باكستان تعلن استهداف الهند ل3 قواعد جوية بصواريخ    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه اليوم بعد انخفاضه في البنوك    المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يعلن اليوم معدل التضخم لشهر أبريل    د. حسين خالد يكتب: جودة التعليم العالى (2)    ذهب وشقة فاخرة وسيارة مصفحة، كيف تتحول حياة البابا ليو بعد تنصيبه؟    جوجل توافق على دفع أكبر غرامة في تاريخ أمريكا بسبب جمع بيانات المستخدمين دون إذن    الرئيس السيسي يعود إلى أرض الوطن بعد مشاركته في احتفالات عيد النصر في موسكو    بعد 8 ساعات.. السيطرة على حريق شونة الكتان بشبرا ملس    نشرة التوك شو| البترول تعلق على أزمة البنزين المغشوش.. وتفاصيل جديدة في أزمة بوسي شلبي    طحالب خضراء تسد الفجوة بنسبة 15%| «الكلوريلا».. مستقبل إنتاج الأعلاف    الشعب الجمهوري بالمنيا ينظم احتفالية كبرى لتكريم الأمهات المثاليات.. صور    شعبة الأجهزة الكهربائية: المعلومات أحد التحديات التي تواجه صغار المصنعين    مدير مدرسة السلام في واقعة الاعتداء: «الخناقة حصلت بين الناس اللي شغالين عندي وأولياء الأمور»    برلمانية: 100 ألف ريال غرامة الذهاب للحج بدون تأشيرة    جيش الاحتلال يصيب فلسطينيين بالرصاص الحي بالضفة الغربية    طريقة عمل الخبيزة، أكلة شعبية لذيذة وسهلة التحضير    عقب الفوز على بيراميدز.. رئيس البنك الأهلي: نريد تأمين المركز الرابع    سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن بعد آخر تراجع بمستهل تعاملات السبت 10 مايو 2025    الشقة ب5 جنيهات في الشهر| جراحة دقيقة بالبرلمان لتعديل قانون الإيجار القديم    استشهاد قائد كتيبة جنين في نابلس واقتحامات تطال رام الله    العثور على جثة متفحمة داخل أرض زراعية بمنشأة القناطر    زعيم كوريا الشمالية: مشاركتنا في الحرب الروسية الأوكرانية مبررة    هل تجوز صلاة الرجل ب"الفانلة" بسبب ارتفاع الحرارة؟.. الإفتاء توضح    الهند تستهدف 3 قواعد جوية باكستانية بصواريخ دقيقة    الترسانة يواجه «وي» في افتتاح مباريات الجولة ال 35 بدوري المحترفين    ملك أحمد زاهر تشارك الجمهور صورًا مع عائلتها.. وتوجه رسالة لشقيقتها ليلى    «زي النهارده».. وفاة الأديب والمفكر مصطفى صادق الرافعي 10 مايو 1937    تكريم منى زكي كأفضل ممثلة بمهرجان المركز الكاثوليكي للسينما    «ليه منكبرش النحاس».. تعليق مثير من سيد عبدالحفيظ على أنباء اتفاق الأهلي مع جوميز    «غرفة السياحة» تجمع بيانات المعتمرين المتخلفين عن العودة    «زي النهارده».. وفاة الفنانة هالة فؤاد 10 مايو 1993    «صحة القاهرة» تكثف الاستعدادات لاعتماد وحداتها الطبية من «GAHAR»    حريق ضخم يلتهم مخزن عبوات بلاستيكية بالمنوفية    عباسى يقود "فتاة الآرل" على أنغام السيمفونى بالأوبرا    ستاندرد آند بورز تُبقي على التصنيف الائتماني لإسرائيل مع نظرة مستقبلية سلبية    حدث في منتصف الليل| ننشر تفاصيل لقاء الرئيس السيسي ونظيره الروسي.. والعمل تعلن عن وظائف جديدة    تعرف على منافس منتخب مصر في ربع نهائي كأس أمم أفريقيا للشباب    رايو فاليكانو يحقق فوزا ثمينا أمام لاس بالماس بالدوري الإسباني    الأعراض المبكرة للاكتئاب وكيف يمكن أن يتطور إلى حاد؟    