وزير الاتصالات والنائب العام يوقعان بروتوكول تعاون لتنفيذ 10 مشروعات لتطوير وتحديث منظومة التحول الرقمى بالنيابة العامة    نائب وزير الإسكان يعقد اجتماعا لمتابعة الاحتياجات من الطلمبات لشركات مياه الشرب والصرف الصحي    إعلام إسرائيلي: إيطاليا أعربت عن استعدادها للمشاركة في قوة الاستقرار بغزة    جوتيريش يطالب بمعاقبة المسؤولين عن الهجوم على قوات حفظ السلام في السودان    السعودية.. السماح للأجانب بتملك العقار وتطبيق النظام المحدث ينطلق قريبا    محمد علي خير: الأجور في مصر تحتاج إلى ثورة.. لا يمكن فتح بيت بأقل من 15 ألف جنيه    بعد مقتل 3 أمريكيين، قوات أمريكية وسورية تشن حملة تفتيش موسعة في "تدمر"    الشرطة الأمريكية تفتش جامعة براون بعد مقتل 2 وإصابة 8 في إطلاق نار    استشهاد طفل برصاص الاحتلال فى السيلة الحارثية غرب جنين    حبس مدير كيان تعليمي بدون ترخيص للنصب والاحتيال على المواطنين    إحالة ربة منزل للمحاكمة بتهمة تعذيب وقتل طفليها بالعمرانية    لميس الحديدي: اتفرجت على "الست" مرتين.. الناس بتصفق بعد كل مشهد    ستار بوست| عبلة كامل تتحدث بعد غياب.. وقرار غير حياة عمرو يوسف    مصدر أمني ينفي ادعاءات إخواني هارب بوجود دعوات لتجمعات بالمحافظات    في دورته الثالثة.. محافظ المنيا يشهد ختام مهرجان المنيا الدولي للمسرح    رئيس الإنجيلية يبدأ جولته الرعوية بمحافظة المنيا    حفاظًا على صحة الأم والطفل.. الصحة تدعو للمباعدة «بين كل مولود وآخر»    نائبة بالأقصر تزور مصابي حادث انهيار منزل الدير بمستشفى طيبة.. صور    فيلم فلسطين 36 يفتتح الدورة 36 لأيام قرطاج السينمائية بحضور مخرجته وكامل الباشا    نائب وزير الصحة: حياة كريمة كانت السبب الأكبر في إعلان مصر خالية من التراكوما المسبب للعمى    الصحة: لقاح الإنفلونزا يقلل الإصابة بنسبة 60% ويخفف شدة الأعراض    آرسنال ينتزع فوزًا مثيرًا من وولفرهامبتون ويواصل الابتعاد في الصدارة    باريس سان جيرمان يفوز على ميتز في الدوري الفرنسي    الكتب المخفضة تستقطب زوار معرض جدة للكتاب 2025    المستشار عبد الرحمن الشهاوي يخوض سباق انتخابات نادي قضاة مصر    أوروبا.. تعاون مشروط وتحمل مسئولية الحماية    توروب: الشناوي وشوبير؟ لست هنا لأصنف الحراس.. وهذا موقفي من عبد الكريم وديانج    رئيس هيئة المتحف الكبير بعد تسرب مياه الأمطار للبهو العظيم: تمثال رمسيس فقط الموجود في المنطقة المفتوحة    نائب وزير الصحة: نسبة الإصابات بكورونا لا تتجاوز ال 2% والإنفلونزا الأعلى 60%    طفل يلقي مصرعه خنقًاً.. ويُكشف عنه أثناء لعب أصدقائه بقرية اللوزي بالداقهلية    مصرع شاب تناول حبه غله سامة لمرورة بضائقة ماليه في العدوة بالمنيا    محامي عروس المنوفية: إحالة القضية للجنايات.. ووصف الجريمة قتل مقترن بالإجهاض    وزراء رحلوا وسيرتهم العطرة تسبقهم    أخبار مصر اليوم: الاحتياطي الاستراتيجي من زيت الطعام يكفي 5.6 أشهر، بدء الصمت الانتخابي في 55 دائرة بجولة إعادة المرحلة الثانية من انتخابات النواب غدا، الصحة تكشف حقيقة انتشار متحور جديد    توروب عن إمام عاشور: عودته من الإصابة تمنح الأهلي قوة إضافية    إسلام عيسى: على ماهر أفضل من حلمى طولان ولو كان مدربا للمنتخب لتغيرت النتائج    خلال ساعات نتيجة كلية الشرطة 2025    رئيس أريتريا يزور ميناء جدة الإسلامي ويطّلع على أحدث التقنيات والخدمات التشغيلية    الزراعة: التوعية وتغيير سلوكيات المجتمع مفتاح حل أزمة كلاب الشوارع    خالد لطيف ل ستوديو إكسترا: الكل مسئول عن تراجع الكرة المصرية    تراجع حاد في صادرات النفط الفنزويلية بعد مصادرة الناقلة