحات الشارع) ب»أحمق يوظف وقت فراغه لتدمير نفسه من أجل بغايا يسخرن منه«.
وكان لقب »سيدة البحيرة« يمنح للعاهرات اللائي كن يذهبن يومياً لغابات »بولونيا« ويجلسن بجوار البحيرة الرئيسية حيث يتمشي الأغنياء الشيك، أما فرسان الوسام فهي إشارة لعالم مزيف لفرسان الصناعة أي عالم منحط من النصابين المخادعين القوادين، وعلي العكس من الفتاة العانس الوحيدة علي الدوام والتي تُعتبر مصدر إحباط ومنفرة لكثيرين فإن الشاب الأعزب ليس وحيداً بل هو رفيق لكل فتيات الهوي.
هذا ما يوضحه كتاب »فسيولوجيا العازب والفتاة العانس« الصادر عام 1842، ل»Louis Couailhac«، الذي يقدم، في وقت واحد، نظرة عامة متعاطفة مع البوهيمي، وآراء متحفظة إجمالاً تجاه العزوبية، ويؤكد كويلاك: »دائماً ما يوجد ضد العُزاب أحكام أخلاقية مسبقة، فيُنظر إليهم علي أنهم أناس ساخرون، بدون وضع اجتماعي، ولا يحظون بقبول أو بأي ضمانة في الحياة، ولا يُسمح لهم بالاندماج مع العائلات إلا بفرص نادرة«، علماً بأن العازب الذي يتحدث عنه كويلاك هو »ذلك الذي تجاوز الأربعين، أما الأكثر شباباً فيسميهم »عزاب مؤقتون«، منهم كتاب العدل، ومساعدو جنود الدرك، والكتاب المتمردون، والنوادل في المطاعم والمستمعون في مجلس الدولة، وأبناء الأسر المفككة«.
عازب منتصف العمر يثير خوف الفتيات الشابات والنساء المتزوجات، لأن مجرد وجوده يؤثر سلباً علي سمعتهم، و»أنفاسه تكون جاذبة لوباء الغيبة والنميمة، والجلوس معه في مكان واحد يكون شيئاً معدياً بالأمراض الاجتماعية، وبمجرد دخول أحد العزاب لصالون به أسر، فإن الجميع يقتربون من بعضهم البعض ويشكلون دائرة لا يسمحون له بالدخول فيها«، وبالتالي فإنه لا يستطيع مجالسة نساء إلا لو كانت سمعتهن مُعرضة بالفعل لكثير من القيل والقال.
»من النادر أن تري العازب يتمتع برصيد إلا عند فتيات ضائعات، وفتيات يرتدين قناع اللبؤات في الحفلات التنكرية، وفتيات يلعبن دور البطولة الثانوية في المسرحيات، فهن لا يحصلن علي الثناء والمديح والمغازلات إلا من العزاب، ويرفضن حب الرجل بمجرد علمهن أنه متزوج«.
رسم مونييه الذي يوضح ذلك التوجه، يُظهر أعزب متأنقاً تبدو علي ملامحه السذاجة، ويتجول علي أحد جوانب الطريق وإلي جواره مومس متأنقة، التي تتجاوزه بمسافة تساوي مقدار مد رقبتها وتعطي إيحاء بأنها من سيدات المجتمع الراقي، ليسا حبيبين وجهاً لوجه، ولكنهما يلعبان دوراً مستعاراً ولديهما شعور بأنهما في موقف تمثيلي، فالعازب والمومس يتحاشيان بعناية أن ينظر أحدهما في عين الآخر علناً كما لو أن كلا منهما يشعر بالعار من الأخر، فعيونهما تتحرك في اتجاهات عكسية تماماً وهو ما يخلق نوعاً من الكوميديا، ولكن كلا منهما يحتاج للأخر لكي يواجها نظرات الجموع، فذراع المرأة يستند علي ذراع الرجل وإن لم تلتق عيناهما فإن جسديهما يحتكان ببعضهما البعض.
الزوجان اللذان يشكلانهما بمثابة إهانة بالغة للأسرة التي تتنزه في نفس الشارع، لا سيما وأنهما يشبهانها بغرابة، فالعازب يحمل عصا ويرتدي قبعة، وهما من أهم ما يميز لبس الطبقة البرجوازية، إضافة للسراويل الضيقة ذات الأشرطة والأحذية الجلد، ورفيقته تتجول معه، ليس بشعر مكشوف مثل العاملات ولا ترتدي »بونيه« مثل المومسات، ولكنها ترتدي برنيطة ذات شبكة سوداء علي الوجه وشالاً مُزين بدبوس شيك أو ورد، فتبدو أكثر أناقة وتأنقاً من مومس مبتدئة، خاصةً أنها ترتدي شالاً مستورداً من الهند ومن أفخم أنواع القماش، لذا فمن حيث المظهر الخارجي بإمكانهما المرور بهدوء كما لو كانا زوجين برجوازيين، ولكنهما من الداخل يقلبان، رأساً علي عقب، قيم العائلة، فهذان الزوجان معرضان للانفصال بشكل أسرع مما ارتبطا به، فالمومس ترافق الشاب الأعزب علي أمل الزواج منه، ولكن لا شئ يجبر الرجل علي فعل ذلك، وحتي إن أعطي وعداً وأخلفه فإن القانون لا يعاقبه، فلا يوجد أي قاعدة أو عقد يربطهما، ولا يوجد بينهما شئ مشترك: فالفتاة لا تشاركه ما يأتيها من أموال، وهي تنفق كل ما لديها بسرعة علي المسكن والمأكل والملبس، وليس لديهما أطفال ولن يكون ذلك أبداً، وحتي إن حملت الفتاة وأنجبت فلا يوجد ما يضمن لها تلقي أي مساعدة مالية من والد الطفل، لأن القانون المدني يمنع منعاً باتاً التحقق من الأبوة.
فتيات العار
وبالرغم من أن العازب يتمتع، في نظر المجتمع بقدر أكبر من الحرية مقارنةً بالعاهرة ولكن يتم وضعه أيضاً في طبقة غير المصنفين، ففي فصل »الزواج« ب»قاموس العلوم الطبية«، الصادر عام 1872، يقوم مؤلفه الطبيب والمختص بعلم الإحصاء والتعداد السكاني جاك بيرتيون بوضع العازب علي المقصلة »يجب أن يعتبر المشرِّع أن من أعدي أعداء المجتمع والمرأة ومؤسسة الزواج، هما أكبر قرحتين فيه: العازب وفتاة الهوي«، وإذا كانت »فتيات العار« كما أطلق عليهن، »يلقحن رجالنا بوقاحتهن، فإن الخطأ يعود علي الشباب الذين أضلوا هؤلاء الفتيات السبيل، وذلك لأن عدداً كبيراً منهن تم إغواؤه وخداعه، ثم إلقاؤهن في الشوارع من قبل من غرر بهن«، ويمكن أن نلتمس لهن العذر أكثر من ذلك المنحل الذي غرر بهن والذي يعتبره الدكتور بيرتيون ثعباناً خبيثا، ويلقبه ب»رجل المتعة«.
حتي في الأدب الشعبي المختص بعلم وظائف الأعضاء (فيسيولوجي)، الذي يأخذ منهم الجوانب الجميلة والمثيرة للضحك في نفس الوقت، فإن العاهرات والعزاب يستدعون دوماً أحكاماً قاسية، فهناك من يعتقد أنهم من اختاروا مصيرهم في الأساس، فذلك النمط من الأشخاص له خصائص غير قابلة للتغيير، وإلي حد ما، فإن البورتريهات الخاصة بالعازب والعاهرة، والتي تم ابتكارها في العصر الرومانسي، عززت الأحكام المسبقة الموجودة بالفعل، فالتهميش الذي يجعل منهما شخصيات رائعة يكرسهما أيضاً ليصبحا لعنة علي الطبقة البرجوازية، فالعاهرة بالنسبة لضابط الشرطة »فتاة برقم« أو »فتاة بكارت«، وهي أيضاً موضع دراسات أخلاقية.
إذ إن مؤلفي الموسوعات الأخلاقية ومفتشي البوليس، يتشاركان في شبكة كبيرة للتجسس، فصورة البوهيمي الأعزب في علم وظائف الأعضاء من الأشياء المسلية، ولكن ذلك يجعله محكوما عليه بالوجود في عزلة، حيث يتم تصويره علي أنه كائن طفيلي وغير مسئول وكسول، ويعند بالمجئ متأخراً عن موعده، وبالنسبة للطبقة البرجوازية فإن كل رجل يرفض أن يكون مواطناً مفيداً منتجاً فإنه يتم تصنيفه في طبقة المجرمين المحتملين.
حينما ظهر كتاب »حياة البوهيمية«، غضب أويسمانس كاتباً عام 1876: »كل وسطاء بيع كريمات الشعر والخمور شعروا بزيادة رعبهم الوحشي من الكتاب والرسامين.. كان الجمهور مقتنعاُ أن الكاتب »كائن مختلف عن الآخرين.. مجرد رعاية من الرعاع شعره مسبسب أو يرتدي برنيطة مدببة.. هو مجرد وغد لا يجيد سوي البكاء ناظراً للنجوم، وخداع بواب البناية التي يقطن فيها ونادل المقهي الذي يجلس عليه، كي لا يدفع ما عليه». ولكن تلك النتائج المستلخصة من الحياة البوهيمية، تُستخدم فقط للوصف دون بحث أو تحليل أو تصحيح، فالعزوبية والدعارة كان يتم اعتبارهما من أعمال الحياة الباريسية، وشيئان لا مفر منهما مثل إضاءة الشوارع بمصابيح الغاز حينما يحل الظلام.
بواسطة الفكاهة ونبرتهم القصصية الساخرة النادرة وتركيبتهم المفككة، قام علم الفسيولوجي بتفريغ ادعاءاتهم، وتدريجياً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأت الكتابات الجذابة الطريفة تختفي ليحل محلها كتابات خطب قاسية عنيفة ذات صبغة علمية مستوحاة من الهاجس بالسلوكيات المنحرفة.
أطباء العلاج النفسي ومعالجو المختليون عقلياً والمتخصصون في علم الجريمة، سوف يطالبون بمساءلة العاهرات والعزاب، وتحليل أسباب »شذوذهم«، والبحث عن أفضل السبل لوضعهم في حالة لا تكون مؤذية للمجتمع، وظهر علم جديد للتصنيفات والرموز يهتم بشكل كبير بدراسة الأجسام والعقول، وبمرور الوقت بات العزاب والعاهرات يجسدون انحرافاً جسدياً وجنسياً ونفسياً، وبعيداً عن مقاومة هذا الاتجاه شارك الأدب والفنون في تلك الدراسات بشكل واسع، فالعاهرات في الأدب الطبيعي لم يعدن في صورة ورود علي أرصفة باريس بأي شكل من الأشكال، بل مجرد جثث يتم تحليلها بشكل لا نهائي ممن ابتكروهن في رواياتهم.
أويوسمانس وفيلييه دو ليزل آدم كانا متهمين بالإغراق في الفحش وبارتداء ثوب »روائيو الانحطاط«، وتمكنا من اللعب علي الغموض ما بين الشخصية الحقيقية للكاتب والشخصيات التي يبتكرها.
هؤلاء المتغندرون الذين يحتقرون عصرهم ويكرهون الزواج البرجوازي، يستغلون الحرية التي تمنحها لهم العزوبية من أجل تشخيص مجتمع في طور الاضمحلال.
في عام 1976 أصدر أويوسمانس روايته الأولي في بروكسل، بوحي ذاتي، »مارتا.. حكاية فتاة«، تم توقيفها علي الحدود الفرنسية البلجيكية، وتمت مصادرة الكتاب سريعاً بتهمة التعدي علي الأخلاق العامة، وفي العام التالي ظهرت رواية أخري قابلة للاشتعال بعنوان »الفتاة إيلزا« لإدموند جونكور، وهي مستوحاة من قصص عشيقة الأخوين جونكور المرأة العاقلة »ماريا«.
في عام 1880 أثارت رواية »نانا« لإيميل زولا ضجة كبيرة، إذ صنع زولا شيئاً استثنائياً في عالم طبيعاني تحكمه العزوبية، وهو ما يفسر لماذا »نانا« الأقل حميمية والأكثر استخداماً للاستعارات البلاغية عن كل رواياته التي خصصها لفتيات الهوي، وبينما رسامو الكاريكاتور ضاعفوا من رسوماتهم المعبرة عن كتابات زولا الطبيعية، مستوحين الكثير والكثير من شخصية »نانا«، كانت حكومة جامبتا تخطط لمصادرة العمل.
وفيما يُعد فضيحة رأي كبيرة، خرجت فتاة المتعة من مجال الرسم الكاريكاتوري لتدخل بشكل مثير مجال الفنون الجميلة، فبعد »الغداء علي العشب«، و»أوليمبيا« لمانيه، وفيلسيان روبس وتلميذه تولوز لوتريك وجان لوي فوران وإدجار ديجا صنعوا منها (فتاة المتعة) رمزاً لجمالية انحلالية لا تمت بصلة للمواثيق الأكاديمية.
أويوسمانس كتب بحماسة شديدة عام 1880 عن إحدي اللوحات المائية لجان لوي فوران التي تظهر 3 بنات في صالون أحد بيوت الدعارة: »إن ما يبدو إعجازياً في ذلك العمل هو قوة الحقيقة التي تظهر منه، إنهن فتيات يعملن في ذلك البيت ولسن فتيات أخريات، وإذا كان وضع جسدهن، ورائحتهن المزعجة، وتعفن جسدهن تحت أضواء مصابيح الغاز، كل ذلك يظهر بوضوح ودقة بشكل غير مسبوق، فإنه أظهر أيضاً إنسانيتهن البهيمية وطفولتهن«.
حينما يلتقي الأخوان جونكور بفيلسيان روبس لأول مرة، وهما اللذان قد وثقا فيه ليرسم رسماً توضيحياً عن »المومس« (رواية ألفها الأخوان جونكور)، قال لهما الرسام لشاب إنه يريد أن يجعل، بدراساته عن العاهرات، »الشئ الحداثي من وجهة نظر الطبيعة«، وكان روبس يحكي عن جانب كارثي مفجع وجده خلال ليلة واحدة أمضاها مع عاهرة تدعي كلارا بلوم.