البترول: تلقينا 681 شكوى ليست جميعها مرتبطة بالبنزين.. وسنعلن النتائج بشفافية    متابعة للأداء وتوجيهات تطويرية جديدة.. النائب العام يلتقي أعضاء وموظفي نيابة استئناف المنصورة    عمرو أديب بعد هزيمة بيراميدز: البنك الأهلي أحسن بنك في مصر.. والزمالك ظالم وليس مظلومًا    «بُص في ورقتك».. سيد عبدالحفيظ يعلق على هزيمة بيراميدز بالدوري    يسرا عن أزمة بوسي شلبي: «لحد آخر يوم في عمره كانت زوجته على سُنة الله ورسوله»    انطلاق مهرجان المسرح العالمي «دورة الأساتذة» بمعهد الفنون المسرحية| فيديو    أسخن 48 ساعة في مايو.. بيان مهم بشأن حالة الطقس: هجمة صيفية مبكرة    أمين الفتوى: طواف الوداع سنة.. والحج صحيح دون فدية لمن تركه لعذر (فيديو)    بسبب عقب سيجارة.. نفوق 110 رأس أغنام في حريق حظيرة ومزرعة بالمنيا    النائب العام يلتقي أعضاء النيابة العامة وموظفيها بدائرة نيابة استئناف المنصورة    هيثم فاروق يكشف عيب خطير في نجم الزمالك.. ويؤكد: «الأهداف الأخيرة بسببه»    جامعة القاهرة تكرّم رئيس المحكمة الدستورية العليا تقديرًا لمسيرته القضائية    «لماذا الجبن مع البطيخ؟».. «العلم» يكشف سر هذا الثنائي المدهش لعشاقه    ما حكم من ترك طواف الوداع في الحج؟.. أمين الفتوى يوضح (فيديو)    خطيب الجامع الأزهر: الحديث بغير علم في أمور الدين تجرُؤ واستخفاف يقود للفتنة    ضبط تشكيل عصابي انتحلوا صفة لسرقة المواطنين بعين شمس    البابا لاون الرابع عشر في قداس احتفالي: "رنموا للرب ترنيمة جديدة لأنه صنع العجائب"    هل يجوز الحج عن الوالدين؟ الإفتاء تُجيب    رئيس الوزراء يؤكد حِرصه على المتابعة المستمرة لأداء منظومة الشكاوى الحكومية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بلد يجمع بين المتناقضات في هدوء وسكينة :أيام الشعر في السويد
نشر في أخبار الأدب يوم 20 - 09 - 2014

حرصت السيدة بويل علي اتساع مشاركة الشعراء السويديين ليمثلوا جميع الاتجاهات الفنية والأجيال المختلفة للشعر السويدي.
انتظمت الفعاليات في أكثر من مكان في المدينة، مثل المركز الوطني للفنون بوسط المدينة ومسرح الفنون الشرقية وقاعة خاصة تطل علي واحدة من أجمل القنوات التي تشق أحياء العاصمة استوكهولم، فالمعروف عن السويد أنها أرخبيل تحاط مقاطعاته بالمياه وبعض مدنه الكبيرة تقطعه عدة قنوات كما هو الحال في العاصمة، وأقيمت أيضا فعالية للقراءة بإحدي البواخر التي راحت تشق المياه الإقليمية السويدية طوال قراءة الشعراء لقصائدهم.