والعقوبات الأمريكية    أخبار 24 ساعة.. موعد صرف معاشات تكافل وكرامة عن شهر ديسمبر    العثور على جثمان تاجر مواشي داخل سيارته بالشرقية    المصل واللقاح: الإنفلونزا هذا الموسم أكثر شراسة    إينيجو مارتينيز ينتظم في مران النصر قبل موقعة الزوراء    الداخلية تعلن نتيجة القبول بكلية الشرطة غدًا    "الإسكان" تناقش استراتيجية التنقل النشط بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية ومعهد سياسات النقل والتنمية    يسري جبر يوضح حقيقة العلاج بالقرآن وتحديد عددٍ للقراءة    القومي لذوي الإعاقة يحذر من النصب على ذوي الاحتياجات الخاصة    جامعة أسيوط تنظم المائدة المستديرة الرابعة حول احتياجات سوق العمل.. الاثنين    محافظ الغربية يهنئ أبناء المحافظة الفائزين في الدورة الثانية والثلاثين للمسابقة العالمية للقرآن الكريم    مواقيت الصلاه اليوم السبت 13ديسمبر 2025 فى المنيا    استعدادات مكثفة بمستشفى أبو النمرس تمهيداً لافتتاحه    الليجا على نار.. برشلونة يواجه أوساسونا في مواجهة حاسمة اليوم    بيراميدز أمام اختبار برازيلي ناري في كأس القارات للأندية.. تفاصيل المواجهة المرتقبة    وزيرة التضامن الاجتماعي تلتقي رئيس الطائفة الإنجيلية ووفد من التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : ولازالت مصطبة عم السيد شاهدة ?!    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 13-12-2025 في محافظة قنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكري وفاة ( المرأة المشعَّة ) نعمات البحيري
علي قدْر حجم الألم كانت روعة وسموُّ الكتابة

نعمات البحيري قاصة وروائية رحلت عن عالمنا منذ ستة أعوام، تحديداً في 17 أكتوبر عام 2008 بعد صراع مع المرض اللعين، ومن المفارقة أن هذا المرض أصابها في شهر أكتوبر أيضاً وقد أطلقت عليه " يوم زلزال أكتوبر " في روايتها " يوميات امرأة مشعة " والتي رصدت من خلالها رحلتها المؤلمة مع هذا المرض السرطان .
ولدت نعمات البحيري في 16 يونية عام 1953 بحي العباسية إلا أنها عاشت طفولتها المبكرة في بيت جدها لأمها بشبين القناطر، تخرجت في كلية التجارة جامعة عين شمس، عملت إخصائية للشئون الإدارية بشركة الكهرباء حتي مرضها، تزوجت من شاعر وناقد عراقي بعد قصة حب شهيرة، وعاشت معه في بلده العراق لمدة عام واحد في نهاية الثمانينيات. مرت معه بتجربة قاسية وحالة من القهر رصدتها في روايتها الشهيرة " أشجار قليلة عند المنحني "، حصلت علي منحة قصر " لافيني " بسويسرا وترجمت بعض قصصها إلي الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والكردية، كانت تكتب المقال والنقد السينمائي والسيناريو وأدب الرحلات وأدب الأطفال، أصدرت ست مجموعات قصصية خلال مشوارها الأدبي هي : " نصف امرأة العاشقون ارتحالات اللؤلؤ ضلع أعوج شاي القمر حكايات المرأة الوحيدة " وفي مجال الرواية أصدرت روايتين هما " أشجار قليلة عند المنحني يوميات امرأة مشعة " وللأطفال أصدرت خمسة كتب ما بين القصة والسيناريو المصور وهي " النار الطيبة الفتفوتة تغزو السماء وصية الأزهار بالونة سحر رحلة الأصدقاء الثلاثة "، كتبت للدراما التليفزيونية قصة " نساء الصمت "، بجانب مقالاتها النقدية والفنية لبعض الأعمال التليفزيونية والسينمائية، اكتشفت موهبتها في كتابة القصة عبر صدفة مدهشة، والكتابة بالنسبة لنعمات البحيري هي بهجة مدفوعة الثمن من الوحدة والوحشة وتأجيل الأحلام، هي كلمة تتبادلها مع الناس حتي تظل معهم مثل خيول جامحة ترفض الانسياق لطرق ممهدة شكلا لكنها وعرة مسدودة، كما أنها خط الدفاع الأخير في مقاومة الموات والانزواء وحوافز الإحباط واليأس .
