اعتدَلت .. تتفرس في وجهي ، والضوء خافت بحجرتها .. استعادت عيناها تلك الحِدة بعد جراحة إزالة الغمامة البيضاء . صمَتُ ، كما عودتني تلك النظرة عبر سنوات طويلة .. قالت بهدوئها الحنون : طيّرت النوم من عيني .. هو ما فيش غيرها .. هيباتيا .. هيباتيا .. روح نام علشان تحلم بيها .. واطفي النور وأنت خارج .. تتثاءب ، استدارت عني ثانية لتنام .. تغمغم : ماتت من ألفين سنة .. بس !! ده اتجنن .. ها تحلم بيها .. خارجاً .. التهبت حرارة الحكيْ .. فضَجّتْ أمي . لم أنم .. لن أحلم بها .. إرتجف الهاتف بإغنيتها "سأهمس بإسمك للأبد" .. صوتها يداعب نبضي .. فألهث ، رجفة عودة للحياة تسري مع كلماتها .. سأراها غداً . إحمرار الغروب يتكسر منبسطا علي الأمواج الهامسة .. فرغتُ من فنجان الشاي والتنصت علي الهمسات .. حلّ الظلام ، أغالب القلق والترقب .. غرّد طائر ليلي ، يبدو أنه كروان حائر .. حاولت ملاحقته بعيني .. مرق كشهاب .. لحظتها لمحتها تتهادي في الممشي ، تحوطها هالة الضوء الخافت يطل من بين شجيرات الممر .. تتمثل خطاها ، وعقصة شعرها .. هي .. هيباتيا ، مقبلة في أنفة وشموخ .. في ردائها الرقيق بثنياته الدقيقة .. كما في التمثال .. تؤكد الليلة أن الرداء كان وردي اللون ، بعد خلافاتنا حوله في صورة تمثالها في ذلك الكتاب الضخم عن الثورات .. ليلتها طفرت دموعها عند حادثة اغتيالها علي أيدي المتعصبين بعد خروجها من قاعة المحاضرات ، ولم يتمكن تلامذتها ومحبوها من إنقاذها من أيديهم .. أتأملها مبهوتا .. ، بصعوبة تكمل كلماتي أحاديثنا عنها : بس هي في التمثال كانت ماسكة لفات ورق بردي .. وفي قدمها صندال خفيف ، مش كعب عالي .. تضحك .. تجلس ، تبرق عيناها بطيف ساحر .. تسألني بتحفز : وحكيت عنها لماما .. مش كده .. قلت لها إيه ..؟ قول لي ممسكة بكفي .. أطراف أصابعها أيضا وردية .. تضغط بينما تزداد ابتسامتها اتساعا ، تضحك عيناها .. قلت لها الحكاية : زي ما قلت لك .. اتفقت معها أحكي لها حكاية قبل النوم .. ياما حكت لي حكايات زمان ودلوقت جه دوري .. وهيباتيا شغلاني .. تملأ حياتي .. حكيت لها عنها .. سرحت عيناها ، رمقتني بنظرة خاطفة .. قائلة : وقلت لها إيه بقي عنها ؟ .. عن ست هيباتيا بتاعتك .. ياريتها بتاعتي .. ده طيفها .. ويظهر لي شوية دقايق .. تتلاقي أعيننا .. لحظات في حلم .. فرحة بادية في عينيها.. تهربان إلي مراقبة الأمواج الهامسة .. تملؤني الحيرة ، تعودان إليّ ، باسمتان .. تحذرني : مش ها تقول لي ؟ .. قلت لها إن جمالها وروحها حوالينا .. وفكرها وعلمها .. وأقابلها أحيانا .. ضجّت مني، صاحت "من ألفين سنة ..؟" .. ارتفعت ضحكاتها .. يتألق جمالها .. تري كيف كانت تضحك هيباتيا .. ابتسامتها غامضة في التمثال البديع ، ناصع من المرمر المبهر .. نحته مثال مجهول ، بدا من تفاصيله انه متيم بها .. يبدو انه أخفاه أثناء الثورة عن أعين المتعصبين ، بعد أن احرقوا المكتبة وقاعة المحاضرات التي كانت تتألق فيها .. تنشر النور .. انتزعوا روحها .. ليبقي الظلام .. .. لكنها هنا معي .. الآن .