شوارع المدينة واسعة مقسمة لحارات، للدراجات وللسيارات ولباركينج، أماكن عبور المشاة تضم إلي جانب الإشارات الضوئية أخري صوتية لخدمة المكفوفين. اتساع الشوارع مع الالتزام بالنظام يخلق شعورا بهدوء المدينة وقلة عدد السكان رغم استمرار الحركة وعدم انقطاعها في معظم الشوارع ومعها ينشط العمل التجاري فتستمر المطاعم والمقاهي والبارات والمحال التجارية في العمل حتي الصباح، وسط المعمار المميز للبنايات السويدية التي تتمدد أفقيا ولا تعلو راسيا أكثر من ستة أو سبعة طوابق بواجهات ذات نوافذ وشرفات واسعة لا تشعرك بتقشف الزخارف بقدر ما تشيع جوا بالألفة والدفء الذي يفتقده السكان معظم شهور السنة.
الكاتب العراقي المقيم بالسويد رزاق عبود جاء إلي الفندق للترحيب بالشعراء العرب، فسألنا هل أعجبكم المكان؟ أجابنا بثقة: جدا. فعلق ضاحكا: هل تعلمون أن هذا الشارع الذي تقيمون فيه قد صنفته بلدية المدينة باعتباره أكثر شوارعها ارتفاعا في نسبة التلوث:؛ وبناء عليه فقد اتخذت عدة تدابير لحماية السكان منها قرار ينص علي عدم مرور العربات التي تنقل الجثامين إلي مقبرة المدينة عبر هذا الشارع. فتملكنا العجب لسببين: أولا إذا كان هذاأكثر شوارع المدينة تلوثا فكيف حال الشوارع الأخري؟ ثانيا حرص بلديات المدن هنا علي قياس نسبة التلوث في كل شارع لحماية المواطنين.
أخبرونا أن المدينة عاشت طوال ثلاثة أسابيع في جو من البرودة ومطر غزير بلا انقطاع، ثم فجأة كما نري شمسا مشرقة طوال نهار دافئ وليلا ذا برودة لا تمنع الناس من الخروج والسهر علي مقاهي الرصيف حتي الصباح. طوال النهار يتجولون بملابس خفيفة عبر الشوارع مستفيدين لأقصي درجة ممكنة من الشمس، مدججين بكل ما تحمله الشخصية الاسكندنافية من تحفظ يكفي معه القليل من التجاهل الهادئ للوجوه الأجنبية المستغرقة في تأمل السيقان والأكتاف الرشيقة حال قيادتها للدراجات أو تمددها علي مقاعد المقاهي أو الأرض المعشوشبة للحدائق العامة.
الإقبال المتزايد علي استعمال الدراجات من قبل المواطنين يقف خلفه ثقافة محبة للبيئة وتوجه عام من قبل الدولة التي أغرقت أرصفة المدينة بكم من الدراجات لها شارة ولون أسود مميز يستطيع المواطن أن يأخذ منها ما يشاء ويستعملها لقضاء مشاويره ثم يتركها في أقرب نقطة من نقاط تجميعها، هذا بالإضافة إلي من يفضلون اقتناء دراجة خاصة بهم.
الهدوء والنظام والسلوك المهذب مع مثالية الجو .. كلها أمور لم تفلح في إخفاء حالة التوتر السياسي التي تعيشها البلاد مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية، في كل الشوارع علقت صورا بالألوان لرجال ونساء بوجوه بهية حتي يحسبهم الناظر ممثلين أو عاملين في مجال الإعلانات، في المقابل منها صور أكبر حجما محاطة بإطارات ثقيلة وطبقة سميكة من الزجاج لوجوه رجال ونساء عاديين معظمهم قد تجاوز مرحلة الشباب وقد تعمد المصمم ان يضفي عليهم مهابة ووقاراً، كانت صورا بالأبيض والأسود ليست ملونة مثل المجموعة الأخري. أخبرنا السيد رزاق أن المجموعة الأولي تخص المتقدمين للانتخابات البرلمانية بينما الثانية صور لرجال ونساء من الغجر صممها نشطاء في مجال حقوق الإنسان ردا علي برامج اليمين المتطرف الداعية إلي طرد الغجر من البلاد والنزوع نحو كراهية الأجانب، وختم كلامه بضحكة وإشارة من يده نحو بعض صور من المجموعة الأولي حيث أضاف أحدهم بقلم أسود إلي الوجوه قرني الشيطان وشاربه النحيف المفتول، لم يفرق التشويه الساخر بين صورة رجل أو امرأة.