( 1 )
آخر عمل أدبي صدر للكاتبة رواية " يوميات امرأة مشعة " عن مكتبة الأسرة بالهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2006، وهو عمل يجعلنا أمام كتابة جميلة وممتعة معجونة بتجربة إنسانية ذاتية قاسية وكان القاسم المشترك فيها هو المواجهة، وبقدر حجم الألم كانت روعة وسمو الكتابة، حقاً إنها كتابة تمس أوتار القلب و تفجر معاني إنسانية رائعة نفتقدها في عصر أصبح فيه المجتمع يركض خلف شهواته وبالذات المادية، في هذه الرواية تصنع نعمات البحيري عملاً روائياً بالغ العظمة من آلامها الذاتية بتلقائية شديدة، و تفجر بطريق غير مباشر تداعيات الأخطار التي أحاطت بالمجتمع مثل العلاقات الاجتماعية التي تدهورت علي مستوي الأهل والأقارب و الأصدقاء و التي تترك في النفس جرحا، والبيروقراطية التي تقهرنا بشدة وصور الفساد بوجهه القبيح، وظلم البشر لبعضهم البعض وقهر الرجل للمرأة بشتي صوره والقسوة التي تتملك قلوب الناس واستطاعت برؤية ثاقبة ووعي شديد أن تخلط ما بين آلامها الذاتية والهموم العامة لذلك نحن أمام كتابة جديدة من العمل الروائي .
في مفتتح الرواية كشفت الكاتبة عن وجه الكتابة إذ ترصد حالة خاصة من حالات الألم العضوي والنفسي التي مرت بها وجاءت الكتابة مفعمة بروح الإنسانية وكانت أهم طرق المقاومة والمواجهة، ولقد حققت هذه الكتابة غايتها بمد جسر التواصل مع القارئ لتدوي هذه الصرخة الإنسانية في أعماقه فتزلزله وجدانياً، ولا بد وأن نعترف أن الإبداع الحقيقي هوالذي تنجزه إشراقه الإنسان فيظل في إطلالته فياضا بالنور و الروعة و الجمال، ولذا جاءت الرواية صادقة لحد الألم .
قد مزجت الكاتبة بين الواقع والخيال وأضفت عليهما بعداً فلسفياً، حينما اعترفت أن كتابة هذه الرواية عن الربع الناقص بين مرتبتي سريرها والجدار الذي ملأته بحكايات في وجود الألم ومع الأصدقاء والزملاء ( تري أن النوم يأتيني حقاً، أم أنه شخير أمي في الغرفة المجاورة، لذا قررت الانتقام منها حباً في كتابة الربع الناقض بين المرتبتين والجدار الذي ملأته بحكايات في حضرة سيدنا الإلم مع أصدقائي وأحبابي وزملائي وكل الذين عرفتهم تحت ضوء خاص يوم زلزال أكتوبر 2004 ربما يمكنني أن أنام وأحلم جيداً وأتفادي الوقوع من ألأحلام مرة ثانية) كما أن اعترافها بضرورة تحققها كإنسانه وككاتبة اكسبها حالة من الصدق والاحترام، وأيضاً اعترافها بأن الحلم وحده هو سبيلها لتجاوز كل عثراتها وأنها ثقفت نفسها بنفسها وتجاوزت ظروف القهر في البيت الذي نشأت فيه، وكذلك اعترافها بأنها تزوجت عن حب من رجل عربي وسافرت معه إلي بلده لتعيش تجربة قاسية في بلد دكتاتوري، واعترافها أيضاً بأنها أحبت أصدقاءها أكثر من نفسها ولكن للأسف فمنهم من خذلها، وكذلك أمنيتها أن تصبح أماً ولذا كتبت للأطفال حتي صار كل أطفال الدنيا أطفالها وأن أطفالها الحقيقيين هم كتبها، وكذلك حاولت التمرد علي وظيفتها كمحاسبة في شركة الكهرباء، واعترافها أيضا بأنها لم تكره أباها كل الكراهية وأهم اعتراف هو أن متع الدنيا عندها تم اختزالها في متعة الكتابة والقراءة ومشاهدة السينما لتعيش حيوات كثيرة ربما تعويضا لها عن فكرة الخلود.