بالنسبة لروبس وفوران، فإن الفتيات العاهرات يمثلن بشكل أساسي مفهوماً سوداوياً من الحداثة، وهو ما يتجلي عندهن في الكآبة والشذوذ والبشاعة، فمن بين فتيات فوران اللائي يعرضن أنفسهن أمام العميل توجد فتاة سمينة خمرية اللون جسدها ذابل عليه أثار أيادي من ضاجعوها، وأخري شقراء بساقين مقوستين«، هكذا كتب أويوسمانس ناسباً إلي فوران هوسه بالجلد الحريمي الناعم المتعفن، إنه ذلك العطر المتعفن الذي يجذب الكتاب الطبعانيين والرسامين الواقعيين، فبعدما سحقتهم الحياة ومصيرهم الأسود أصبحت هؤلاء الفتيات يعشن كالحيوانات بدون هدف أو إدراك ما يدور حولهن، انتظاراً للتحلل النهائي لأجسادهن بعدما يقضي عليهن المرض.
وبينما الفن الأكاديمي يحتفل بالأعمال الراقية من ماض مجيد ويخلد لحظات تاريخية ذات مغزي، فإن رسم الفتيات وعلي العكس من ذلك كان يهتم باللحظات الميتة من العالم المعاصر.
إدجار ديجا كان مهتماً بوجوه وأجساد النساء المنهكات جراء حياتهن: فتيات بيوت الدعارة وفتيات الشوارع، والغسالات والممثلات ومغنيات المقاهي والحفلات الخاصة.. كلهن كن مشتبها بهن أنهن يمارسن الدعارة في ذلك الوقت.
في وصفة أدبية خفيفة نُشرت عام 1877 بعنوان »نساء في شرفة مقهي وقت المساء«، يُظهر ديجا 4 فتيات يجلسن في شرفة مقهي ذات إضاءة عالية، أعمدة الشرفة إضافة لزاوية رؤية منحرفة كانت تقطع أجسادهن، وكن جميعهن منهكات، وكانت إحداهن تقرض أظافرها بينما نظراتها شاردة، فيما رفيقتها كانت مغلقة العينين وبالكاد تستطيع أن تجلس معتدلة علي مقعدها، كما لو كانت قواها قد خارت أو أفرطت في الشرب، وتحت أضواء مصابيح الجاز كانت وجوههن تبدو طباشيرية، وقبعاتهن كانت بألوان مبهرجة.
الفتيات لم يكن يشكلن نموذجاً يرسم من خلاله الرسام، بل هن كن بالفعل علي طبيعتهن في هذا الموقف مثل فتيات أحد منازل الدعارة اللائي رسمهن كونستان جايز.
في الواقع فإن العاهرة، علي العكس من الفتاة الموديل، لا تقف كنموذج للرسام، إنها ببساطة تنتظر الزبون.
نساء شارع »مولان«، في باريس حيث كان هنري تولوز لوتريك يقضي يومه، كن ينتظرن بفارغ الصبر في الصالون الكبير المعلق الغالب عليه لونا البنفسج والاحمر الأوروجواياني، وتلكم النساء اللائي كن ينادينه بمودة »سيد هنري« لم يكن يشعرن بوجوده، وهنا أيضاً لا يحدث شئ فالنساء يجلسن وينظرن في الفراغ.
وإذا كانت فتيات الهوي يسحرن الرسامين بسلبيتهن الكئيبة، فإن حضورهن الدائم في الحياة الباريسية كان يشكل مصدر قلق للجهات الحكومية، فشرطة الآداب التي طالما تعرضت لانتقادات لاذعة كانت دائمة محاصرة بأسئلة عن طرق مراقبة والتحكم في الدعارة، وكان مفتش الشرطة ليكور قد أصدر دراسة مثيرة للقلق عام 1874 بعنوان »عن الحالة الراهنة للدعارة الباريسية«.
»في الحالة الراهنة للأفكار والأشياء نحن لم نعد قادرين علي السيطرة علي الدعارة في الأماكن المخصصة لممارسة الانحلال في الأحياء الضائعة«، هكذا كتب مفتش الشرطة بحزن وأسي مقترحاً مهاجمة أماكن الدعارة السرية في المقاهي والكباريهات مع إصدار بيان تحذيري قبل ذلك لأصحاب تلك الأماكن، ولكنه يخلص في النهاية إلي أن الأسباب الجذرية للدعارة ليس لها علاقة بقمع الشرطة.
ويكشف الرجل عن ان الدعارة بمثابة مرض اجتماعي عميق، سببه تراجع الوازع الديني، والإحساس الزائد بالرفاهية، وغياب السلطة الأبوية، والتساهل المفرط من قبل النساء مع من يغازلونهن.
أفول الثقافة الأوروبية
في أعقاب هزيمة 1870أصبحت الدعارة رمزاً لمجتمع معيب ساهمت في انحداره، وذلك هو الدور الذي منحه زولا ل»نانا« في روايته، فهي فتاة متمردة بامتياز، وبقوة فرجها استطاعت أن تجعل البروليتاريا الحضرية، حيث تعود أصولها، علي اتصال بكل طبقات المجتمع الباريسي: الصحافة والطبقة الأروستقراطية ووجهاء الدولة، حيث تكشف عن ضعفهم جميعاً، ويقول عنها زولا: »عملها هو الخراب والموت وتم إنجازه بالفعل، فالذبابة الطائرة (يقصد نانا) القادمة من زبالات الضواحي أتت حاملة العفن الاجتماعي، وسممت الرجال ولم يعد بمقدورنا أن نطلب منهم شيئاً«.
في نهاية ذلك القرن، لعبت الدعارة دوراً هاماً في ضبابية نظريات »الانحطاط« التي تقترح تعريفاً جديداً للمعايير الجنسية والاجتماعية، فتلك الأنماط الجديدة من التفكير قريبة جداً من الطبيعانية الفرنسية فأثرتها وغذتها بالكثير من الأفكار.
في عام 1857، كان للدكتور موريل مؤلف »معاهدة الانحطاط الجسدي والفكري والأخلاقي للجنس البشري«، للإيطالي سيزار لومبروزو، أب الأنثروبولجيا الجنائية، التأثير الحاسم علي زولا، فمن خلالهما تمكن من فهم كيفية انتقال العيوب الجسدية والأخلاقية من جيل لجيل، بشكل يؤدي للعقم والجنون.
غير أن لومبروزو نفسه كان يستشهد بشخصيات زولا كدليل علي صحة نظرياته، فحينما يشرح كيف أن العاهرات والمجرمات يتميزن بالقوة الجسدية مقارنةً بمتوسط قوة النساء، فإنه يذكر بونهور كمثال تلك العاهرة التي كانت ترتدي ملابس الرجال وقتلت عدداً منهم بمطرقة، وكذلك »فيراجو« تلك المرأة سليطة اللسان في رواية زولا »الوحش الآدمي«، والتي أخرجت قطاراً عن القضبان لتنتقم من حبيبها.
النمساوي أوتو فينجر هو أيضاً استخلص من روايات »زولا«، عدة نماذج لدعم أطروحاته في كتابه الشهير »جنس وحرف« الذي ظهر في فيينا عام 1903.
الطبيب النفسي ماكس نوردو، تلميذ سيزار لومبروزو، ومؤلف العمل الضخم »الانحطاط«، هو أيضاً لا يتوقف عن تتبع أعمال زولا، ولكن علي العكس من أستاذه ليظهر إلي أي مدي أن الإدعاءات الطبيعانية العلمية بلا أي أساس تستند عليه، إذ أن نوردو يري في زولا رومانسياً غاضباً مصاباً بمرض الجرافومانيا (مرض يدفع صاحبه للكتابة باستمرار)، وسيكوباتياً جنسياً مصاباً بهاجس المجانين والعاهرات والمجرمين.. »نانا« هي نفسها زولا، فهو يثري نفسه بدس قاذوراته في المجتمع، إنه يدور في دائرة مغلقة وهو أكثر انحطاطاً من الشخصيات المنحطة التي يبتكرها في أعماله، ويري نوردو أن روايات زولا تطمس الحدود بين الحقيقة والخيال، بادعائه ابتكار أشياء وهمية تحت مسمي عمل بحثي في وثائق، وطبقاً لانتقادات نوردو فإن زولا هو العرض والمسبب لمرض اجتماعي عميق، وبتركيزه علي الانحراف الجتماعي أصبح زولا متهماً بابتكار أدب الجريمة.
التعرف علي شخصية الكاتب من خلال شخصياته في أعماله ليس شيئاً مبتكراً، فبعد 10سنوات من نشر »نانا« ظهر مقال نقدي في مجلة »ميركور دو فرانس«، ليؤكد أن »نانا« هي نفسها زولا، هي رمز حياته العامة، وعلي مدي 10سنوات أرسل لتلك المومس خطابات عُلقت منها نسخ علي جدران غفته وكُتب منها مقاطع في مقدمات رواياته«.
ويعتقد نوردو أن التعرف علي الكاتب بهذا الشكل يكشف المرض العقلي لديه (لدي الكاتب) ويوضح أيضاً أفول الثقافة الأوروبية، علماً بأن نوردو وجد في أويوسمانس هدفاً آخر نموذجياً، إذ لا يفرق بينه وبين البطل الرئيس في روايته »العد التنازلي«، ذلك البطل هو جان ديزسانت شخص عصبي مصاب بالتشنجات وغارق في الضلال، ويطلق ماكس نوردو علي روائيين مثل زولا وأويوسمانس: »حفنة من المخصيين عقلياً غير القادرين علي إنجاب عمل حي ولكنهم يقلدون عملية الإنجاب نفسها«، ويضيف نوردو أن مثل هؤلاء يطفئون أنفسهم بأنفسهم لأن الانحطاط لا يمكن أن يكون له نسل ممتد.
فأي كان الشكل الذي تتخذه في الفكر الأوروبي في أواخر القرن التاسع عشر، فإن أفكار الانحطاط مرتبطة غريزياً بهاجس العقم، ولهذا السبب فإن العازب والعاهرة متهمان دوماً بتراجع فرنسا علي المستوي الديموجرافي، فالأمر هنا لا يتعلق ببقاء شخص واحد ولكن ببقاء الأمة بأكملها، فالعزوبية كانت سبباً في مخاوف ديموجرافية ضخمة بسبب انتشار فكرة رفض الزواج في الفترة من 1875وحتي 1900، مما أدي لانخفاض نسبة المواليد، علماً بأن العزوبية النهائية (التي تجاوز صاحبها الخمسين من العمر) لم تكن موجودة سوي بين أقلية من الشعب الفرنسي بنسبة تُقدر ب10٪ عند الرجال، و12٪ عند النساء، ولكن كانت هناك مخاوف من ارتفاع تلك النسبة، لا سيما بعد الهزيمة العسكرية المذلة لفرنسا أمام ألمانيا عام 1870، وكان دائماً يُشار بأصابع الاتهام للعزاب الذين يرفضون الانجاب علي أنهم السبب في أن البلاد لا تملك ما يكفي من شباب للأخذ بالثأر من ألمانيا.
فيبنما الشعب الألماني كان ينمو ديموجرافياً بسرعة كبيرة في النصف الثاني من القرن العشرين، كان الشعب الفرنسي يعطي إحساساً بالركود، فكان رفض الانجاب بمثابة الخيانة، وقبل ثلاث سنوات من اندلاع الحرب العالمية الأولي، وقف جاك برتيون مدير مكتب التعداد والإحصاء بباريس، علي الملأ ليعنف مواطنيه قائلاً: »كل رجل يقع عليه واجب المساهمة في استمرارية بلده كما يقع عليه واجب الدفاع عنها«.
الدعارة التي، يُعتقد أنها تصرف الرجال عن الانجاب، كان يبدو أنها تزيد الخطر، فالنظام الانضباطي الذي يُسمح فيه بممارسة الدعارة ولا توجد عليها مراقبة إلا لأسباب صحية، ينتهي إلي الفشل الكامل، وبعيداً عن أنها باتت شيئاً يحتويه المجتمع، فقد تضاعفت الدعارة علي مدار القرن التاسع عشر، متخذة أشكالا أكثر ذكاءً ومهارة ومن الصعب جداً تمييزها، ففي عام 1888، كتب الدكتور شارل فيريه صاحب أطروحة »الانحطاط والجريمة«، قائلاً: »في الحالة الراهنة من حضارتنا تحدث العلاقات الجنسية بطريقة تختفي معها الحدود الفاصلة مع الدعارة«، فالحكومة عاجزة عن القضاء علي الدعارة أو حتي مجرد السيطرة علي الدعارة السرية، إذ أن فتيات البارات تجذبن الزبائن بشكل متزايد، وحينما مُنع تقديم البيرة للنساء في عام 1888، أصحبت فتيات المقاهي والكباريهات والمغنيات يتناوبن علي بيوت خاصة حولها أصحابها بشكل غير مباشر لبيوت دارة لاستقبال البرجوازيين الراغبين في المتعة واللهو.
العاهرات السريات ضاعفن من حيلهن من أجل جذب الزبائن، فبعضهن تنكر في هيئة مسافرات وكن شبه مقيمات في محطة قطار »سان لازار«، من أجل اصطياد الرجال القادمين من الضواحي والمدن الأخري، فيما أخريات كن يصطدن الرجال من عند القبور، حيث كن يرتدين ملابس الحداد السوداء ويتظاهرن بالحزن لإثارة الشفقة، فيما أخريات يصطدن زبائنهن من خلال أصحاب مهن يتعاملن مع النساء أكثر من غيرهن، كصانع قبعات حريمي، وصاحب محل أزهار، وجواهرجي.
تلك الحيل التي لا تُعد ولا تُحصي طمست كذلك الحدود بين النساء المحترمات وفتيات الهوي.
إبان عهد بارون دو شاتيليه، كانت الدعارة في شوارع باريس شراً لابد منه، »إنهن في كل مكان«، كما يقول مفتش الشرطة ليكور: »في البارات والمسارح والملاهي الليلية والمقاهي.. نقابلهن في كل مكان: في المؤسسات العامة وفي محطات السكك الحديدية.. في كل أماكن التنزه وأمام المحلات والمقاهي، وحتي ساعات متأخرة من الليل نراهن يتجولن في أكبر شوارع العاصمة بشكل فاضح أمام الجميع«.
هوس الزهري
العزوبية والدعارة في باريس لم يكونا مجرد شر (أخلاقي وسياسي وميتافيزيقي)، بل كان العزاب والعاهرات أكبر حاملين لمرض الزهري، وكانوا ينقلون كل المخاوف الصحية في المجتمع الفرنسي بالقرن التاسع عشر، وكان مرض الزهري في ذلك الوقت مرعباً لأنه كان من السهل الإصابة به بينما كان من الصعب بل من المستحيل الشفاء منه، وكانت ليلة واحدة تكفي لنقل العدوي، وكانوا يستخدمون الزئبق في العلاج دون العلم بأضراره الجانبية علي الصحة، وكذلك أوديد البوتاسيوم، وأحياناً نبات الفشتاغ كما توضح مراسلات فلوبير.