كعادة الشاعر الكبير طارق الطيب كان لمشاركته أثر طيب إنسانيا وإبداعيا؛ فقد عامل الجميع بأبوة وروح غامرة، اصطحبنا في صباح اليوم الأول إلي البلدة القديمة بشوارعها الضيقة ومبانيها العتيقة وميادينها الصغيرة الهادئة المأهولة أرصفتها بمقاعد ومناضد المقاهي، دخلنا كنيسة قديمة ذات معمار يتسم بالفخامة والخشوع، الكنيسة خالية إلا من بعض السائحين، نفس الدكك الخشبية بلونها البني الداكن التي رأيتها طفلا في الكنيسة القريبة من بيتي والتي لم أتمكن من الدخول وتأمل المكان لوجود حراسة مشددة عليها... الكنيسة التي سكنتني طويلا ولم تهدأ ذكراها إلا بكتابة قصيدتي "سوء تقدير" المنشورة بديواني الثاني "الحنين سلة المفقودات" والتي كتبت فيها عن العذراء الواقفة في صدر القاعة تميل بعطف علي صفين خاويين من الدكك الخشبية، ترسل نظرة عتاب لجندي الحراسة الواقف عند الباب إذ لم يفكر مطلقا في إشعال شمعة... أتجول في كنيسة البلدة القديمة باستوكهولم وأتذكر تلك الكنيسة البعيدة في ذاكرة الطفل المسلم، حتي اصطدم بشمعدان عملاق والأطفال حوله يأخذون الشموع من مكان قريب ويشعلونها قبل وضعها في الخانات الخاوية بالشمعدان العملاق، اسأل عن الغرض من إشعال الشموع فيجيبون: لأرواح الموتي أو طلبا لأمنية... فأردد في سري.. الله واحد، وأشعل شمعتين واحدة لصديق فارقني وأخري لأمنية شخصية عند الباب أجد دفتر التوقيعات فأكتب القصيدة بالعربية وأسفلها اسمي وبلدي بحروف لاتينية.
في الميدان القريب من الكنيسة يحكي لنا طارق الطيب قصة الاسم، ميدان الليلة الدموية، تلك الامبراطورية القديمة التي مكنت السويد من بسط نفوذها علي الدنمارك والنرويج وغيرها من أراضي اسكندنافيا، ولما تعالت الأصوات الداعية للانفصال داخل هذه الدول دعاهم الملك جوستاف الثالث لزيارته والتفاوض حول الأمر، ثلاثة ليال قضاها المفاوضون في المبني المطل علي الميدان الصغير، لا يلقون من الملك ورجاله إلا الترحيب والمودة وكرم الضيافة المبالغ فيه لينتهي الأمر في الليلة الأخيرة بتصفيتهم جميعا... مذبحة القلعة السويدية لم تنته نهاية مذبحة القلعة المصرية في وجدان الشعب بالإثارة ثم السخرية، بل قام السويديون بالتعبير عن أسفهم لتلك الجريمة بإدخال تعديل علي شكل المبني ، فطرزوا الواجهة الحمراء بصخور بيضاء بعدد شهداء المذبحة، ذات المبني الذي يقع علي اليسار منه نحو الأمام قليلا متحف جائزة نوبل. وكأن قدر هذه الأمة أن تجمع بين المتناقضات في هدوء وسكينة رواقية، مخترع الديناميت وصاحب أكبر سلسلة لمصانع الذخيرة في عهده هو نفسه صاحب أعظم جائزة للسلام. ميدان الليلة الدموية يتقبل الشارة الرمزية للندم بتسام كاف ليرفع من شأن الأمة وضميرها الجمعي. وفي الشوارع تعبر المفاتن الجسدية مكشوفة علي الدراجات دون التخلي لحظة عن ملامحها الجادة المتحفظة.