(2)
وتلج من هذه الاعترافات الي التمرد علي رعب الآلة الضخمة " جهاز الأشعة " المحشورة فيه هذه الاعترافات وغيرها كشفت عن شفافية روحها وأجبرت المتلقي أن يلج معها إلي عمق التجربة ويعيش ويتفاعل معها.
رغم مرورها في البداية بإجراء فحوصات وأشعات إلا أنها تجاوزت هذا الواقع بالألاعيب النفسية وإدماجه بالخيال (حدثت نفسي بضرورة تجاوز المهزلة ببعض الألاعيب النفسية مثل إعمال الخيال وإدماجه في عالم آخر ,بعيد كل البعد عن مكان التجربة هكذا تمرست في التحايل علي كل الصعاب التي واجهتها في حياتي.) وظلت تلعب هذه الألاعيب من حين لآخر لتتجاوز الأزمات التي تمر بها وكآلية دفاع ذكريات وتصاوير وتهاويم وأحلام تلتقط صورة من داخل غرفة الجراحة التي تشبه السلخانة لكن بشروط أخف وطأة علي حدقولها ومن داخل هذه الغرفة راحت تلعب لعبتها القديمة وتعود إلي المباهج الصغيرة داخل مدرسة العباسية الإعدادية وعلاقتها بالبنات وحكاية "السوتيان" الأسود الذي اشترته لها عمتها من العتبة وقد كان مغرياً للبنات لدرجة أنه دار علي أثداء بنات الفصل (في نهاية اليوم ألقوا لي ب "السوتيان" وقد بدا مثل عظمة نهشها ألف كلب) ثم راحت بصلابة تسرد رحلتها مع العلاج الكيماوي بعد إجراء العملية وعلاقتها مع يوسف غطاس هذا الرجل الجميل الذي داهمه المرض مثلها وراح يعبر بها مرحلة الألم النفسي ويشفي حيرتها ويجيبها عن كل شيء يخص المرض إجابة شافية .
في ومضة إنسانية شديدة الحساسية تكشف فيها عن حاجة المريض إلي المساندة من البشر (أخفيت عن أخي إحساسي بالاحتياج إلي بشر يساندونني في تلك اللحظة الراهنة حيث الثقل شديد علي عقلي وظهري، بدا مترددا بين البقاء والذهاب إلي جمع ثواب أعظم. مسحت دمعة واصلت انحدارها فسألني عن ثمة ألم.)، وفي ومضة أخري تقول (في ذلك النهار لم أجد أحداً أبكي علي صدره فبكيت علي صدري) وتسير الرواية في تصاعد وهبوط حسب الحالة النفسية للراوية ولم تنس أن تتحدث عن علاقتها بالمريضات اللاتي بجوارها في المستشفي، عواطف شابة في العشرين من منفلوط ونجلاء في الثامنة عشرة من العريش، وهناء ونها، وكيف كانت تتعاطف معهن وتمسح دموعهن وهي المجروحة مثلهن، وقدمت لنا صورة رجل الأمن الذي انهال صفعاً وركلاً علي الولد الذي يعمل في جمع القمامة داخل المدينة، اتهمه بأنه كان يسرق باباً ليلة أمس، والولد الريفي ما زال يبكي في قبضة يده، كانت صورة مؤلمة علي نفسها فراحت تهاجم رجل الأمن بشراسة (هددت رجل الأمن بأنني كاتبة ولن أقبل إلا بتخليص الولد.) وهناك نموذج حي جاء ذكره في الرواية إنها "نانسي" التي تقول عنها الجارات أنها "مقضياها عرفي " تخرج من زيجة إلي ثانية ومنها إلي أخري وهي نموذج للمرأة الشاذة المتسلطة وفي المقابل لذلك تحدثت عن قهر أبيها لأمها الطيبة (كانت تسرد حكايات قهر أبي لها وأن المسلسل لم ينته بعد... وأنا أخفف عنها بأنها ليست نهاية العالم لو صار لديها مرض ثالث) هذه الصور وأخري منحت الرواية حيوية من نوع آخر بعيداً عن الألم .