في أواخر القرن، فهم الأطباء تطور المرض علي ثلاث مراحل، ففي المرحلة الثالثة يهاجم الزهري العصبي المخ ويسبب اضطرابات مستعصية، فمن المعروف أن موباسون أنهي حياته متأثراً بهلاوس وأوهام في عيادة الدكتور بلانش في باريس، وبدءا من العام 1888، كان الخطاب الطبي عاملاً مساعداً في نشر نظرية شعبية مفادها أن الزهري وراثي، وهو ما يعني أن المرض ممكن أن ينتقل لفترة طويلة حتي بعد الشفاء منه، وعززت تلك النظرية فكرة الاضطراب العقلي (الذهان) عند مريض الزهري، وكان الاعتقاد السائد في ذلك الوقت هو أنه لا حاجة لأن يكون الشخص نفسه مصاباً بالعدوي لكي ينقلها.
وكلما خاف البرجوازيون من مرض الزهري عظّم الكتاب من شأنه، ففي خطاب إلي صديقه روبير بينشون كتب موباسون متفاخراً متجاهلاً النهاية البشعة التي تنظره: »نعم أنا مصاب بالزهري وليس السيلان.. لا أملك الكريستال الإكليريكي ولاعرف ديك كمثل الذي يملكه هؤلاء البرجوازيون المأفنون، ولا أملك حتي القرنبيط.. لا، لا، إنني مصاب بالزهري العظيم ذلك الذي مات به فرانسوا الأول، إنني لفخور بذلك رغم أنها مصيبة ولكني أحتقر قبل كل شئ هؤلاء البرجوازيين«.
الزهري هو شكل من أشكال التطعيم (الراديكالي) ضد أي التزام جاد يمكن أن يؤدي بصاحبه إلي الزواج، فالعزوبية تضع الكتاب في وضع مريح يجعلهم مكرسين أنفسهم لعبادة الفن، وبذلك فإن المرض يتخذ شكلاً من أشكال الزواج الأحادي، فالكتاب العزاب، وبإحساس نابع من الفضيحة، يتبنون موقف الشخص المنبوذ الذي يمنحهم إياه الأدب والمرض، ففي خطاب موجه لصديقه إيرنست فايدو يقارن فلوبير اهتمامه بالأدب ب»قرحة لا شفاء منها«، ويضيف: »نعم الأدب يزيد ضيقي ومرارتي لأعلي درجة.. لقد أصبح الأدب بالنسبة لي بمثابة الزهري المستمر، إنني مسلوب العقل أمام الفن والجماليات، من المستحيل أن يمر يوم دون أن أحك ذلك الجرح الغائر الذي ينخر في جسدي«.
غير أن مثل تلك الجرأة في التعبير عن الرأي يقابلها إدانة غير قابلة للاستئناف من قبل المجتمع البرجوازي، ففي عام 1887 ألف الدكتور بيير جارنييه كتاباً بعنوان »عزوبية وعزاب .. خصائص ومخاطر صحية«، جارنييه نصب نفسه متخصصاً أو حامياً ل»صحة الجيل«، وظاهرياً كان هدفه إسداء نصائح صحية مجانية للجمهور، ولكن الواقع أن »عزوبية وعزاب« كان غطاءً علمياً لكُتيب مجهز خصيصاً لتوجيه نقد لاذع للعزوبية، وهو ما يعكس ثقل المسألة في تفكير ذلك العصر، إذ أصر جارنييه في كتابه علي توضيح المخاطر التي تهدد الصحة العامة بتلك العلاقات بين العاهرات والعزاب.
في رأيه »كل عاهرة مصيرها إلي الزهري لا محالة فهي مصابة به أو سيصيبها لا محالة«، وكان ذلك الرأي ذائعاً بشدة في القرن التاسع عشر، »كلهن بغايا وشاذات.. وكلهن أصابهن المرض«، هكذا كتب الأخوان جونكور، في إحدي مذكراتهم، فيما صاح الدكتور جارنييه في أحد الصالونات الثقافية بنبرة شاعرية قائلاً:» إن الدعارة ذلك المصدر النجس المسموم هي التي تتدفق منها كل الشرور، وإليه يذهب معظم الشباب لإطفاء نار شهوتهم الربيعية المتأججة«.
وإذا أصيب أحد العزاب من عاهرة، ثم تزوج فإنه يجازف بنقل المرض لزوجته وأطفاله، ومن وجهة نظر المؤمنين بنظرية الزهري الوراثي، فإن الأب هو الذي ينقل الشر، فالعدوي تنتقل إليه من نساء شعبيات »وتتحول عنده إلي جرثومة موت تصيب كل ذريته رغم نقاء الأم«، وإذا كانت البغايا المصابات بالمرض لا يحظين بأي تعاطف، فإنه ليس من المقبول أن يكون الزهري سبباً في أن يكون عالم الدعارة علي اتصال بعالم الأسرة البرجوازية، محققاً بذلك خوفاً أبداه القديس أوجستين، فالرجل الذي يصيب زوجته وذريته بالعدوي يخلق بذلك علاقة لا تُطاق بين فتيات الشوارع ونسله النقي، فالزهري الذي تحمله فتاة الهوي يهدد بنشر عفنها في كل مكان، لدرجة تدفع المجتمع للاعتقاد أنه بالكامل مهدد بال»الزهرنه«، وهو ما أوضحه »جان ديزاسانت« (»جان ديزاسانت« الشخصية الرئيسية في رواية »عد تنازلي« ل»أويوسمانس«)، حيث لخص هذا الهاجس الوحشي بقوله مفسراً حالة الرعب المسيطرة عليه دوماً »الأمر ليس إلا الزهري«.
لقد أصبحت العاهرة إذاً سامة ومجرمة وقاتلة أطفال، ومسئولة عن تدمير مستقبلهم، بل مستقبل أمة بأكملها، ومن وجهة نظر الأطباء النفسيين فإن العاهرة القاتلة المجرمة كمثل المجنونة بالضبط لا فارق بينهما.
في عام 1888، الدكتور فيريه الذي شرح ارتكاب الجريمة بفعل الجنون، أشار في »انحطاط وجريمة«، أن »ثمة قاسماً مشتركاً بين العاهرات والمجرمين إذ أنهم قرروا ألا يكونوا أشخاصاً منتجين وبالتالي هم ضد المجتمع«، فالدعارة بالنسبة له تشكل نوعاً من الجريمة ولكنها بلا عنف، ولكن آثارها مدمرة. ويخلص فيريه إلي أن »العجزة والمجانين والمجرمين والمنحلين من كل الفئات، يجب اعتبارهم جميعاً نفايات فشلت في التكيف مع الحضارة، إنهم لا يستحقون الغضب ولا يستحقون الكراهية، ولكن علي المجتمع، إذا أراد ألا يشهد انحطاطه بنفسه، عليه أن يحصن نفسه منهم جميعاً دون تفرقة، وأن يضعهم في وضع لا يستطيعون معه الإيذاء«.
ويري الدكتور جارنييه أنه لا يوجد سوي وسيلة واحدة للحماية من ويلات الدعارة: تقديم سن الزواج، »لكي نكون بمنأي عن جنون وفوضوية الشباب الذي طالت به فترة العزوبية، ولا يوجد تدابير صحية أخري للتغلب علي الحوافز الجنسية المبكرة، فالشهية الجنسية عنيفة جداً عند الفتيان في بداية مرحلة الشباب ويتم استفزازها وإلهابها بالدعارة«.
رباط الزواج ليس فقط إجراء وقائياً، ولكنه تميمة ضد الموت والمرض، ومن الضروري وضع حد للتأخير الضار الذي يفصل بين حياة الفتي وحياة الرجل.
بالزواج وباختيار مهنة وبإنجاب أطفال فإننا بذلك ندرك ونملأ وقت العزوبية الميت، ولكن هذا العلاج لا ينطبق إلا علي الرجال، فالدكتور جارنييه يعارض بشدة زواج العاهرات، إذ يري أن الغرغارينا تمكنت منهن بشكل لا يعطي لهن الحق في الزواج والاستقرار والانجاب، ورغم اشمئزازه فإن الدكتور جارنييه لا يري في الدعارة أصلاً للشر، فالمسألة ليست في إخضاع الرجال لنفس الرقابة الطبية الدورية التي تخضع لها الفتيات المسجلات رسمياً في كشوف الدعارة، ولكن المسألة هي ذلك العازب الواقع في قلب خوف كبير يعتمل في نفس الدكتور جارنييه، وإذا كانت العاهرة تقدم وسيلة سهلة لتقديم سن الزواج وعدم إنجاب أطفال، فإن العازب يعمل علي إيجاد الفسق من خلال الدعارة والفجور، الذي يمارسه ونتائجه المباشرة: الزهري، والزنا، والإجهاض وقتل الأطفال، وهي أمور ليست كبيرة بالنظر إلي تأثيرها الأكبر والمتمثل في قلة التعداد السكاني الذي تعاني منه فرنسا حالياً.
المتحولون
أحد الأسباب الجوهرية التي بسببها يثير العزاب والعاهرات جدلاً مثيراً ويجعل الآخرين يرفضونها رفضاً قاطعاً، هو تناقضهم الجنسي، إنه ذلك الهاجس المزدوج بتأنيث الرجال و»ترجيل« النساء في القرن التاسع عشر، فيما أشاعت الرومانسية في ذوق ذلك العصر صورة لشباب في غاية الجمال بشعر طويل وميول جنسية غامضة.
زوجان لا يمكن نسيانهما مكونان من الرجل.. »الرقيق» ألفريد دي موسيه، والمرأة ذات الميول الذكورية جورج ساند نصيرة ارتداء المرأة للسروال وحقها في التدخين، هما الشاهد الأبرز علي ذلك التبدل في الأدوار.
لوسيان دو روبمبريه العازب المتغندر الذي تخيله بلزاك يملك رقة وجمالاً تتناسبان مع النساء، فيما كان الأولي بهما ابنة عمه »بيت« التي خصها بلزاك بملامح وصفات الرجال، ولكن حينما تمر مرحلة الشاب فإن ذلك الخلط في الجنس ينمو بشكل هزلي، فيما الاعتقاد الشعبي يريد أن الرجال والنساء العزاب يؤولون في نهاية المطاف إلي التشابه مع ما يناسبهما في العمر.
في الخيال الشعبي، تمتلك الفتيات العوانس شارباً وصدراً مسطحاً، فيما الفتيان مصابون بوسواس داخلي وهواجس نرجسية تصبغ عليهم صفات نسوية.
بعد وفاة أخيه جول، قام إدموند دو جونكور الملقب آنذاك ب»الأرملة«، بتأليف كتاب من جزءين ليشرح بالتفصيل الممل ديكورات منزله في »أوتيل«، وفي مراسلاته مع العزاب الأخرين، كان فلوبير علي سبيل المثال، يختتم رسالته إليه بكلمات حب والرغبة في احتضانه بدفء، وكان فلوبير يطلق عليهما »كلبيه الصغيرين« من باب الدلال، وفي عام 1868 كتب إليهما طالباً ما يشبه كشف الحساب عن فترة انقطاعهما عن الكتابة له، وكان يتكتب عن نفسه بصيغة الأنثي قائلاً »هل متما؟ نسيتما فتاتكما العانس؟«.
الأطباء والأخصاء النفسيون، يرون أن الجانب النسوي عند العازب ليس قابلاً للمزاح والنكات، فالعازب دائماً مشكوك فيه بأن لديه ميولاً ضد الطبيعة، فأسوأ الانحرافات المتأصلة عند العازب بحسب الدكتور جارنييه، هو »البرود الجنسي« وهو هنا بمعني »حب وهمي انحرافي لأقرانه من نفس جنسه«، ويعتبر لومبروزو الارتداد الوراثي للكائنات المنحطة بمثابة تراجع نحو خنوثة بدائية »الانحطاط يميل رويداً رويداً إلي تقريب الجنسين وخلطهما ببعض، من خلال ميل للارتداد الوراثي نحو مرحلة الخنوثة، وينتج عن ذلك عند المجرمين الذكور العودة إلي مرحلة الطفولة أو التحول إلي الأنوثة وكلاهما يقود إلي اللواط، وبالنسبة للفتيات فإنهن يتحولن إلي كائنات ذكورية«.
ماكس نورداو كان طبيباً وفيزيائياً وكاتباً وناقداً اجتماعياً، وكان من أبرز زعماء الصهيونية. أيضاً خص الرجل المنحط بصفات ضعف اعتبرها أنثوية، مثل الانفعالية المفرطة ورخاوة بدنية واضحة والهيستريا. الشخصية الخيالية التي اتخذها هدفاً لانتقاداته تتوافق كل التوافق مع أوصاف جان ديزاسانت، فذلك الرجل »العصبي المصاب بالأنيميا« ينحدر من سلالة رياضية عسكرية عابسة، ولقد وصفه أويوسمانس بقوله.. إنه المنتج الوحيد »لتخنيث الذكور« من عائلته القديمة، والمنزل الذي كان يقيم فيه مؤثث بقطع قيمة وستائر غالية وأزهار نادرة، ولم يكن ديزاسانت ينجذب إلا للنساء شديدات الشبه بالرجال، كتلك الرياضية الأكروباتية قوية البنية »ميس أورانيا« التي كانت تعمل في سيرك، والتي اعتقد أنه وجد فيها »سحر الرشاقة وقوة رجل«، فتلك الفتاة البهيمية البشعة الحقيرة ذات الجسد النحاسي هي الشئ الوحيد الذي يناسب »مخلوقاً ضعيفاً منبطحاً لاهثاً« إنها »فتاة شاحبة اللون مثله تماماً«.
وإذا كان العزاب »المنحطون« يميلون إلي التحول جسدياً ونفسياً إلي نساء، فإن الاعتقاد السائد أيضاً هو أن المجتمع لم يكن يفصل ما بين الأدوار بشكل كاف، فطبقاً لمخيلة القرن التاسع، كان خرق القواعد الجنسية يغذي الحلقة المفرغة للعزوبية والدعارة، فالنساء ينخرطن في الدعارة حينما يغتصب الرجال وظائف مخصصة تقليدياً للنساء، إذ أن نسبة كبيرة من العزاب عملت كموظفين في محلات الملابس وخدم بالمنازل والكافيهات، حارمين بذلك النساء من وظائف شرعية، وكتب بارون دو شاتيليه ضد هذا الوضع ساخطاً »أليس من المخجل أن نري آلاف الشباب في مقتبل العمر يعملون في محلات ومقاهي باريس؟ حياة رخوة ومخنثة ولا تناسب إلا النساء«.
