يقول أحد العزاب عن تجربته: »أعيش في وحدة قاتلة لدرجة أنني فكرت في الانتحار أكثر من مرة، ولكن ما منعني عن هذه الفكرة، هو أن لا أحد، وأقصد المعني الحرفي بكلمة لا أحد، سيتأثر بوفاتي، ما يعني أنني سأكون بموتي وحيداً بأكثر مما كنت حياً«. العزوبية تجسد موقفاً فلسفياً ضد التقاليد الإنسانية، وفي الوقت نفسه ثورة اجتماعية علي أخلاق الطبقة البرجوازية، فالعازب هو ذلك المتمرد اللا اجتماعي.. رجل لا يعترف بوجوده أحد، وتتنزل عليه لعنات المجتمع آناء الليل وأطراف النهار. الأعزب، شخص جعل من نفسه منبوذاً بمحض إرادته، يري أن الحياة برمتها شيء لا لزوم له، والسلاح الحاد المصوب ضده يعيد توجيهه في الاتجاه المعاكس، حيث يدين الحياة عديمة القيمة للبرجوازي المتزوج العامل رب الأسرة، إذ إنه بحجة التجهيز للمستقبل يُحكم علي البرجوازي بالعيش في حاضر كئيب مثله تماماً، فالبرجوازي تسير حياته تحت شعار المفيد وليس الجميل، وبالتالي هو لا يبدع شيئاً ولا يخترع شيئاً ولا ينتج شيئاً، وبالنسبة للعازب فإن النسل لا يضمن إلا شيئاً واحداً هو أن المستقبل سيكون تكراراً للحاضر بنفس ما فيه من غثيان، فتبذير البرجوازيين كان بالفعل يثير »الغثيان« من وجهة نظر العازب، الحياة نفسها فائض وتبذير وبذخ لا لزوم له، والعقم هو السبيل الوحيد للسيطرة علي كل ذلك. في رواية »العد التنازلي« لأويوسمانس تصرخ الشخصية الرئيسة: »ما هذا الجنون المتمثل في إنجاب صغار.. أه!! إن لم يكن باسم الشفقة يجب القضاء علي الخلق الآن فمتي سنفعل؟!«. الفنان الأعزب الذي تسكنه مثالية العقم، يعبر عن »اعتراض العقل علي الرحم« كما كتب »فلوبير« لصديقه »إيرنست فايدو« عام 1859، وفي نفس الخطاب هاجم بشدة الأم التي كان عصره يعتبرها مثالية، مضيفاً: »عبادة الأم من الأشياء التي ستجعل الأجيال المستقبلية تنفجر ضحكاً من تلك الحماقة«. في المقابل نجد المتزوجين من الوجهاء وعلية القوم، تجار ومهندسين وضباطا ونوابا برلمانيين، حققوا نجاحاً كبيراً في مهنهم ونقلوا ثمرة هذا النجاح إلي أولادهم.. جميعهم أرباب أسر ولهم ذرية »امتلكوا الحق في كل شئ: في الحياة والعمل والقيادة الرفاهية والاحترام، بل وفي الخلود«. الأب إذاً موعود بالخلود بما أنه أنشأ أسرة، ولأنه استطاع أن ينقل لأولاده حياة غنية بالشرف والحكمة والمال، ذلك الخلود يضمنه له الشهود، وذلك علي العكس تماماً من العازب حينما يموت بلا شهود، فالخادمة المنشغلة بسرقة سيدها الأعزب ليس لها أي مصلحة في تخليد ذكراه أو في الاحتفال بلحظة موته، بخلاف موت رب الأسرة الذي يبكيه أولاده ومن قبلهم زوجته، فحينما ينظر الأطفال إلي والدهم المحتضر، فإنهم يشاهدون ماضيهم الذي هو علي وشك الانتهاء، فيما الأب يري في أعينهم مستقبله الذي هو علي وشك البدء.. المستقبل يلتفت إلي الماضي والماضي يتطلع للمستقبل، وحضور الأولاد (الذكور تحديداً) يضمن له أن اسمه سيظل وأن نسله لن ينقطع. علي النقيض فإن موت العازب لا يثير أدني شفقة، لا بين أقربائه ولا بين أصدقائه المحيطين الذين يتجاهلونه تماماً، الرسالة هنا في غاية الوضوح: عدم الفائدة الاجتماعية للعازب حكمت عليه بهذا العقاب، وبما أنه لم