عندما تذهب إلي مدينة غريبة، ابق وعيك وحواسك في حالة تأهب، ليس من أجل المقارنات بينها وبين مدينتك؛ فأمر كهذا غالبا ما ينتهي نهاية بائسة، تجتر فيها مقولات مستهلكة من نوع لكل مدينة خصوصيتها أو فلنحكم علي الأمور عبر معاييرها الداخلية لا عبر معايير خارجية ... ابق وعيك وحواسك في تأهب من أجل مقارنة أخري بين حال المدينة طوال الأسبوع وحالها في الويك إند عطلة نهاية الأسبوع ... لم يزل الهدوء علي حاله، بطبيعة الأمور سيزداد الصخب في المقاهي وتنشط الحركة داخلها وحولها. رجال الشرطة لم يظهروا مطلقا لا في المطارات ولا علي الطرق ولا حول الأماكن الحيوية، تأكد أنه ما من أحد سيستوقفك مرتابا في ملامحك الشرقية ليسألك عن هويتك أو إلي أين تتجه. أخيرا تري ما يشبه رجال الشرطة في ليلتي العطلة، أمام كل مقهي أو بار مزدحم تري شابا قويا يرتدي زي العمل بشارة الشرطة يقف أمام الباب بجوار عربته الخضراء وما أمر آخر تلحظه ، في الصباح الأخير قبل الويك إند، في الساحات العامة وبالقرب من أماكن الترفيه واللهو تمتلئ الأرض هذا الصباح وطوال اليومين المقبلين ببطاقات صغيرة تشبه ورق الكوتشينة، لونها وردي غامق، لأن الوردي الفاتح يميز حالة أخري شديدة الخصوصية من حالات الترفيه، علي أحد الوجهين للبطاقة صورة شابة عارية وعلي الوجه الأخري عناوين وأرقام هواتف المحال التي تقدم ذلك النوع من الترفيه. تفكر.. لم البطاقات ليست موجودة علي طاولات المقاهي أو واجهات المحال كحال كل البطاقات الدعائية الأخري؟ لم هي ملقاة علي الأرض في حالة من حالات التبرؤ والتخلي عن نشاط من هذا النوع؟ وكأن لسان حال المجتمع يقول: من أراد أن يطأ ذلك ويمشي في طريقه فهذا حسن، ومن أراد أن ينحني ليلتقط البطاقة وينطلق إلي هناك فهذا أيضا شأن خاص لا علاقة لنا به. لم تكف المدينة عن اللجوء للحلول الرمزية في مواجهة ما ينال من روحها. نوبل الجائزة مقابل نوبل الهلاك، التطريز بالصخور البيضاء اعتذار أكثر من كاف علي مذبحة خسيسة، وإلقاء بطاقات الدعاية لأماكن الترفيه الجنسي علي الأرض يصنع من المدينة سيدة طيبة تنظر نحوك بثقة وتشجعك بأمومة: أعرف أنك ستطأ البطاقة بحذائك وتمضي للأمام. أما إذا انحنيت لالتقاطها، فستمنحك ابتسامة هادئة وتربت علي كتفك بحكمة وحنو من يعرف الضعف البشري وشغفه، تماما كما احترمت حيرتك ونظرتك المتسائلة أمام نساء يجمعن بين كشف المفاتن الجسدية وبين الجدية والتحفظ والتهذيب دون أدني حضور لبادرة خلاعة أو انفلات أخلاقي.
الرسم المالي لحضور القراءات الشعرية، لم يحل دون كثافة الجمهور وامتلاء المقاعد، كما لم يؤثر طول مدة القراءات في الاستمتاع بالشعر والحرص علي متابعة حديث كل شاعر حول تجربته، فقام الجمهور بمداخلات وإبداء ملاحظات هامة حول هذا الفن الذي طالما يشار إليه بأنه فن للنخبة وليس للعامة. جميع القراءات جاءت مصحوبة بترجمة للغة السويدية، وقد قام بترجمة النصوص العربية الشاعر والمترجم العراقي جاسم محمد ، وظهر بجلاء قوة عمله في استقبال الجمهور لقصائد الشعراء العرب وتجاوبهم معها.