الفيلسوف الطوباوي شارل فورييه، الذي لا يجمعه قاسم مشترك مع دوشاتيليه، عبر أيضاً عن اشمئزازه لرؤية »رياضيين في الثلاثينات من العمر يجلسون القرفصاء أمام المكاتب وينقلون البضائع بسواعد قوية كثيفة الشعر، ويمسكون بأقداح القهوة ويبدو كما لو أنهم يفتقدون للزوجة والأطفال لكي ينشغلوا بتلك الوظائف التافهة«، وعلي العكس منه نسب دو شاتيليه إلي العاهرات عيوباً شائعة في عالم المجرمين الذكور، مثل تعاطي الكحوليات وسرعة النزق والعنف، وطبقاً لملاحظاته، فإن »العاهرات وبينما هن فريسة للحظات الغضب العام يبدين طاقة جسدية وروحية لا تخطئها العين، وفي تلك الحالة فإنهن تتعاركن بالأيدي العارية وتتقاتلن حتي الموت وتصيب كل منهن الأخري بجروح خطيرة«.
بزينتها وملابسها المستفزة، تمثل العاهرة في نهاية المطاف الأنوثة ولا شئ غير ذلك، ولكن تلك الأنوثة بلغت درجة من اللا معقول حتي أنها تستخدمها لإخفاء حقيقة مختلفة تماماً، فها هي امرأة تمتلك خصائص الرجل وترتدي زي امرأة، ولأن كل الموازين انقلبت رأساً علي عقب، فنري رجلا يأخذ مكاناً هو في الأصل للنساء وامرأة تأخذ مكاناً تركه الرجال بمحض إرادتهم.
حينما نقارنها بامرأة متزوجة قانوناً وخاضعة لزوجها أو لسلطة الأم، التي لا يمنحها القانون المدني سوي سلطة محدودة علي أطفالها، فإن العاهرة تمتلك سلطة تتجاوز السلطة الذكورية، فتعدد العلاقات الجنسية هي من صميم الصلاحيات الذكورية، والإمكانية التي تمتلكها الأكثر غني من بين العاهرات في اختيار حبيبها (أو حبيبتها) وفي أن تعيش حياتها علي النحو الذي تريده، وقدرتها علي ممارسة الجنس بهدف الامتاع وليس الانجاب، يجعل منها »امرأة بصفات رجل« تنافس الرجل في ملعبه الخاص.
في »غادة الكاميليا« تقول »مارجريت« ل»أرمون دوفال« إنها تبحث عن »شاب مُحب بلا إرادة، وأن يُحب بلا ضعف وأن يكون محبوباً«، وحتي »أرمون« عند نقطة معينة يطيع طاعة عمياء.
وبذلك فإن »مارجريت« عكست قانون العلاقات ما بين عاهرة خاضعة وزبونها الذي يتمتع بالقوة، وفي عام 1841 نشرت مجلة Le Charivari النقدية، رسماً حجرياً، مأخوذا من سلسلة رسومات »البغايا« لجافارني، يُظهر امرأة متمددة علي فراش مغمضة العينين، وتدخن سيجارها بهدوء ونهم واستمتاع، بينما لا تعير أدني اهتمام لحبيبها الواقف إلي جوارها، والذي يقول لها »أيتها الملاك الجميل، سجائرك أصدقاء أوفياء ولكنهم في غاية القسوة«، ويبدو المجاز هنا في غاية الوضوح: فالمرأة هي من تملك السيجار في إشارة رمزية جلية للتملك الذكوري، إنها هي من تقود اللعبة، إنها هي التي تتميز بالقسوة،إنها مثل »أوليمبيا« شخصية مانيه، متمددة علي هذا النحو لتعبر عن رفضها لكل شئ.
»نانا« (شخصية زولا) تمثل أيضاً النمط ذاته من العاهرات ذات الصفات الرجولية، إنها لبؤة أمازونية محاربة تحتقر الرجال، ولها فتاة المتعة الخاصة بها، إنها شيطان رجيم، هنا فإن العاهرة نفسها تلعب دور الزبون العازب الذي يدفع للنساء، دور يكشف عما كانت عليه طوال حياتها، علماً بأن شرطة الآداب كانت تقوم بتوقيف عاهرات متمردات بسبب سلوكياتهم الذكورية، فأحد الضباط يذكر علي سبيل المثال سوزان لاجييه ممثلة ومغنية شهيرة ضاجعت فلوبير والأخوان جونكور، ويقول عنها »بذكائها الشديد استطاعت أن تنشيء أعمالها التجارية الخاصة بها، إنها داهية خدعت الكثير من المغفلين«.
تلك الممثلة التي كانت تدفع الأموال لفتيات الهوي كي تمارس معهن السحاق، لم تكن تجعل من ميولها الجنسية المزدوجة سراً، فحينما سألها الأخوان جونكور عن ذلك أجابت »إن في السحاق حرية تتشابه لحد ما مع تلك الحرية التي ينعم بها الرجال فيما بينهم، كحرية الضراط علي سبيل المثال«.
العاهرات والعزاب أطاحوا بقوانين كان القرن التاسع عشر يعتبرها طبيعية، فهم لم يكشفوا فقط »الازدواجية الجنسية المتأصلة في كل الكائنات الحية«، والكلام هنا علي مسئولية أتو فينجر، ولكنهم يجسدون أيضاً إمكانية العار غير المقبولة، بأن يتحول الرجال إلي نساء والنساء إلي رجال، وإذا العاهرات والعزاب يمكنهم هكذا اقتراح عكس الأدوار الجنسية، فإن ذلك ليس لأنهم بلا شك كائنات محدودة ولكن لأنهم مخلوقات ناقصة يعيشون نمط حياة متوسط وبلا أصول واضحة ومستقبلهم زائل لا محالة، وفي نهاية ذلك القرن (القرن التاسع عشر) كان يتمركزون عند نقطة حيث الحالة الأكثر تقدماً بالحضارة لحقت بحالتهم البدائية.
ما بين عامي 1830و1840، ظهرت موسوعات أخلاقية مثل »الفرنسيون يرسمون أنفسهم« وهي دراسات نفسية صغيرة الحجم، أو في هيئة قصص قصيرة مثل »مشاهد من حياة بوهيمي« لHenry Murger التي تقدم نماذج لأنماط شخصيات الحياة الباريسية، والنساء المنحلات يحتللن فيها مكاناً بارزاً، ومن جانبهم قدم شعراء مبتدأن ونحاتون وطلبة وأمراء البوهيمية ومتنغجون، وجهاً جديداً للعازب، مثل جافارني، وجراند فيل، ومونيه، وآخرين.. فنانو كاريكاتور يرصدون أدق تفاصيل الملابس والملامح والنظرات والهيئة العامة التي تلخص سمات شخصية ما.
الدراسات المعنية بالعاهرات والعزاب في القرن التاسع عشر تمركزت إذاً في تقاطع الأدب مع التاريخ، مع الأساطير، وهو ما يمكن أن يكون واقع حياة هؤلاء الرجال والنساء، ولا يمكننا إلا أن نتخيل بصعوبة انطلاقاً من هذه العناصر.
رغم انتشار الأعمال المخصصة للدعارة في القرن التاسع عشر، فإن الشهادات المباشرة نادرة، فأصوات العاهرات دُفنت تحت وفرة الأعمال الأدبية التي خصصت لهن، والعزوبية تحكي بطريقة أكثر ذاتية وأكثر حميمية، ولكن حتي كبار الكتاب العزاب مثل بودلير والأخوين جونكور وأويوسمانس، ذهبوا بكامل وعيهم للحديث عن شطحات وأشياء ينبذها الجميع، طبقاً لشهادات معاصريهم، والحقيقة الوحيدة التي لا يمكن دحضها هي الطريقة التي تم بها تخيل حياة العاهرات والعزاب، وطريقة الحديث عنهم في خطب وطريقة تصويرهم.
مهما كانت واقعية التمثيل لا يمكننا أن ننسي أنها خيالات مملاة بفانتازيا وأحكام مسبقة خاصة بذلك العصر، فالعزوبية والدعارة تلامسان من قريب جداً عالم الجسد والجنس، لكي لا يُلهم ذلك بردود أفعال متطرفة من السحر والرفض.
تلك الحياة التي تجعل من الجنس قضية عامة، وتنزع الغطاء عن السر، فالعاهرة تعرض الجنس حرفياً علي الطريق العام، والحياة الخاصة للعازب، لاسيما إن كانت سرية، تثير تساؤلات بلا نهاية، وميوله الجنسية تصبح أمراً مشكوكاً فيه، ومن الطبيعي أن يُشتبه في أنه يخفي عاهة مشينة أو انحرافا بغيضا، وحياة العزلة التي اختارها تكون مناسبة لكل أنواع الوهم، وبفضل السحر الممارس بواسطة وحدة عامة ارتبط العازب والعاهرة ارتباطاً وثيقاً بالحداثة.
ما ينظر إليه من جانب علي أنه لعنة، هو أيضاً شرط لا غني عنه لنشوء فكرة متفردة تحدث قطيعة مع العادات والتقاليد. الأنماط التي كانت منتشرة عن طريق موسوعات الأخلاق، والتي كانت منبثقة عن ثورة جمالية حقيقية، أعادت إلي الفنان صورة جديدة تماماً بالنسبة لوضعه، ففي ذلك العصر، كان لفظ »فنان« مقصوراً فقط علي من يشتغلون بالرسم والنحت والنقش، ثم بدأ نطاق استخدامه يتسع ليشمل كل من ينتج فناً بما في ذلك منتجو الأدب.
في القرون الوسطي وفي عصر النهضة، كان الفنان حرفياً وعاملاً ماهراً، وبحسب بروست، فإن »الفنان مواطن من وطن غير معلوم فهو نفسه نسي نفسه«، وباختلافات بسيطة يمكن أن يكون موسيقياً مثل فانتوي، أو نحاتاً مثل إلستير (من شخصيات رواية »بحثاً عن الزمن المفقود« لمارسيل بروست) أو كاتبا.
مع الرومانسية، لم يعد تعريف الفنان يتم من خلال طبيعة وممارسة العمل الذي يقدمه، ولكن أيضاً من خلال نمط حياته عموماً الذي يتعارض مع الوجود البرجوازي، فالعمل الفني لم يعد ينفصل عن الأخلاق، والعادات والسمات، بل وحتي المظهر الجسدي.
دون شك، بسبب العمل الأوبرالي »البوهيمية« لبوتشيني والذي تحول إلي قصة علي يد »هنري مورجيه«، فإن حياة البوهيمي تُختصر غالباً في الفقر، ويستثني من ذلك المتغنجين المتأنقين من الأغنياء، ومع ذلك فإن المعيار الجوهري لهذا الوجود ليس المال وإنما العزوبية، فالفنان البوهيمي يطالب باستقلاله تجاه الزواج تلك المؤسسة البرجوازية بامتياز التي ترجح المصلحة وليس الميل وما يفرضه الهوي.
في الموسوعة الأخلاقية »الفرنسيون يرسمون أنفسهم«، التي نُشرت ما بين عامي 1839 و1842، يُعرف الشاعر علي أنه العازب: حيث إن المزاج المستقل للشاعر ينحني بصعوبة لينير الحياة الزوجية، فهو بحاجة لحرية الروح وحرية الحركة وهو ما يتعارض مع المشاحنات الزوجية.. كما أن الإزعاج الذي يسببه الأطفال يكفي لجعل المنزل لا يُطاق بالنسبة للشاعر، ذلك لأنه يُكن الكراهية لكل ما يعكر صفو تأملاته.
الإبداع الشعري هو مسألة إلهام مفاجئ، فالشاعر يجب أن تكون لديه الإمكانية علي الذهاب للغابة ولو في الثانية صباحاً، لكي يكتب أبياته علي ضوء القمر لو تطلب مزاجه ذلك، دون أن تمنعه زوجة متمردة أو صراخ أطفال.
استقلالية الفنان تجاه المجتمع البرجوازي تتضح كذلك بوضعه غريب الأطوار، وهو ما يشكل مصدر سعادة لرسامي الكاريكاتور.
الشاعر الرومانسي صاحب اللحية والشعر الطويل، يرتدي بكامل إرادته ملابس لامعة مستوحاة من رسم عصر النهضة والروايات القوطية، أو زياً عسكرياً أجنبياً، وكما يذكرنا تيوفيل جوتييه في »مذكراتي الرومانسية«: »كل فرد كان يحاول أن يميز نفسه بملابس خاصة: قبعة ذات شعر ناعم علي طريقة روبنز، أو معطف مخملي علي الكتف، أو صديري ضيق علي غرار فان ديك، أو معطف مضفر علي الطريقة المجرية، أو ملابس غريبة الشكل والألوان«.
رمز هذا الجيل هو السترة الحمراء الشهيرة التي كان جوتييه نفسه يرتديها، في أول ظهور علي المسرح مقدماً مسرحية »إيرناني«.
هذه السترة مفصلة علي النحو التالي: علي نفس طول دروع كان يرتديها مقاتلو ميلان في إيطاليا، ومعها قبعة كان يرتديها جنود الملك فيليب الثالث في القرن الرابع عشر، بدلا من الأحمر الصريح تحول لونها للأحمر الأورجواياني لتجنب عار أن يكون اللون الأحمر ترويجاً لشخصيات بعينها مثل »ماكسميليان روبسبيير« كان عليه ألا يعيد ما حدث عام 1793 من إعدامات ثورية دموية قام بها روبسبيير، وذلك بالبعد عما كان يجتاح القرن من أحداث واستخلاص الدروس من خلال الإغراق في الماضي الإقطاعي.
من وجهة النظر هذه، فإن عزوبية الفنان الرومانسي هي إحياء لتقاليد رهبان العصور الوسطي، والإجبار علي العفة في الرهبان، والبوهيميون أعادوا إنشاء مجتمع ذكوري متركز علي الثقافة، بحيث لا تكون المرأة فيه سوي صديقة تصنعها الصدفة أو مصدر إلهام دون التسبب في أي إزعاج، ولكن المرأة مع ذلك تلعب دوراً أساسياً في حياة الفنان، والذي نادراً ما يُظهر عزوبيته علي أنها امتناع عن الزواج.
وبما أنه تخندق بعيداً عن طقوس ومؤسسات الحياة البرجوازية، فإن للبوهيمياً غالباً علاقات مؤقتة مع فتيات تبعن المتعة، واللغة الخضراء حفظت أثار ذلك بمصطلحات عامية، مثل: »فنانة« أو »فنانة في الغرفة«، مصطلحان للدلالة علي أنها تستقبل بوهيمي في غرفتها.