( 3 )
وتعود بنا إلي نظرة فلسفية عميقة وتتحدث عن فكرة الخلود والأبدية من خلال علاقتها بالحجر الذي كان يربض أمام بيتهم، تحرك كل الذين في البيت بين مرض وصحة وحياة وموت وسفر وهو قابع أمام البيت يمنحها سر البقاء دون أن يدخل صراعاً من أجل ذلك كما يفعل البشر وبقية الكائنات وسيظل لغز الموت والخلود والسلام والأمان والحب والحنان زمنا ًمؤرقاً مع امتداد الوجود ,هذا الوجود الذي لا يقوم ولايصبح له معني بغير وجودنا .
تحدثت عن اغتراب الزمان والمكان بفعل التغيرات التي طرأت علي المجتمع وخاصة مدينة أكتوبر التي تسكنها وصاحب الشقة الذي يطاردها من حين لآخر ببيع الشقة ( في التليفون حاصرني مرة أخري مالك الشقة المهندس ماجد ضخم الجثة "عريض المنكعين شلولخ " هكذا كان يبدو لي ولم أره إلا مرة واحدة يوم كتابة العقد بأنه يرغب في بيع الشقة وسوف يرسل من يتفرج عليها ).
السرد جاء بسيطاً عميقاً متدفقاً، وبلغة بسيطة تميل إلي الشعر ولكنها مناسبة تماماً لتدفق الأحداث، وكان لابد أن تستخدم ضمير المتكلم لكي تتأمل المشهد من الداخل والخارج في آن واحد، وكانت والراوية تمتلك زمام السرد وتبوح بعيون إنسان وأحياناً بعيون فيلسوف، ونلاحظ أن الراوية هي التي تحرك الشخوص الحقيقية في حياتها حسب علاقتها بهم فترسم لهم صوراً واقعية لأنهم أحباؤها وأصدقاؤها ورفقاء الحلم الهم الواحد وهم كثر في حياتها وجاءت بذكر أسمائهم من حين لآخر ومنهم هالة البدري وسهام بيومي وشوقية الكردي ووفاء حلمي ويوسف غطاس وجميل عطية وشعبان يوسف وسلوي عبد الباقي وحياة محمود وصفاء عبد المنعم ومديحة عمارة ووداد متري وسمية رمضان وأحمد الخميس، وكلهم أعلام في الأدب والحياة بالإضافة إلي أمها وأبيها وعماتها وإخواتها مجدي وعاطف ومنال، وكذلك الأطباء والممرضات والمرضي وجيرانها في مدينة 6أكتوبر، هناك مساحات شاسعة من البوح المتعدد دون خجل علي مستوي الألم والمشاعر والهموم والقضايا المتشابكة التي تؤرقها كأنثي تحيا في مجتمع شرقي حتي الجمل الحوارية التي أجرتها علي ألسنة الشخوص تتسم بالصدق علي مستوي الانفعال والفكر واللغة، كل شخصية حسب مكونها الثقافي والمعرفي واللغوي، وقد أضفت علي السرد شيئاً من الحميمية والدفء .