أولي القراءات كانت بالمركز الوطني للفنون بوسط المدينة، أبرز قراءة قام بها الشاعر السويدي توماس تيدهولم الذي يجمع في نصوصه بين الشعر والنثر مع سخرية عميقة من مظاهر وممارسات تخص مجتمعه، فيسخر من أعضاء الحكومة ومركبات النقل العام التي ستبقي تفاصيلها في ذهنه بعد الموت لم لا؟ فهي مكيفة وقيمة التذكرة أعلي قليلا من سبع كورونات والسائق بالغ التهذيب يرتدي بذلة زرقاء مكوية.... بعد أن قرأ قصيدته الأولي بادرنا بالتصفيق فلمعت عيناه الذكيتان وجحدنا بنظرة عميقة وأطلق كلمة لا قاطعة في رفضه للتصفيق، ولما كررنا التصفيق بعد قصيدته الثانية جحدنا بذات النظرة وكأنه قرر معاقبة الجميع علي طريقته... فانتظر حتي بدأت أصوات التصفيق تهدأ تمهيدا للتوقف، لينطلق هو في تصفيق قوي أربك الجميع. سألته بعد القراءة لم ترفض التصفيق؟ فشد علي يدي في مودة مرددا: اسأل نفسك. معه حق، لم يكن الأمر يحتاج إلي سؤال، هر قرأ شعره باللغة السويدية التي لا يعرفها أغلبية من صفقوا له من الشعراء، لا يستحق الشعر منا أن نكذب في حضرته ولا أن نجامل أحدا.. وازداد احترامي له كما ازداد احترامي للمدينة التي ينتمي إليها.
في صباح اليوم التالي مر فريق العمل التليفزيوني بالقناة الأولي السويدية بأصعب وأخطر عملية تصوير من المؤكد أنه لن يعاين مثلها ثانية.، جلس الشعراء إلي مائدة طعام كبيرة مطلين علي إحدي القنوات في جزء هادئ من المدينة، ربما هذا الهدوء المشئوم هو ما شجع فريق العمل علي اختيار هذا اليوم لتصوير الشعراء والتسجيل معهم، بطبيعة الحال وقع اختيارهم علي التسجيل مع الوجه الأكثر إشراقا لثقافتنا العربية، الشاعر طارق الطيب، وما أن بدا العمل حتي انقسم العاملون إلي فريقين يجاهدان جهادا مريرا، الفريق الأول راح يطارد شاعرين من ثقافتين مختلفتين كانا يلهوان بالقرب من مكان التصوير، إذ قررا الاستفادة من عربة تسوق ملقاة بالقرب منهما، أحدهما يركب العربة والآخر يدفعه بكل قوة وسرعة علي طوال الطريق الخاوي بجوار القناة، ويتبادلان دوريهما في دأب لا حدود له وضجيج يصم الآذان. بينما الفريق الآخر يجاهد لمنعي من اقتحام مجال آلة التصوير للوقوف بجوار طارق حاولت إقناعهما أنني مصري مثله وشاعر مشارك في المهرجان لكن يبدو أنهم لم يكونوا يعرفون غير السويدية إذ لم أقتنع بأي مبرر آخر لجعلهم يمنعوني من التسجيل مع التليفزيون مثل طارق..