فالفنان والعاهرة يلتقيان هنا حيث يُصب الفائض من المجتمع البرجوازي، وذلك بحسب اعترافات ساخرة لألفريد دو موسيه في »اعترافات طفل القرن«، ويضيف موسيه: »بعدما يقضي الرجل وطره من المرأة، كان يهمس بكلمة تجرح حتي الموت: يا لها من حقيرة، كان الرجال يلقون بأنفسهم في الخمر والنساء والطلبة والفنانون كانوا يفعلون الشئ ذاته، كانوا يعالجون الشر بالشر، كان الجيل الرومانسي يريد التحرر من سحره الأسود في المكان الخطأ«، كل ذلك مع تشويه مثالية الأنثي، علماً بأن فتاة المتعة تعرض بضاعتها بصدق، فهي لا تعد بأكثر مما تملك، ولا تعطي أقل مما تعد به، وعلي الجانب الآخر فإن الزواج بالنسبة للرومانسيين ليس إلا فخاً تنصبه العائلة البرجوازية للزوج أو للزوجة المستقبلية.
ها هو صديق يحدثكم عن فتاة شابة: »هي جميلة ومن أسرة طيبة قامت بتربيتها بشكل جيد، وللفوز بها عليك أن تدفع 300 ألف فرنك، وإذا أردت أن تقابلها فإن ذلك سيحدث بمقابلة صدفة علناً بينما هي معدة سلفاً سراً، ولمزيد من الابتذال، سيعقبها عقد يتفاوض علي بنوده اثنان من كاتبي العدل«.
الباقي المرئي من هذه القصة يحكيه بلزاك في »المآسي الصغري للحياة الزوجية«، والتي ظهر منها عدة أجزاء في »الشيطان في باريس«: فاستياء الزوجين تحول من الضرب تحت الحزام، بالمعني الحرفي للكلمة، للضرب بلكمات في الوجه والرأس إلي حرب بلا هوادة بينهما، ومع ذلك فإن البوهيمي الرومانسي ينتهي به المطاف غالباً بحياة شبه زوجية مع فتاة شابة من طبقة اجتماعية متواضعة، تكون مهمتها العناية بمنزله وذلك لأن عُزاب القرن التاسع عشر كانوا يجهلون تماماً فن الأعمال المنزلية.
الفنان ينتظر من عشيقته أن تعمل علي راحته المادية، وعليه أن يدفع لها مقابل ما تقدمه، فهي التي تذهب لتشتري له التبغ والخمر ولحم الخنزير، وهي التي تُعد الولائم حينما يدعو أصدقاءه.
ذلك المنزل الخاص بالفنان البوهيمي والعاهرة أصبح شيئاً أسطورياً في ظل ملكية يوليو. ويوضح جول جانان ذلك بقوله: »العاهرة هي العناية الإلهية لهذا النوع من الشباب الأعزب، شرف وروح وضوضاء مدارسنا.. هي حب ضاحك ومهمل لشعراء بلا عشيقات، لخطباء مازالوا في أول الطريق، لجنرالات دون سيف، لسياسيين دون منبر.. إن كل شاب يعيش في باريس بأموال هزيلة يمنحها إياه والداه وبقليل من الأمل، له الحق في أن يكون هو الطاغية الفائز بهؤلاء الماركيزات الجميلات في شارع فيفيان«.
الحق في العزوبية
المومس التي كانت تربح بالكاد ما يكفي لسد احتياجاتها الأساسية، كان يتم اعتبارها امرأة ليست علي خُلق ويمكن إغواؤها بسهولة، وإذا كانت لا تمارس الدعارة نفسها فإنها تكون قريبة من هذا الوسط، وفي بعض الحالات يمكن أن تتحول إلي »امرأة متنقلة« بين أكثر من رجل، وهو ما يجعلها موضع اشمئزاز واحتقار من الجميع.
في عام 1882، أوضح ألفريد ديلافو في »الساعات الباريسية« أن »الحي اللاتيني بالنسبة للفتيات هو غرفة انتظار كعاهرات، وبالنسبة للفتيان هو غرفة انتظار للمجد، فالفتيات يصبحن فتيات بينما الفتيان يصبحون أطباء ومحامين«.
طبقاً ل»فيسيولوجيا المومس«، »فإن القطيعة مع الحبيب قد تكون لفتاة في بداية حياتها العملية، فالفتاة ذات الحظ التعس تظل تتنقل من يد ليد كورقة بحاجة للختم من أكثر من موظف، إلي أن تسقط تدريجياً في الدرك الأسفل من الفساد«.
»الفتيات«،أي النساء غير المتزوجات، حينما يصبحن »فتيات« أي عاهرات، فإنهن بذلك لا يفعلن إلا تحقيق مصير مكتوب في اسمهن، فهن يصبحن ما كن دوماً عليه، أما الفتي فيجب أن تتغير أوضاعه، إذ ينتظره المجتمع ليخرج من شرنقة العزوبية ليكون مواطناً مفيداً.
أن تكون مومساً، أو طالباً أو بوهيمياً، أو غندوراً، فتلك حالة مؤقتة، فالمومس قد تتزوج أو تشيخ وهي فتاة والطالب القادم من الأقاليم يعود إلي بلده ليستقر بها، »ففي اليوم الذي يصبح فيه الطالب محامياً أو طبيباً فإنه ليس نفس الرجل الذي كان من قبل«،هكذا يؤكد مؤلف »فيسيولوجيا الطالب«، ويضيف »يشتري ملابس سوداء وقورة ويقص شعره ولا يشرب إلا القليل من التبغ في المناسبات، باختصار يصبح مصنفاً في طبقة البرجوازيين.. فالعازب القديم بشارع »سان جاك« تزوج حينما بلغ الأربعين وأصبح لديه كرشاً ويرتدي نظارة«.
فمن الصعب تخيل أن الفنان سيستمر لأجل غير مسمي في حياة بوهيمية في غرف الحي اللاتيني، في وقائعه التي دوّنها عن الجيل الرومانسي »فرنسا الشباب«، تيوفيل جوتيه الذي كان في الثانية والعشرين وقت كتابته تلك الوقائع، يؤكد أنه في سن الثانية والعشرين لم يكن يهتم بمستقبله علي الإطلاق، »لقد قيل لي عدة مرات بأنه يجب أن أفعل شيئا وأن أفكر في مستقبلي.. كانوا يقولون لي: ينبغي أن يكون لك وضع في المجتمع ولو لمجرد لقب، فلتعتبره دواء من الصيدلية وعليك ابتلاعه، وأنه لا يمكنني ألا أكون شيئاً فذلك لم يره أحد من قبل«، ولكن في ظل الإمبراطورية الثانية، جوتيه نفسه، الكاتب والناقد، كان مُحتفلاً به ورغماً عنه أصبح شخصاً آخر.
الشاب المتأنق المتغندر الذي يحظي بوضعية اجتماعية أفضل من الطالب والفنان البوهيمي، يمكنه الحفاظ علي شخصيته لفترة طويلة، ومع ذلك فإن حالة الشاب الغندور تتماشي بشكل سيئ مع العازبة العجوز، فمن الصعب تخيل أن غندورا عجوزا بإمكانه إطلاق موضة جديدة، أو التحدث بالنبرة الملائمة للمجتمع الذي يعيش فيه.
ملك الشباب المتغندر بو بروميل، العازب غير المرن بلغ ذروته علي كل المستويات في الفترة من 1810 1820 حينما كان مقرباً من أمير ويلز، ولكنه انتهي به الأمر مجنوناً وحيداً فقيراً بعدما هجره الجميع.
أما بودلير فلم يكن سلوكه الغريب مثيراً للدهشة إلا لفترة من الوقت، وحينما استقر في العاصمة البلجيكية بروكسل عام 1864، وتحديداً في فندق »المرآة العظيمة«، كان أسيراً لحالة من الخمول العميق ويعاني الإعياء بسبب المرض، وكان محبطاً طوال الوقت ويشتكي لأمه افتقاده لكل شئ حتي الملبس الجيد.
نعترف.. للشاب الغندور وللبوهيمي وللطالب وللمومس الحق في العزوبية، بل إننا نري هذه العزوبية إحدي أهم مميزاتهم، وشذوذ سلوكهم ليس بالشيء المقلق إذا ما كان عابراً، ولكن أن تستمر هذه الحالة وقتاً طويلاً فإن حكم المجتمع لن ينتظر، ومن الطبيعي إذاً أن الزوجين الشابين المكون من بوهيمي ومومس يعقبه زوج يحظي بتعاطف أقل، مكون من شاب أعزب في منتصف العمر وعاهرة، وكان ألفريد ديلافو يطلق عليهم، بشكل لا يخلو من الازدراء، »الأهطل«، و»العاهرة المستفزة، والكسول والكسولة، ونساء البحيرة وفرسان الوسام«، و»الأهطل« يُعرفه ألفريد ديلافو، في »قاموس اللغة الخضراء« (قاموس باللغة العامية لشرح مصطلحات الشارع) ب»أحمق يوظف وقت فراغه لتدمير نفسه من أجل بغايا يسخرن منه«.
وكان لقب »سيدة البحيرة« يمنح للعاهرات اللائي كن يذهبن يومياً لغابات »بولونيا« ويجلسن بجوار البحيرة الرئيسية حيث يتمشي الأغنياء الشيك، أما فرسان الوسام فهي إشارة لعالم مزيف لفرسان الصناعة أي عالم منحط من النصابين المخادعين القوادين، وعلي العكس من الفتاة العانس الوحيدة علي الدوام والتي تُعتبر مصدر إحباط ومنفرة لكثيرين فإن الشاب الأعزب ليس وحيداً بل هو رفيق لكل فتيات الهوي.
هذا ما يوضحه كتاب »فسيولوجيا العازب والفتاة العانس« الصادر عام 1842، ل»Louis Couailhac«، الذي يقدم، في وقت واحد، نظرة عامة متعاطفة مع البوهيمي، وآراء متحفظة إجمالاً تجاه العزوبية، ويؤكد كويلاك: »دائماً ما يوجد ضد العُزاب أحكام أخلاقية مسبقة، فيُنظر إليهم علي أنهم أناس ساخرون، بدون وضع اجتماعي، ولا يحظون بقبول أو بأي ضمانة في الحياة، ولا يُسمح لهم بالاندماج مع العائلات إلا بفرص نادرة«، علماً بأن العازب الذي يتحدث عنه كويلاك هو »ذلك الذي تجاوز الأربعين، أما الأكثر شباباً فيسميهم »عزاب مؤقتون«، منهم كتاب العدل، ومساعدو جنود الدرك، والكتاب المتمردون، والنوادل في المطاعم والمستمعون في مجلس الدولة، وأبناء الأسر المفككة«.
عازب منتصف العمر يثير خوف الفتيات الشابات والنساء المتزوجات، لأن مجرد وجوده يؤثر سلباً علي سمعتهم، و»أنفاسه تكون جاذبة لوباء الغيبة والنميمة، والجلوس معه في مكان واحد يكون شيئاً معدياً بالأمراض الاجتماعية، وبمجرد دخول أحد العزاب لصالون به أسر، فإن الجميع يقتربون من بعضهم البعض ويشكلون دائرة لا يسمحون له بالدخول فيها«، وبالتالي فإنه لا يستطيع مجالسة نساء إلا لو كانت سمعتهن مُعرضة بالفعل لكثير من القيل والقال.
»من النادر أن تري العازب يتمتع برصيد إلا عند فتيات ضائعات، وفتيات يرتدين قناع اللبؤات في الحفلات التنكرية، وفتيات يلعبن دور البطولة الثانوية في المسرحيات، فهن لا يحصلن علي الثناء والمديح والمغازلات إلا من العزاب، ويرفضن حب الرجل بمجرد علمهن أنه متزوج«.
رسم مونييه الذي يوضح ذلك التوجه، يُظهر أعزب متأنقاً تبدو علي ملامحه السذاجة، ويتجول علي أحد جوانب الطريق وإلي جواره مومس متأنقة، التي تتجاوزه بمسافة تساوي مقدار مد رقبتها وتعطي إيحاء بأنها من سيدات المجتمع الراقي، ليسا حبيبين وجهاً لوجه، ولكنهما يلعبان دوراً مستعاراً ولديهما شعور بأنهما في موقف تمثيلي، فالعازب والمومس يتحاشيان بعناية أن ينظر أحدهما في عين الآخر علناً كما لو أن كلا منهما يشعر بالعار من الأخر، فعيونهما تتحرك في اتجاهات عكسية تماماً وهو ما يخلق نوعاً من الكوميديا، ولكن كلا منهما يحتاج للأخر لكي يواجها نظرات الجموع، فذراع المرأة يستند علي ذراع الرجل وإن لم تلتق عيناهما فإن جسديهما يحتكان ببعضهما البعض.
الزوجان اللذان يشكلانهما بمثابة إهانة بالغة للأسرة التي تتنزه في نفس الشارع، لا سيما وأنهما يشبهانها بغرابة، فالعازب يحمل عصا ويرتدي قبعة، وهما من أهم ما يميز لبس الطبقة البرجوازية، إضافة للسراويل الضيقة ذات الأشرطة والأحذية الجلد، ورفيقته تتجول معه، ليس بشعر مكشوف مثل العاملات ولا ترتدي »بونيه« مثل المومسات، ولكنها ترتدي برنيطة ذات شبكة سوداء علي الوجه وشالاً مُزين بدبوس شيك أو ورد، فتبدو أكثر أناقة وتأنقاً من مومس مبتدئة، خاصةً أنها ترتدي شالاً مستورداً من الهند ومن أفخم أنواع القماش، لذا فمن حيث المظهر الخارجي بإمكانهما المرور بهدوء كما لو كانا زوجين برجوازيين، ولكنهما من الداخل يقلبان، رأساً علي عقب، قيم العائلة، فهذان الزوجان معرضان للانفصال بشكل أسرع مما ارتبطا به، فالمومس ترافق الشاب الأعزب علي أمل الزواج منه، ولكن لا شئ يجبر الرجل علي فعل ذلك، وحتي إن أعطي وعداً وأخلفه فإن القانون لا يعاقبه، فلا يوجد أي قاعدة أو عقد يربطهما، ولا يوجد بينهما شئ مشترك: فالفتاة لا تشاركه ما يأتيها من أموال، وهي تنفق كل ما لديها بسرعة علي المسكن والمأكل والملبس، وليس لديهما أطفال ولن يكون ذلك أبداً، وحتي إن حملت الفتاة وأنجبت فلا يوجد ما يضمن لها تلقي أي مساعدة مالية من والد الطفل، لأن القانون المدني يمنع منعاً باتاً التحقق من الأبوة.
