سأبدأ هنا بالحديث بمدخل قد يبدو في الظروف العادية بديهيا، لكن في ظروف مصر الآن: فإن كل البديهيات تبدو في حاجة لمناقشة، نقول بل ومراجعات، بعد أن توقف ركبنا الثقافي، في مجالات عديدة (وخاصة الانفتاح علي التيارات الجديدة في العالم) منذ سنين وسنين. وأحب هنا أن أؤكد علي أن دعوتي بعودة المجلات التاريخية التي ذكرتها في المراجعات السابقة لا يعني أنني أدعو لأن تعود بنفس اهتماماتها السابقة، بل بالعكس، إنني أدعو لعودة دورها المؤثر في الثقافة العامة المصرية والعربية، بما يعنيه ذلك من تقديم ما يجري في العالم، ومصر، وبلاد العرب، الآن، وهنا، وعلي سبيل المثال، ففي مجال الفكر المعاصر مطلوب أن نعرف ماذا يجري من اجتهادات، ومدارس، جديدة ومؤثرة، (علي سبيل المثال دراسات التابع الهندية) وكذا ما يجري من تيارات الفنون المعاصرة، كالفنون المركبة، ورسوم الشارع، والسينما المستقلة، والفرق الموسيقية الشابة، وما يدور من اجتهادات هامة في العودة للتراث الفني الشعبي من منظور جديد، كما يجري من تطوير لخيال الظل، وصندوق الدنيا والحكواتي، الخ. في مجال القصة والرواية أظن أننا توقفنا طويلا عند نتاج الستينيات والسبعينات، وأعتقد جازما أن هناك نتاجا هاما منذ الثمانينات يصدر ويحتاج لنقد جاد ومسئول يبين الطيب من الخبيث والجاد من الهزلي، وهو نتاج غزير وممتد علي الساحة العربية والعالمية، وهو حقا وصدقا متروك للإهمال والعشوائية والتجاهل، وهذه جريمة لاتغتفر إلا بعودة هذا المجلات التي تصبح في هذه الحالة ضرورة عاجلة لتقييم هذا النتاج وتقديم الجاد منه وإلا فإننا نترك هذا النتاج الغزير والهام إلي الضياع. كما أن وجودها سيكشف عن نقاد جدد ودارسين جدد لا أشك في وجودهم، لكنهم لايجدون المنابر الكافية للظهور. وعليّ هنا أن أؤكد بأن هذه المطالبة بعودة المجلات التاريخية لاتعني إنكار دور المجلات الموجودة حاليا كمجلتي فصول وإبداع، لكن فصول ومنذ صدرت تحدد دورها باعتبارها مجلة محكمة أكاديمية الطابع سواء بمحتوي ما تنشره أو توقيت صدورها كمجلة فصلية، وهو دور مطلوب ومذكور، كما أن مجلة إبداع حددت دورها بجيل الستينيات والسبعينيات بحكم اهتمام رئيس تحريرها الشاعر الكبير الرائد أحمد عبدالمعطي حجازي، ما جعل الأجيال الجديدة تبتعد عنها لأنها لاتجد فيها نفسها، ولكن ما أود الإشارة إليه أنني أطالب بعودة - منظومة المجلات الثقافية "السابقة برمتها، حتي تعود مصر لدورها الثقافي الكبير الذي تربت عليه أجيال وأجيال من المبدعين، لا المصريون فقط، بل وأيضا العرب، كما أنها كانت منفتحة علي العالم وما يجري فيه من تيارات ومدارس، تابعتها وقدمتها لقرائها بكل حيوية وإخلاص. وأقول إنه حسب علمي فإن "إدارة المجلات الثقافية" لاتزال موجودة، ولكنها موجودة علي الورق، كما أن مقرات تلك المجلات لاتزال كلها، أو أغلبها، موجودة، لكنها للأسف مغلقة دون استعمال، أو أنها تستعمل، ومنذ سنوات طويلة، كمخازن للمكاتب والأجهزة والمعدات الزائدة عن الحاجة، أو تلك المحطمة التي تحتاج لتاجر روبابيكيا ليخلصها من الكراكيب. وللحديث بقية.