وبعين الكاتبة والمثقفة راحت تضفر الأحداث بمقتطفات من مشاهير الأدب والفكر والفن أمثال برناردشو وديبونزاتي الإيطالي والشاعر محمود درويش وجان جينيه وألبيركامي وآندي بطل فيلم "وداعا ًشوشانك" ومحمود المليجي وسعاد حسني وفيروز ومحمد منير والموسيقار موتسارت، وفي صدر الرواية ذكرت مقولة شهيرة لكافكا وكلمة للشاعر محمود درويش وهما بمثابة مفتاح للرواية لأن في كل منهما عوناً علي تحمل الألم ومواجهة الحياة بصلابة وعزيمة ورغم ذلك فإنها تصف رحلة حياتها بأنها من شقاء إلي شقاء ( علي العكس تماماً كانت الرحلة منذ الصغر تأخذني من شقاء إلي شقاء وكأنها صخرة سيزيف أحملها علي ظهري وما أن أدرك بداية الجبل حتي تسقط مني وأنزل لأبدأ من جديد)
( 4 )
ولكن خط الحياة في كفها مازال طويلاً ولم تعد سوي الكتابة رياضة روحية وأصرت ألا تسكن أو تيأس ( منذ تكشف لي الأمر قررت ألا أيأس تماماً وليحدث مايحدث وسوف أعيش لآخر لحظة يمكنني فيها ذلك ) .
ومع إصدار بيانها الأخير ضد الموت انتهت الرواية بإسقاط سياسي مهم ولاذع حول أحد المسئولين الذي سمح بدخول المواد المسرطنة إلي البلد التي أصابت فقراءه بالسرطان وأمراض وأخري عديدة، إنها صورة من صور الفساد المتمدد في جسد الوطن كالوباء، وذهب إليه هؤلاء النسوة في بيته للانتقام منه وبعد ذلك خرجن إلي الشارع وهن نساء مشعات غير بائسات، ومن هنا نكتشف دلالة العنوان " يوميات امرأة مشعة " التي سجلتها نعمات البحيري بكل صدق وبساطة وقوة كقوة الجبال في صمودها.
في مقابلة وحيدة بالكاتبة قبل رحيلها بعام ذكرت لي أنها تكتب الجزء الثاني من هذه الرواية " يوميات امرأة مشعة " تواصل من خلالها رصد معاناتها مع هذا المرض الفتاك، ولا أدري حتي هذه اللحظة إذا كانت انتهت منها أم لا، أتمني أن يجيب علي ذلك أحد من أهلها أو أصدقائها المقربين، لأنها كانت متحمسة جداً لإنجازها وأكدت أنها ستحاول نشرها بالهيئة المصرية العامة للكتاب، وتحدثت معي في هذه المقابلة أيضاً عن علاقتها المتوترة بأبيها الذي لم يقبل علي الإطلاق تمردها وحبها للحرية ودفاعها عن قضايا قهر المرأة في مجتمع ذكوري، كما أنها عبرت لي عن مدي معاناتها وعذابها أثناء ترددها علي مركز الأورام ولكنها أشعرتني بالقوة والثبات في وجه هذا المفترس بفعل الكتابة، ولكن ما آلمني شعورها الحزين تجاه أصدقاء لها تجاهلوها ولم يسألوا عنها في وقت تحتاج فيه إليهم، حكت لي عن الاتصال التليفوني الذي تلقته من طليقها الشاعر العراقي والذي نزح إلي مصر مع رفاقه من أعضاء حزب البعث بعد سقوط نظام صدام حسين وطلب مقابلتها لكنها رفضت بشدة هذه المقابلة .
غمرتها حالة من السعادة وكانت مفاجأة بالنسبة لها عندما قام مؤتمر أدباء مصر بتكريمها في دورة عام 2005 ببور سعيد وخاصة أنها كانت تشعر بالظلم في هذا الجانب، لم تجد التكريم المناسب لموهبتها ومشروعها الإبداعي وتعترف في ذلك بأنه لم تدعمها أية مؤسسة اجتماعية أو ثقافية أو إعلامية في الوقت الذي تدعم هذه المؤسسات أدباء أقل منها موهبة وانتاجاً .
رحلت إحدي عرائس البحر الجميلات علي الشاطيء، والتي تتخذ من الوخم جدائل تمسِّد به وجه البحر الذي ينتظر في كل يوم عروسة يضاجعها ويفرح بها فيفيض خيره.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.