فتيات العار
وبالرغم من أن العازب يتمتع، في نظر المجتمع بقدر أكبر من الحرية مقارنةً بالعاهرة ولكن يتم وضعه أيضاً في طبقة غير المصنفين، ففي فصل »الزواج« ب»قاموس العلوم الطبية«، الصادر عام 1872، يقوم مؤلفه الطبيب والمختص بعلم الإحصاء والتعداد السكاني جاك بيرتيون بوضع العازب علي المقصلة »يجب أن يعتبر المشرِّع أن من أعدي أعداء المجتمع والمرأة ومؤسسة الزواج، هما أكبر قرحتين فيه: العازب وفتاة الهوي«، وإذا كانت »فتيات العار« كما أطلق عليهن، »يلقحن رجالنا بوقاحتهن، فإن الخطأ يعود علي الشباب الذين أضلوا هؤلاء الفتيات السبيل، وذلك لأن عدداً كبيراً منهن تم إغواؤه وخداعه، ثم إلقاؤهن في الشوارع من قبل من غرر بهن«، ويمكن أن نلتمس لهن العذر أكثر من ذلك المنحل الذي غرر بهن والذي يعتبره الدكتور بيرتيون ثعباناً خبيثا، ويلقبه ب»رجل المتعة«.
حتي في الأدب الشعبي المختص بعلم وظائف الأعضاء (فيسيولوجي)، الذي يأخذ منهم الجوانب الجميلة والمثيرة للضحك في نفس الوقت، فإن العاهرات والعزاب يستدعون دوماً أحكاماً قاسية، فهناك من يعتقد أنهم من اختاروا مصيرهم في الأساس، فذلك النمط من الأشخاص له خصائص غير قابلة للتغيير، وإلي حد ما، فإن البورتريهات الخاصة بالعازب والعاهرة، والتي تم ابتكارها في العصر الرومانسي، عززت الأحكام المسبقة الموجودة بالفعل، فالتهميش الذي يجعل منهما شخصيات رائعة يكرسهما أيضاً ليصبحا لعنة علي الطبقة البرجوازية، فالعاهرة بالنسبة لضابط الشرطة »فتاة برقم« أو »فتاة بكارت«، وهي أيضاً موضع دراسات أخلاقية.
إذ إن مؤلفي الموسوعات الأخلاقية ومفتشي البوليس، يتشاركان في شبكة كبيرة للتجسس، فصورة البوهيمي الأعزب في علم وظائف الأعضاء من الأشياء المسلية، ولكن ذلك يجعله محكوما عليه بالوجود في عزلة، حيث يتم تصويره علي أنه كائن طفيلي وغير مسئول وكسول، ويعند بالمجئ متأخراً عن موعده، وبالنسبة للطبقة البرجوازية فإن كل رجل يرفض أن يكون مواطناً مفيداً منتجاً فإنه يتم تصنيفه في طبقة المجرمين المحتملين.
حينما ظهر كتاب »حياة البوهيمية«، غضب أويسمانس كاتباً عام 1876: »كل وسطاء بيع كريمات الشعر والخمور شعروا بزيادة رعبهم الوحشي من الكتاب والرسامين.. كان الجمهور مقتنعاُ أن الكاتب »كائن مختلف عن الآخرين.. مجرد رعاية من الرعاع شعره مسبسب أو يرتدي برنيطة مدببة.. هو مجرد وغد لا يجيد سوي البكاء ناظراً للنجوم، وخداع بواب البناية التي يقطن فيها ونادل المقهي الذي يجلس عليه، كي لا يدفع ما عليه». ولكن تلك النتائج المستلخصة من الحياة البوهيمية، تُستخدم فقط للوصف دون بحث أو تحليل أو تصحيح، فالعزوبية والدعارة كان يتم اعتبارهما من أعمال الحياة الباريسية، وشيئان لا مفر منهما مثل إضاءة الشوارع بمصابيح الغاز حينما يحل الظلام.
بواسطة الفكاهة ونبرتهم القصصية الساخرة النادرة وتركيبتهم المفككة، قام علم الفسيولوجي بتفريغ ادعاءاتهم، وتدريجياً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأت الكتابات الجذابة الطريفة تختفي ليحل محلها كتابات خطب قاسية عنيفة ذات صبغة علمية مستوحاة من الهاجس بالسلوكيات المنحرفة.
أطباء العلاج النفسي ومعالجو المختليون عقلياً والمتخصصون في علم الجريمة، سوف يطالبون بمساءلة العاهرات والعزاب، وتحليل أسباب »شذوذهم«، والبحث عن أفضل السبل لوضعهم في حالة لا تكون مؤذية للمجتمع، وظهر علم جديد للتصنيفات والرموز يهتم بشكل كبير بدراسة الأجسام والعقول، وبمرور الوقت بات العزاب والعاهرات يجسدون انحرافاً جسدياً وجنسياً ونفسياً، وبعيداً عن مقاومة هذا الاتجاه شارك الأدب والفنون في تلك الدراسات بشكل واسع، فالعاهرات في الأدب الطبيعي لم يعدن في صورة ورود علي أرصفة باريس بأي شكل من الأشكال، بل مجرد جثث يتم تحليلها بشكل لا نهائي ممن ابتكروهن في رواياتهم.
أويوسمانس وفيلييه دو ليزل آدم كانا متهمين بالإغراق في الفحش وبارتداء ثوب »روائيو الانحطاط«، وتمكنا من اللعب علي الغموض ما بين الشخصية الحقيقية للكاتب والشخصيات التي يبتكرها.
هؤلاء المتغندرون الذين يحتقرون عصرهم ويكرهون الزواج البرجوازي، يستغلون الحرية التي تمنحها لهم العزوبية من أجل تشخيص مجتمع في طور الاضمحلال.
في عام 1976 أصدر أويوسمانس روايته الأولي في بروكسل، بوحي ذاتي، »مارتا.. حكاية فتاة«، تم توقيفها علي الحدود الفرنسية البلجيكية، وتمت مصادرة الكتاب سريعاً بتهمة التعدي علي الأخلاق العامة، وفي العام التالي ظهرت رواية أخري قابلة للاشتعال بعنوان »الفتاة إيلزا« لإدموند جونكور، وهي مستوحاة من قصص عشيقة الأخوين جونكور المرأة العاقلة »ماريا«.
في عام 1880 أثارت رواية »نانا« لإيميل زولا ضجة كبيرة، إذ صنع زولا شيئاً استثنائياً في عالم طبيعاني تحكمه العزوبية، وهو ما يفسر لماذا »نانا« الأقل حميمية والأكثر استخداماً للاستعارات البلاغية عن كل رواياته التي خصصها لفتيات الهوي، وبينما رسامو الكاريكاتور ضاعفوا من رسوماتهم المعبرة عن كتابات زولا الطبيعية، مستوحين الكثير والكثير من شخصية »نانا«، كانت حكومة جامبتا تخطط لمصادرة العمل.
وفيما يُعد فضيحة رأي كبيرة، خرجت فتاة المتعة من مجال الرسم الكاريكاتوري لتدخل بشكل مثير مجال الفنون الجميلة، فبعد »الغداء علي العشب«، و»أوليمبيا« لمانيه، وفيلسيان روبس وتلميذه تولوز لوتريك وجان لوي فوران وإدجار ديجا صنعوا منها (فتاة المتعة) رمزاً لجمالية انحلالية لا تمت بصلة للمواثيق الأكاديمية.
أويوسمانس كتب بحماسة شديدة عام 1880 عن إحدي اللوحات المائية لجان لوي فوران التي تظهر 3 بنات في صالون أحد بيوت الدعارة: »إن ما يبدو إعجازياً في ذلك العمل هو قوة الحقيقة التي تظهر منه، إنهن فتيات يعملن في ذلك البيت ولسن فتيات أخريات، وإذا كان وضع جسدهن، ورائحتهن المزعجة، وتعفن جسدهن تحت أضواء مصابيح الغاز، كل ذلك يظهر بوضوح ودقة بشكل غير مسبوق، فإنه أظهر أيضاً إنسانيتهن البهيمية وطفولتهن«.
حينما يلتقي الأخوان جونكور بفيلسيان روبس لأول مرة، وهما اللذان قد وثقا فيه ليرسم رسماً توضيحياً عن »المومس« (رواية ألفها الأخوان جونكور)، قال لهما الرسام لشاب إنه يريد أن يجعل، بدراساته عن العاهرات، »الشئ الحداثي من وجهة نظر الطبيعة«، وكان روبس يحكي عن جانب كارثي مفجع وجده خلال ليلة واحدة أمضاها مع عاهرة تدعي كلارا بلوم.
بالنسبة لروبس وفوران، فإن الفتيات العاهرات يمثلن بشكل أساسي مفهوماً سوداوياً من الحداثة، وهو ما يتجلي عندهن في الكآبة والشذوذ والبشاعة، فمن بين فتيات فوران اللائي يعرضن أنفسهن أمام العميل توجد فتاة سمينة خمرية اللون جسدها ذابل عليه أثار أيادي من ضاجعوها، وأخري شقراء بساقين مقوستين«، هكذا كتب أويوسمانس ناسباً إلي فوران هوسه بالجلد الحريمي الناعم المتعفن، إنه ذلك العطر المتعفن الذي يجذب الكتاب الطبعانيين والرسامين الواقعيين، فبعدما سحقتهم الحياة ومصيرهم الأسود أصبحت هؤلاء الفتيات يعشن كالحيوانات بدون هدف أو إدراك ما يدور حولهن، انتظاراً للتحلل النهائي لأجسادهن بعدما يقضي عليهن المرض.
وبينما الفن الأكاديمي يحتفل بالأعمال الراقية من ماض مجيد ويخلد لحظات تاريخية ذات مغزي، فإن رسم الفتيات وعلي العكس من ذلك كان يهتم باللحظات الميتة من العالم المعاصر.
إدجار ديجا كان مهتماً بوجوه وأجساد النساء المنهكات جراء حياتهن: فتيات بيوت الدعارة وفتيات الشوارع، والغسالات والممثلات ومغنيات المقاهي والحفلات الخاصة.. كلهن كن مشتبها بهن أنهن يمارسن الدعارة في ذلك الوقت.
في وصفة أدبية خفيفة نُشرت عام 1877 بعنوان »نساء في شرفة مقهي وقت المساء«، يُظهر ديجا 4 فتيات يجلسن في شرفة مقهي ذات إضاءة عالية، أعمدة الشرفة إضافة لزاوية رؤية منحرفة كانت تقطع أجسادهن، وكن جميعهن منهكات، وكانت إحداهن تقرض أظافرها بينما نظراتها شاردة، فيما رفيقتها كانت مغلقة العينين وبالكاد تستطيع أن تجلس معتدلة علي مقعدها، كما لو كانت قواها قد خارت أو أفرطت في الشرب، وتحت أضواء مصابيح الجاز كانت وجوههن تبدو طباشيرية، وقبعاتهن كانت بألوان مبهرجة.
الفتيات لم يكن يشكلن نموذجاً يرسم من خلاله الرسام، بل هن كن بالفعل علي طبيعتهن في هذا الموقف مثل فتيات أحد منازل الدعارة اللائي رسمهن كونستان جايز.
في الواقع فإن العاهرة، علي العكس من الفتاة الموديل، لا تقف كنموذج للرسام، إنها ببساطة تنتظر الزبون.
نساء شارع »مولان«، في باريس حيث كان هنري تولوز لوتريك يقضي يومه، كن ينتظرن بفارغ الصبر في الصالون الكبير المعلق الغالب عليه لونا البنفسج والاحمر الأوروجواياني، وتلكم النساء اللائي كن ينادينه بمودة »سيد هنري« لم يكن يشعرن بوجوده، وهنا أيضاً لا يحدث شئ فالنساء يجلسن وينظرن في الفراغ.
وإذا كانت فتيات الهوي يسحرن الرسامين بسلبيتهن الكئيبة، فإن حضورهن الدائم في الحياة الباريسية كان يشكل مصدر قلق للجهات الحكومية، فشرطة الآداب التي طالما تعرضت لانتقادات لاذعة كانت دائمة محاصرة بأسئلة عن طرق مراقبة والتحكم في الدعارة، وكان مفتش الشرطة ليكور قد أصدر دراسة مثيرة للقلق عام 1874 بعنوان »عن الحالة الراهنة للدعارة الباريسية«.
»في الحالة الراهنة للأفكار والأشياء نحن لم نعد قادرين علي السيطرة علي الدعارة في الأماكن المخصصة لممارسة الانحلال في الأحياء الضائعة«، هكذا كتب مفتش الشرطة بحزن وأسي مقترحاً مهاجمة أماكن الدعارة السرية في المقاهي والكباريهات مع إصدار بيان تحذيري قبل ذلك لأصحاب تلك الأماكن، ولكنه يخلص في النهاية إلي أن الأسباب الجذرية للدعارة ليس لها علاقة بقمع الشرطة.
ويكشف الرجل عن ان الدعارة بمثابة مرض اجتماعي عميق، سببه تراجع الوازع الديني، والإحساس الزائد بالرفاهية، وغياب السلطة الأبوية، والتساهل المفرط من قبل النساء مع من يغازلونهن.
أفول الثقافة الأوروبية
في أعقاب هزيمة 1870أصبحت الدعارة رمزاً لمجتمع معيب ساهمت في انحداره، وذلك هو الدور الذي منحه زولا ل»نانا« في روايته، فهي فتاة متمردة بامتياز، وبقوة فرجها استطاعت أن تجعل البروليتاريا الحضرية، حيث تعود أصولها، علي اتصال بكل طبقات المجتمع الباريسي: الصحافة والطبقة الأروستقراطية ووجهاء الدولة، حيث تكشف عن ضعفهم جميعاً، ويقول عنها زولا: »عملها هو الخراب والموت وتم إنجازه بالفعل، فالذبابة الطائرة (يقصد نانا) القادمة من زبالات الضواحي أتت حاملة العفن الاجتماعي، وسممت الرجال ولم يعد بمقدورنا أن نطلب منهم شيئاً«.
في نهاية ذلك القرن، لعبت الدعارة دوراً هاماً في ضبابية نظريات »الانحطاط« التي تقترح تعريفاً جديداً للمعايير الجنسية والاجتماعية، فتلك الأنماط الجديدة من التفكير قريبة جداً من الطبيعانية الفرنسية فأثرتها وغذتها بالكثير من الأفكار.
في عام 1857، كان للدكتور موريل مؤلف »معاهدة الانحطاط الجسدي والفكري والأخلاقي للجنس البشري«، للإيطالي سيزار لومبروزو، أب الأنثروبولجيا الجنائية، التأثير الحاسم علي زولا، فمن خلالهما تمكن من فهم كيفية انتقال العيوب الجسدية والأخلاقية من جيل لجيل، بشكل يؤدي للعقم والجنون.