يُعط للمجتمع شيئاً في حياته، فعليه ألا ينتظر أي مقابل لحظة مماته، فالعازب يُعاقب علي أنه لم يعش سوي لنفسه فقط بموت بشع مُذل، وعلي العكس من الوجهاء فإنه يموت بلا أطفال وبلا وصية وبلا أسرار يخبرها لأحد قبيل مماته. أما العاهرة فهي تلك الأفعي السامة القاتلة التي تدمر مستقبل أسرة وأطفال وأمة بأكملها، وثمة قاسم مشترك بين العاهرات والمجرمين إذ أنهم قرروا ألا يكونوا أشخاصاً منتجين وبالتالي هم ضد المجتمع، فالدعارة بالنسبة لها تشكل نوعاً من الجريمة وإن كانت بلا عنف، ولكن آثارها مدمرة، ويري بعض أساتذة علم الاجتماع، في فرنسا القرن التاسع عشر، أن العجزة والمجانين والمجرمين والمنحلين من كل الفئات، يجب اعتبارهم جميعاً نفايات فشلت في التكيف مع الحضارة، وأنهم لا يستحقون الغضب ولا الكراهية أيضا، لكن علي المجتمع، إذا أراد ألا يشهد انحطاطه بنفسه، أن يحصن نفسه منهم جميعاً دون استثناء، فالرجل الذي ينتقل إليه مرض جنسي جراء معاشرة العاهرات، ثم يصيب به زوجته وذريته يخلق بذلك علاقة لا تُطاق بين فتيات الشوارع ونسله النقي، فالزهري الذي تحمله فتاة الهوي يهدد بنشر عفنها في كل مكان، لدرجة تدفع المجتمع للاعتقاد أنه بالكامل مهدد بال»الزهرنه«. خطورة العاهرة علي المجتمع تتلخص في المشهد الأخير من رواية «نانا» لإيميل زولا، فمن غرفة الفندق التي ماتت فيها العاهرة »نانا« يمكن أن نسمع بوضوح جمع من الغوغاء يصرخون وهم يلوحون بالمشاعل: »إلي برلين.. إلي برلين!!«، كانت فرنسا تستعد للدخول في حرب كارثية، ضد ألمانيا. لقد غرقت فرنسا في الفساد حتي أذنيها، أفسدتها فتاة عاهرة بجسدها البشع.. تحمل »نانا« في داخلها الموت الذي قضي عليها، إنها في حد ذاتها مرض.. مرض نقلته إلي المجتمع لأنها ضاجعت الجيف والحيوانات وربما الرجال الهائمين علي وجوههم في الطرقات، والذين يغمض المجتمع عينيه عنهم عمداً. تعدد أنماط العاهرات، فمنهن من كانت ضعيفة بائسة مغلوبة علي أمرها، وأخريات ذات صفات ذكورية، تحتقر الرجال ولها فتاة المتعة الخاصة بها، وهكذا فإن العاهرة نفسها تلعب دور »الزبون« العازب الذي يدفع للنساء، دور يكشف عما كانت عليه طوال حياتها. العزاب والعاهرات من جهة، والمجتمع البرجوازي من جهة أخري، اختلفوا في النظر للثورات التي شهدها المجتمع الفرنسي، ففي أعين مقدسي الثورة، لا شئ يبدو مدنساً وبلا معني أكثر من العالم المعاصر، وفي الثورة فقط، بدلاً من أن تكون الدعارة خزياً وعاراً تصبح عملاً مقدساً.. في الثورة فقط، بدلاً من أن يكون العازب مصدر للانحراف والشذوذ الأخلاقي، يصبح مؤسساً لعالم جديد يلغي الأنساب والتقاليد والمواريث.. في الثورة فقط يوجد عالم الحلم حيث يستطيع المرء أن يعيش مئات المرات في حياة واحدة، فيظهر فجأة العالم الوحيد الممكن. اقتحام قصر »تويليريش، أحد القصور الملكية الفرنسية، في ثورة 1848كان مصحوباً بثورة هائلة، وما كتبه بودلير عن ذلك ذكرني بما شاهدته في أثناء اقتحام المتحف المصري ومبني الحزب الوطني، والمولات والمحلات الكبري يوم جمعة الغضب في الثامن والعشرين من يناير2011; حيث كتب بودلير: »شخص بروليتاري ذو لحية سوداء ويرتدي قميصاً مفتوحاً، كان