في طريقي إلي إحدي الندوات استوقني أمام الباب رجل ذو قامة مديدة وبنيان جسدي قوي، مد يده نحوي وقال: حمدا لله علي سلامتك أستاذ منتصر. فنظرت نحوه بسعادة: مصري؟ قال: نعم، وعرفني بنفسه، محمد سعيد يعيش بالسويد من اثني عشر عاما. أعتذر لضيق وقته ورتب معي موعدا في العطلة الأسبوعية، قابلته في الموعد مع صديق آخر مصري يقيم بالسويد اسمه أشرف جميل فايز. ياللمفاجأة مصريان صديقان يعيشان بالسويد ويكتبان الشعر.. حكيا لي الكثير عن حياتهما هنا، لمست داخلهما هما أصيلا وخوفا علي مصر، تحدثا بأسي كيف انقسمت الجالية المصرية بالسويد بعد العام الذي قضاه الإخوان في الحكم. وتحدثنا طويلا عن الشعر.. تشابه الأثنان في تفاصيل كثيرة مثل طيبة القلب والحب الصادق لفن الشعر كما تشابها في توقفهما عن الكتابة لسنوات ثم العودة بقوة إلي الشعر مع ثورة الخامس والعشرين من يناير.
بعد الانتهاء من ندوات الليلة الثانية، بينما نحن عائدون إلي الفندق عبر طريق طويل فضلنا فيه السير علي ركوب الباص للاستمتاع بشوارع المدينة، دار حوار حول الشعر والرواية، تحدثت عن رغبتي في كتابة رواية عن الحياة التي يعيشها حساب الفيس بوك والبريد الالكتروني وما شابه بعد موت صاحبها، وأشرت إلي رواية خوان مياس خوليو ولورا التي استخدمت حدثا مشابها لإكمال الحبكة لا كأساس لها في روايته. تنهد الشاعر النرويجي جونر فارنز وحكي عن صديق امتدت صداقتهما منذ الطفولة وكيف اعتزل الناس لإصابته بالسمنة مكتفيا بالتواصل مع الأصدقاء عبر الفيس بوك، وكيف ظل جونر يرسل له الرسائل والتعليقات بصورة يومية حتي اكتشف ذات يوم أن صديقه قد فارق الحياة منذ ثلاثة اشهر. صمت قليلا ثم قال أرسلنا نحن أصدقاءه الكثير من الرسائل لإدارة الموقع كي تقوم بإغلاق صفحته دون جدوي، وما زالت الصفحة موجودة ومفعلة حتي الآن.
بعد انتهاء المهرجان قضيت الليلة الأخيرة في انتظار سيارة أجرة تقلني إلي المطار، الساعة الثالثة والنصف صباحا بقي علي موعد السيارة ربع ساعة، أقف أمام باب الفندق بجوار الحقيبة أتأمل الشارع الذي لا ينام... حركة سيارات هادئة، بشر يدخلون ويخرجون عبر أبواب البنايات التي أحببتها والتي تذكرني بعمارة الإسكندرية في زمن مضي، إلي اليمين وقف شبان من الجنسين يتبادلان الكلام والضحكات، في داخلي أتمني أن يكون سائق السيارة عربيا، وبالفعل تبدو ملامحه لي كذلك بمجرد ظهوره... في الطريق إلي المطار يقدم نفسه.. كويتي يدرس علم النفس بجامعة استوكهولم، يحب الشعر مستمعا ومتذوقا وحافظا مع عجز تام عن كتابته.. ألقي أبياتا من قصيدة في مدح النبي صلي الله عليه وسلم. زوج وأب لأربعة أولاد. وعرض علي بكل مودة إذا أتيت لزيارة استوكهولم ثانية فلأصطحب معي زوجتي وأولادي ليتشارك الأسرتان وقتا طيبا. كنت أستمع لحديثه الطيب وعيناي تتأملان فجر استوكهولم الغريب بهدوئه المضاعف علي الطريق السريع إلي المطار، بأشجاره ... أشجار المناطق الباردة المتحفظة مثل ناس هذه المدينة ... تحفظ ودود لا يضيق بنظرتك ولا يحرمك حقك في المعاملة بتهذيب.من وجود لسلاح معه، هو فقط موجود لفض المشاحنات وحماية المواطنين من الأذي في حالة ما نشب شجار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.