غير أن لومبروزو نفسه كان يستشهد بشخصيات زولا كدليل علي صحة نظرياته، فحينما يشرح كيف أن العاهرات والمجرمات يتميزن بالقوة الجسدية مقارنةً بمتوسط قوة النساء، فإنه يذكر بونهور كمثال تلك العاهرة التي كانت ترتدي ملابس الرجال وقتلت عدداً منهم بمطرقة، وكذلك »فيراجو« تلك المرأة سليطة اللسان في رواية زولا »الوحش الآدمي«، والتي أخرجت قطاراً عن القضبان لتنتقم من حبيبها.
النمساوي أوتو فينجر هو أيضاً استخلص من روايات »زولا«، عدة نماذج لدعم أطروحاته في كتابه الشهير »جنس وحرف« الذي ظهر في فيينا عام 1903.
الطبيب النفسي ماكس نوردو، تلميذ سيزار لومبروزو، ومؤلف العمل الضخم »الانحطاط«، هو أيضاً لا يتوقف عن تتبع أعمال زولا، ولكن علي العكس من أستاذه ليظهر إلي أي مدي أن الإدعاءات الطبيعانية العلمية بلا أي أساس تستند عليه، إذ أن نوردو يري في زولا رومانسياً غاضباً مصاباً بمرض الجرافومانيا (مرض يدفع صاحبه للكتابة باستمرار)، وسيكوباتياً جنسياً مصاباً بهاجس المجانين والعاهرات والمجرمين.. »نانا« هي نفسها زولا، فهو يثري نفسه بدس قاذوراته في المجتمع، إنه يدور في دائرة مغلقة وهو أكثر انحطاطاً من الشخصيات المنحطة التي يبتكرها في أعماله، ويري نوردو أن روايات زولا تطمس الحدود بين الحقيقة والخيال، بادعائه ابتكار أشياء وهمية تحت مسمي عمل بحثي في وثائق، وطبقاً لانتقادات نوردو فإن زولا هو العرض والمسبب لمرض اجتماعي عميق، وبتركيزه علي الانحراف الجتماعي أصبح زولا متهماً بابتكار أدب الجريمة.
التعرف علي شخصية الكاتب من خلال شخصياته في أعماله ليس شيئاً مبتكراً، فبعد 10سنوات من نشر »نانا« ظهر مقال نقدي في مجلة »ميركور دو فرانس«، ليؤكد أن »نانا« هي نفسها زولا، هي رمز حياته العامة، وعلي مدي 10سنوات أرسل لتلك المومس خطابات عُلقت منها نسخ علي جدران غفته وكُتب منها مقاطع في مقدمات رواياته«.
ويعتقد نوردو أن التعرف علي الكاتب بهذا الشكل يكشف المرض العقلي لديه (لدي الكاتب) ويوضح أيضاً أفول الثقافة الأوروبية، علماً بأن نوردو وجد في أويوسمانس هدفاً آخر نموذجياً، إذ لا يفرق بينه وبين البطل الرئيس في روايته »العد التنازلي«، ذلك البطل هو جان ديزسانت شخص عصبي مصاب بالتشنجات وغارق في الضلال، ويطلق ماكس نوردو علي روائيين مثل زولا وأويوسمانس: »حفنة من المخصيين عقلياً غير القادرين علي إنجاب عمل حي ولكنهم يقلدون عملية الإنجاب نفسها«، ويضيف نوردو أن مثل هؤلاء يطفئون أنفسهم بأنفسهم لأن الانحطاط لا يمكن أن يكون له نسل ممتد.
فأي كان الشكل الذي تتخذه في الفكر الأوروبي في أواخر القرن التاسع عشر، فإن أفكار الانحطاط مرتبطة غريزياً بهاجس العقم، ولهذا السبب فإن العازب والعاهرة متهمان دوماً بتراجع فرنسا علي المستوي الديموجرافي، فالأمر هنا لا يتعلق ببقاء شخص واحد ولكن ببقاء الأمة بأكملها، فالعزوبية كانت سبباً في مخاوف ديموجرافية ضخمة بسبب انتشار فكرة رفض الزواج في الفترة من 1875وحتي 1900، مما أدي لانخفاض نسبة المواليد، علماً بأن العزوبية النهائية (التي تجاوز صاحبها الخمسين من العمر) لم تكن موجودة سوي بين أقلية من الشعب الفرنسي بنسبة تُقدر ب10٪ عند الرجال، و12٪ عند النساء، ولكن كانت هناك مخاوف من ارتفاع تلك النسبة، لا سيما بعد الهزيمة العسكرية المذلة لفرنسا أمام ألمانيا عام 1870، وكان دائماً يُشار بأصابع الاتهام للعزاب الذين يرفضون الانجاب علي أنهم السبب في أن البلاد لا تملك ما يكفي من شباب للأخذ بالثأر من ألمانيا.
فيبنما الشعب الألماني كان ينمو ديموجرافياً بسرعة كبيرة في النصف الثاني من القرن العشرين، كان الشعب الفرنسي يعطي إحساساً بالركود، فكان رفض الانجاب بمثابة الخيانة، وقبل ثلاث سنوات من اندلاع الحرب العالمية الأولي، وقف جاك برتيون مدير مكتب التعداد والإحصاء بباريس، علي الملأ ليعنف مواطنيه قائلاً: »كل رجل يقع عليه واجب المساهمة في استمرارية بلده كما يقع عليه واجب الدفاع عنها«.
الدعارة التي، يُعتقد أنها تصرف الرجال عن الانجاب، كان يبدو أنها تزيد الخطر، فالنظام الانضباطي الذي يُسمح فيه بممارسة الدعارة ولا توجد عليها مراقبة إلا لأسباب صحية، ينتهي إلي الفشل الكامل، وبعيداً عن أنها باتت شيئاً يحتويه المجتمع، فقد تضاعفت الدعارة علي مدار القرن التاسع عشر، متخذة أشكالا أكثر ذكاءً ومهارة ومن الصعب جداً تمييزها، ففي عام 1888، كتب الدكتور شارل فيريه صاحب أطروحة »الانحطاط والجريمة«، قائلاً: »في الحالة الراهنة من حضارتنا تحدث العلاقات الجنسية بطريقة تختفي معها الحدود الفاصلة مع الدعارة«، فالحكومة عاجزة عن القضاء علي الدعارة أو حتي مجرد السيطرة علي الدعارة السرية، إذ أن فتيات البارات تجذبن الزبائن بشكل متزايد، وحينما مُنع تقديم البيرة للنساء في عام 1888، أصحبت فتيات المقاهي والكباريهات والمغنيات يتناوبن علي بيوت خاصة حولها أصحابها بشكل غير مباشر لبيوت دارة لاستقبال البرجوازيين الراغبين في المتعة واللهو.
العاهرات السريات ضاعفن من حيلهن من أجل جذب الزبائن، فبعضهن تنكر في هيئة مسافرات وكن شبه مقيمات في محطة قطار »سان لازار«، من أجل اصطياد الرجال القادمين من الضواحي والمدن الأخري، فيما أخريات كن يصطدن الرجال من عند القبور، حيث كن يرتدين ملابس الحداد السوداء ويتظاهرن بالحزن لإثارة الشفقة، فيما أخريات يصطدن زبائنهن من خلال أصحاب مهن يتعاملن مع النساء أكثر من غيرهن، كصانع قبعات حريمي، وصاحب محل أزهار، وجواهرجي.
تلك الحيل التي لا تُعد ولا تُحصي طمست كذلك الحدود بين النساء المحترمات وفتيات الهوي.
إبان عهد بارون دو شاتيليه، كانت الدعارة في شوارع باريس شراً لابد منه، »إنهن في كل مكان«، كما يقول مفتش الشرطة ليكور: »في البارات والمسارح والملاهي الليلية والمقاهي.. نقابلهن في كل مكان: في المؤسسات العامة وفي محطات السكك الحديدية.. في كل أماكن التنزه وأمام المحلات والمقاهي، وحتي ساعات متأخرة من الليل نراهن يتجولن في أكبر شوارع العاصمة بشكل فاضح أمام الجميع«.
هوس الزهري
العزوبية والدعارة في باريس لم يكونا مجرد شر (أخلاقي وسياسي وميتافيزيقي)، بل كان العزاب والعاهرات أكبر حاملين لمرض الزهري، وكانوا ينقلون كل المخاوف الصحية في المجتمع الفرنسي بالقرن التاسع عشر، وكان مرض الزهري في ذلك الوقت مرعباً لأنه كان من السهل الإصابة به بينما كان من الصعب بل من المستحيل الشفاء منه، وكانت ليلة واحدة تكفي لنقل العدوي، وكانوا يستخدمون الزئبق في العلاج دون العلم بأضراره الجانبية علي الصحة، وكذلك أوديد البوتاسيوم، وأحياناً نبات الفشتاغ كما توضح مراسلات فلوبير.
في أواخر القرن، فهم الأطباء تطور المرض علي ثلاث مراحل، ففي المرحلة الثالثة يهاجم الزهري العصبي المخ ويسبب اضطرابات مستعصية، فمن المعروف أن موباسون أنهي حياته متأثراً بهلاوس وأوهام في عيادة الدكتور بلانش في باريس، وبدءا من العام 1888، كان الخطاب الطبي عاملاً مساعداً في نشر نظرية شعبية مفادها أن الزهري وراثي، وهو ما يعني أن المرض ممكن أن ينتقل لفترة طويلة حتي بعد الشفاء منه، وعززت تلك النظرية فكرة الاضطراب العقلي (الذهان) عند مريض الزهري، وكان الاعتقاد السائد في ذلك الوقت هو أنه لا حاجة لأن يكون الشخص نفسه مصاباً بالعدوي لكي ينقلها.
وكلما خاف البرجوازيون من مرض الزهري عظّم الكتاب من شأنه، ففي خطاب إلي صديقه روبير بينشون كتب موباسون متفاخراً متجاهلاً النهاية البشعة التي تنظره: »نعم أنا مصاب بالزهري وليس السيلان.. لا أملك الكريستال الإكليريكي ولاعرف ديك كمثل الذي يملكه هؤلاء البرجوازيون المأفنون، ولا أملك حتي القرنبيط.. لا، لا، إنني مصاب بالزهري العظيم ذلك الذي مات به فرانسوا الأول، إنني لفخور بذلك رغم أنها مصيبة ولكني أحتقر قبل كل شئ هؤلاء البرجوازيين«.
الزهري هو شكل من أشكال التطعيم (الراديكالي) ضد أي التزام جاد يمكن أن يؤدي بصاحبه إلي الزواج، فالعزوبية تضع الكتاب في وضع مريح يجعلهم مكرسين أنفسهم لعبادة الفن، وبذلك فإن المرض يتخذ شكلاً من أشكال الزواج الأحادي، فالكتاب العزاب، وبإحساس نابع من الفضيحة، يتبنون موقف الشخص المنبوذ الذي يمنحهم إياه الأدب والمرض، ففي خطاب موجه لصديقه إيرنست فايدو يقارن فلوبير اهتمامه بالأدب ب»قرحة لا شفاء منها«، ويضيف: »نعم الأدب يزيد ضيقي ومرارتي لأعلي درجة.. لقد أصبح الأدب بالنسبة لي بمثابة الزهري المستمر، إنني مسلوب العقل أمام الفن والجماليات، من المستحيل أن يمر يوم دون أن أحك ذلك الجرح الغائر الذي ينخر في جسدي«.
غير أن مثل تلك الجرأة في التعبير عن الرأي يقابلها إدانة غير قابلة للاستئناف من قبل المجتمع البرجوازي، ففي عام 1887 ألف الدكتور بيير جارنييه كتاباً بعنوان »عزوبية وعزاب .. خصائص ومخاطر صحية«، جارنييه نصب نفسه متخصصاً أو حامياً ل»صحة الجيل«، وظاهرياً كان هدفه إسداء نصائح صحية مجانية للجمهور، ولكن الواقع أن »عزوبية وعزاب« كان غطاءً علمياً لكُتيب مجهز خصيصاً لتوجيه نقد لاذع للعزوبية، وهو ما يعكس ثقل المسألة في تفكير ذلك العصر، إذ أصر جارنييه في كتابه علي توضيح المخاطر التي تهدد الصحة العامة بتلك العلاقات بين العاهرات والعزاب.
في رأيه »كل عاهرة مصيرها إلي الزهري لا محالة فهي مصابة به أو سيصيبها لا محالة«، وكان ذلك الرأي ذائعاً بشدة في القرن التاسع عشر، »كلهن بغايا وشاذات.. وكلهن أصابهن المرض«، هكذا كتب الأخوان جونكور، في إحدي مذكراتهم، فيما صاح الدكتور جارنييه في أحد الصالونات الثقافية بنبرة شاعرية قائلاً:» إن الدعارة ذلك المصدر النجس المسموم هي التي تتدفق منها كل الشرور، وإليه يذهب معظم الشباب لإطفاء نار شهوتهم الربيعية المتأججة«.
وإذا أصيب أحد العزاب من عاهرة، ثم تزوج فإنه يجازف بنقل المرض لزوجته وأطفاله، ومن وجهة نظر المؤمنين بنظرية الزهري الوراثي، فإن الأب هو الذي ينقل الشر، فالعدوي تنتقل إليه من نساء شعبيات »وتتحول عنده إلي جرثومة موت تصيب كل ذريته رغم نقاء الأم«، وإذا كانت البغايا المصابات بالمرض لا يحظين بأي تعاطف، فإنه ليس من المقبول أن يكون الزهري سبباً في أن يكون عالم الدعارة علي اتصال بعالم الأسرة البرجوازية، محققاً بذلك خوفاً أبداه القديس أوجستين، فالرجل الذي يصيب زوجته وذريته بالعدوي يخلق بذلك علاقة لا تُطاق بين فتيات الشوارع ونسله النقي، فالزهري الذي تحمله فتاة الهوي يهدد بنشر عفنها في كل مكان، لدرجة تدفع المجتمع للاعتقاد أنه بالكامل مهدد بال»الزهرنه«، وهو ما أوضحه »جان ديزاسانت« (»جان ديزاسانت« الشخصية الرئيسية في رواية »عد تنازلي« ل»أويوسمانس«)، حيث لخص هذا الهاجس الوحشي بقوله مفسراً حالة الرعب المسيطرة عليه دوماً »الأمر ليس إلا الزهري«.
لقد أصبحت العاهرة إذاً سامة ومجرمة وقاتلة أطفال، ومسئولة عن تدمير مستقبلهم، بل مستقبل أمة بأكملها، ومن وجهة نظر الأطباء النفسيين فإن العاهرة القاتلة المجرمة كمثل المجنونة بالضبط لا فارق بينهما.