يبدو علي وجهه الفرح والغباء والانحطاط« صعد واعتلي كرسي العرش، ولم يكن المشاركون الآخرون بعيدين عن هذا المشهد »فبشكل ساخر ارتدي الرعاع الدانتيلا والحرير الهندي، بينما شوهدت كرات صغيرة من الذهب تجري بين أكمام بلوزات الفتيات، وارتدي حدادون قبعات من ريش نعام، بينما استخدمت عاهرات أوسمة الشرف في صنع أحزمة علي مقاسهن«.. »فلوبير« يرمز إلي الشعب الذي كان ينهب قصر »تويليري« بعاهرة ترتدي شارة الحرية! ثورة القرن التاسع عشر ليست أماً ولا زوجة، بل هي فتاة، وإذا كانت العاهرة تعتبر أحد أقوي رموز العنف الثوري في القرن التاسع عشر، فذلك لأن تلك المرأة-الطفلة- لديها من القوة ما يجعلها تحول الذكور من حولها إلي أطفال مثلها، إذ يبدأ الأطفال في اللعب حيثما تتوقف القوانين، فمنطق الثورات هو تعليق القوانين أو إعلان وفاتها. إيقاف العمل بالقوانين، شمل أيضاً إيقاف العمل بقوانين الهوية، كل شخص بإمكانه أن يبدو شخصاً آخر.. كل شخص يمكن أن يتحول لآخر، والغاية من ذلك العيد الثوري ليس السرقة وليس كذلك الإصلاح السياسي، وإنما الاستمتاع بإيقاف العمل بالقوانين، لذا فمن وجهة نظر محافظة فإن الثورة ليست سوي زيارة دائمة لبيت دعارة، فالثورة تحول عمر »البلوغ« إلي حالة من »الطفولة« التي لا تنتهي، وكانت فانتازيا العاهرات مهيمنة وساهم في ذلك فئات من الثوار الخليعين الذين يحتقرون القوانين والحياة الأسرية. فتاة الهوي تنتمي للشعب بأكمله، إنها الطفل الذي يملك كل فرد الحق في اللعب معه، إنها »فتاة لكل الناس« بحسب توصيف كان يحقر من شأنها في القرن التاسع عشر، فهي علي العكس من المرأة المتزوجة، أو المرأة »الراشدة«، فهي لا تملك ذرية ولا أموالا أوممتلكات يمكن أن تورثها ولن تنقل أي تراث.. إنها ليست زوجة أو ابنة أحد، باستثناء الشعب الذي ربما يمثل لها أسرتها الوحيدة. كل أيقونات البغاء في القرن التاسع عشر، كن عبارة عن نساء نصف عرايا يكشفن، جزئياً أو كلياً، صدورهن وسيقانهن، وإذا كانت ملامح وجسد الحرية مستعارين من التماثيل الكلاسيكية، فإن ملابسها تضعها في جانب »فتيات الشعب«. في هذا العالم (الثوري) المقلوب رأساً علي عقب، لم يكن هناك دعارة منغلقة لأن الشوارع ممتلئة بالعاهرات، بينما المواطنون الذين يحترمون القوانين سجناء منازلهم. الزواج الذي يقسم الوقت إلي »قبل« و»بعد« هو بلاشك الحدث الأهم في الحياة الخاصة، فالزواج يمنح الاستقرار ويسمح ببناء اسم ويُكسب صاحبه الاحترام، حيث إن البقاء كشاب عجوز أو كفتاة عانس خارج نطاق الأوامر الدينية، فهذا يعني أن المرء بنفسه يدين نفسه. لأنهم لم يخلقوا حياة جديدة للأمة التي منحتهم الحياة، فإن العاهرات والعزاب محكوم عليهم بموت يراه معاصروهم عقاباً أقل مما يستحقون، حتي وإن كان احتضاراً مثل الحيوانات أو تعفناً مثل النباتات، وموتهم لا يؤدي إلا لتوازن »طبيعي« بإزاحتهم كطفيليات في الحياة. الكتاب، الذي يضعنا أمام مجتمع فرنسي في القرن التاسع عشر يتشابه مع مجتمع مصري نعيشه حالياً، يتركنا في النهاية حائرين بين أمرين أحلاهما مُر، فإما حياة برجوازية مُملة سخيفة عبثية، أو حياة يُنبَذ صاحبها ويموت في مجتمعه وحيداً غريباً.