في عام 1888، الدكتور فيريه الذي شرح ارتكاب الجريمة بفعل الجنون، أشار في »انحطاط وجريمة«، أن »ثمة قاسماً مشتركاً بين العاهرات والمجرمين إذ أنهم قرروا ألا يكونوا أشخاصاً منتجين وبالتالي هم ضد المجتمع«، فالدعارة بالنسبة له تشكل نوعاً من الجريمة ولكنها بلا عنف، ولكن آثارها مدمرة. ويخلص فيريه إلي أن »العجزة والمجانين والمجرمين والمنحلين من كل الفئات، يجب اعتبارهم جميعاً نفايات فشلت في التكيف مع الحضارة، إنهم لا يستحقون الغضب ولا يستحقون الكراهية، ولكن علي المجتمع، إذا أراد ألا يشهد انحطاطه بنفسه، عليه أن يحصن نفسه منهم جميعاً دون تفرقة، وأن يضعهم في وضع لا يستطيعون معه الإيذاء«.
ويري الدكتور جارنييه أنه لا يوجد سوي وسيلة واحدة للحماية من ويلات الدعارة: تقديم سن الزواج، »لكي نكون بمنأي عن جنون وفوضوية الشباب الذي طالت به فترة العزوبية، ولا يوجد تدابير صحية أخري للتغلب علي الحوافز الجنسية المبكرة، فالشهية الجنسية عنيفة جداً عند الفتيان في بداية مرحلة الشباب ويتم استفزازها وإلهابها بالدعارة«.
رباط الزواج ليس فقط إجراء وقائياً، ولكنه تميمة ضد الموت والمرض، ومن الضروري وضع حد للتأخير الضار الذي يفصل بين حياة الفتي وحياة الرجل.
بالزواج وباختيار مهنة وبإنجاب أطفال فإننا بذلك ندرك ونملأ وقت العزوبية الميت، ولكن هذا العلاج لا ينطبق إلا علي الرجال، فالدكتور جارنييه يعارض بشدة زواج العاهرات، إذ يري أن الغرغارينا تمكنت منهن بشكل لا يعطي لهن الحق في الزواج والاستقرار والانجاب، ورغم اشمئزازه فإن الدكتور جارنييه لا يري في الدعارة أصلاً للشر، فالمسألة ليست في إخضاع الرجال لنفس الرقابة الطبية الدورية التي تخضع لها الفتيات المسجلات رسمياً في كشوف الدعارة، ولكن المسألة هي ذلك العازب الواقع في قلب خوف كبير يعتمل في نفس الدكتور جارنييه، وإذا كانت العاهرة تقدم وسيلة سهلة لتقديم سن الزواج وعدم إنجاب أطفال، فإن العازب يعمل علي إيجاد الفسق من خلال الدعارة والفجور، الذي يمارسه ونتائجه المباشرة: الزهري، والزنا، والإجهاض وقتل الأطفال، وهي أمور ليست كبيرة بالنظر إلي تأثيرها الأكبر والمتمثل في قلة التعداد السكاني الذي تعاني منه فرنسا حالياً.
المتحولون
أحد الأسباب الجوهرية التي بسببها يثير العزاب والعاهرات جدلاً مثيراً ويجعل الآخرين يرفضونها رفضاً قاطعاً، هو تناقضهم الجنسي، إنه ذلك الهاجس المزدوج بتأنيث الرجال و»ترجيل« النساء في القرن التاسع عشر، فيما أشاعت الرومانسية في ذوق ذلك العصر صورة لشباب في غاية الجمال بشعر طويل وميول جنسية غامضة.
زوجان لا يمكن نسيانهما مكونان من الرجل.. »الرقيق» ألفريد دي موسيه، والمرأة ذات الميول الذكورية جورج ساند نصيرة ارتداء المرأة للسروال وحقها في التدخين، هما الشاهد الأبرز علي ذلك التبدل في الأدوار.
لوسيان دو روبمبريه العازب المتغندر الذي تخيله بلزاك يملك رقة وجمالاً تتناسبان مع النساء، فيما كان الأولي بهما ابنة عمه »بيت« التي خصها بلزاك بملامح وصفات الرجال، ولكن حينما تمر مرحلة الشاب فإن ذلك الخلط في الجنس ينمو بشكل هزلي، فيما الاعتقاد الشعبي يريد أن الرجال والنساء العزاب يؤولون في نهاية المطاف إلي التشابه مع ما يناسبهما في العمر.
في الخيال الشعبي، تمتلك الفتيات العوانس شارباً وصدراً مسطحاً، فيما الفتيان مصابون بوسواس داخلي وهواجس نرجسية تصبغ عليهم صفات نسوية.
بعد وفاة أخيه جول، قام إدموند دو جونكور الملقب آنذاك ب»الأرملة«، بتأليف كتاب من جزءين ليشرح بالتفصيل الممل ديكورات منزله في »أوتيل«، وفي مراسلاته مع العزاب الأخرين، كان فلوبير علي سبيل المثال، يختتم رسالته إليه بكلمات حب والرغبة في احتضانه بدفء، وكان فلوبير يطلق عليهما »كلبيه الصغيرين« من باب الدلال، وفي عام 1868 كتب إليهما طالباً ما يشبه كشف الحساب عن فترة انقطاعهما عن الكتابة له، وكان يتكتب عن نفسه بصيغة الأنثي قائلاً »هل متما؟ نسيتما فتاتكما العانس؟«.
الأطباء والأخصاء النفسيون، يرون أن الجانب النسوي عند العازب ليس قابلاً للمزاح والنكات، فالعازب دائماً مشكوك فيه بأن لديه ميولاً ضد الطبيعة، فأسوأ الانحرافات المتأصلة عند العازب بحسب الدكتور جارنييه، هو »البرود الجنسي« وهو هنا بمعني »حب وهمي انحرافي لأقرانه من نفس جنسه«، ويعتبر لومبروزو الارتداد الوراثي للكائنات المنحطة بمثابة تراجع نحو خنوثة بدائية »الانحطاط يميل رويداً رويداً إلي تقريب الجنسين وخلطهما ببعض، من خلال ميل للارتداد الوراثي نحو مرحلة الخنوثة، وينتج عن ذلك عند المجرمين الذكور العودة إلي مرحلة الطفولة أو التحول إلي الأنوثة وكلاهما يقود إلي اللواط، وبالنسبة للفتيات فإنهن يتحولن إلي كائنات ذكورية«.
ماكس نورداو كان طبيباً وفيزيائياً وكاتباً وناقداً اجتماعياً، وكان من أبرز زعماء الصهيونية. أيضاً خص الرجل المنحط بصفات ضعف اعتبرها أنثوية، مثل الانفعالية المفرطة ورخاوة بدنية واضحة والهيستريا. الشخصية الخيالية التي اتخذها هدفاً لانتقاداته تتوافق كل التوافق مع أوصاف جان ديزاسانت، فذلك الرجل »العصبي المصاب بالأنيميا« ينحدر من سلالة رياضية عسكرية عابسة، ولقد وصفه أويوسمانس بقوله.. إنه المنتج الوحيد »لتخنيث الذكور« من عائلته القديمة، والمنزل الذي كان يقيم فيه مؤثث بقطع قيمة وستائر غالية وأزهار نادرة، ولم يكن ديزاسانت ينجذب إلا للنساء شديدات الشبه بالرجال، كتلك الرياضية الأكروباتية قوية البنية »ميس أورانيا« التي كانت تعمل في سيرك، والتي اعتقد أنه وجد فيها »سحر الرشاقة وقوة رجل«، فتلك الفتاة البهيمية البشعة الحقيرة ذات الجسد النحاسي هي الشئ الوحيد الذي يناسب »مخلوقاً ضعيفاً منبطحاً لاهثاً« إنها »فتاة شاحبة اللون مثله تماماً«.
وإذا كان العزاب »المنحطون« يميلون إلي التحول جسدياً ونفسياً إلي نساء، فإن الاعتقاد السائد أيضاً هو أن المجتمع لم يكن يفصل ما بين الأدوار بشكل كاف، فطبقاً لمخيلة القرن التاسع، كان خرق القواعد الجنسية يغذي الحلقة المفرغة للعزوبية والدعارة، فالنساء ينخرطن في الدعارة حينما يغتصب الرجال وظائف مخصصة تقليدياً للنساء، إذ أن نسبة كبيرة من العزاب عملت كموظفين في محلات الملابس وخدم بالمنازل والكافيهات، حارمين بذلك النساء من وظائف شرعية، وكتب بارون دو شاتيليه ضد هذا الوضع ساخطاً »أليس من المخجل أن نري آلاف الشباب في مقتبل العمر يعملون في محلات ومقاهي باريس؟ حياة رخوة ومخنثة ولا تناسب إلا النساء«.
الفيلسوف الطوباوي شارل فورييه، الذي لا يجمعه قاسم مشترك مع دوشاتيليه، عبر أيضاً عن اشمئزازه لرؤية »رياضيين في الثلاثينات من العمر يجلسون القرفصاء أمام المكاتب وينقلون البضائع بسواعد قوية كثيفة الشعر، ويمسكون بأقداح القهوة ويبدو كما لو أنهم يفتقدون للزوجة والأطفال لكي ينشغلوا بتلك الوظائف التافهة«، وعلي العكس منه نسب دو شاتيليه إلي العاهرات عيوباً شائعة في عالم المجرمين الذكور، مثل تعاطي الكحوليات وسرعة النزق والعنف، وطبقاً لملاحظاته، فإن »العاهرات وبينما هن فريسة للحظات الغضب العام يبدين طاقة جسدية وروحية لا تخطئها العين، وفي تلك الحالة فإنهن تتعاركن بالأيدي العارية وتتقاتلن حتي الموت وتصيب كل منهن الأخري بجروح خطيرة«.
بزينتها وملابسها المستفزة، تمثل العاهرة في نهاية المطاف الأنوثة ولا شئ غير ذلك، ولكن تلك الأنوثة بلغت درجة من اللا معقول حتي أنها تستخدمها لإخفاء حقيقة مختلفة تماماً، فها هي امرأة تمتلك خصائص الرجل وترتدي زي امرأة، ولأن كل الموازين انقلبت رأساً علي عقب، فنري رجلا يأخذ مكاناً هو في الأصل للنساء وامرأة تأخذ مكاناً تركه الرجال بمحض إرادتهم.
حينما نقارنها بامرأة متزوجة قانوناً وخاضعة لزوجها أو لسلطة الأم، التي لا يمنحها القانون المدني سوي سلطة محدودة علي أطفالها، فإن العاهرة تمتلك سلطة تتجاوز السلطة الذكورية، فتعدد العلاقات الجنسية هي من صميم الصلاحيات الذكورية، والإمكانية التي تمتلكها الأكثر غني من بين العاهرات في اختيار حبيبها (أو حبيبتها) وفي أن تعيش حياتها علي النحو الذي تريده، وقدرتها علي ممارسة الجنس بهدف الامتاع وليس الانجاب، يجعل منها »امرأة بصفات رجل« تنافس الرجل في ملعبه الخاص.
في »غادة الكاميليا« تقول »مارجريت« ل»أرمون دوفال« إنها تبحث عن »شاب مُحب بلا إرادة، وأن يُحب بلا ضعف وأن يكون محبوباً«، وحتي »أرمون« عند نقطة معينة يطيع طاعة عمياء.
وبذلك فإن »مارجريت« عكست قانون العلاقات ما بين عاهرة خاضعة وزبونها الذي يتمتع بالقوة، وفي عام 1841 نشرت مجلة Le Charivari النقدية، رسماً حجرياً، مأخوذا من سلسلة رسومات »البغايا« لجافارني، يُظهر امرأة متمددة علي فراش مغمضة العينين، وتدخن سيجارها بهدوء ونهم واستمتاع، بينما لا تعير أدني اهتمام لحبيبها الواقف إلي جوارها، والذي يقول لها »أيتها الملاك الجميل، سجائرك أصدقاء أوفياء ولكنهم في غاية القسوة«، ويبدو المجاز هنا في غاية الوضوح: فالمرأة هي من تملك السيجار في إشارة رمزية جلية للتملك الذكوري، إنها هي من تقود اللعبة، إنها هي التي تتميز بالقسوة،إنها مثل »أوليمبيا« شخصية مانيه، متمددة علي هذا النحو لتعبر عن رفضها لكل شئ.
»نانا« (شخصية زولا) تمثل أيضاً النمط ذاته من العاهرات ذات الصفات الرجولية، إنها لبؤة أمازونية محاربة تحتقر الرجال، ولها فتاة المتعة الخاصة بها، إنها شيطان رجيم، هنا فإن العاهرة نفسها تلعب دور الزبون العازب الذي يدفع للنساء، دور يكشف عما كانت عليه طوال حياتها، علماً بأن شرطة الآداب كانت تقوم بتوقيف عاهرات متمردات بسبب سلوكياتهم الذكورية، فأحد الضباط يذكر علي سبيل المثال سوزان لاجييه ممثلة ومغنية شهيرة ضاجعت فلوبير والأخوان جونكور، ويقول عنها »بذكائها الشديد استطاعت أن تنشيء أعمالها التجارية الخاصة بها، إنها داهية خدعت الكثير من المغفلين«.
تلك الممثلة التي كانت تدفع الأموال لفتيات الهوي كي تمارس معهن السحاق، لم تكن تجعل من ميولها الجنسية المزدوجة سراً، فحينما سألها الأخوان جونكور عن ذلك أجابت »إن في السحاق حرية تتشابه لحد ما مع تلك الحرية التي ينعم بها الرجال فيما بينهم، كحرية الضراط علي سبيل المثال«.
العاهرات والعزاب أطاحوا بقوانين كان القرن التاسع عشر يعتبرها طبيعية، فهم لم يكشفوا فقط »الازدواجية الجنسية المتأصلة في كل الكائنات الحية«، والكلام هنا علي مسئولية أتو فينجر، ولكنهم يجسدون أيضاً إمكانية العار غير المقبولة، بأن يتحول الرجال إلي نساء والنساء إلي رجال، وإذا العاهرات والعزاب يمكنهم هكذا اقتراح عكس الأدوار الجنسية، فإن ذلك ليس لأنهم بلا شك كائنات محدودة ولكن لأنهم مخلوقات ناقصة يعيشون نمط حياة متوسط وبلا أصول واضحة ومستقبلهم زائل لا محالة، وفي نهاية ذلك القرن (القرن التاسع عشر) كان يتمركزون عند نقطة حيث الحالة الأكثر تقدماً بالحضارة لحقت بحالتهم البدائية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.