عندما سألت الروائي أشرف الخمايسي عما إذا كان قد تعجل في إصدار روايته "انحراف حاد" بينما روايته الشهيرة "منافي الرَّب" لا تزال تعيش ذروة توهجها، وتحتل مكانها في قوائم الأكثر مبيعًا لدي العديد من المكتبات الشهيرة بالقاهرة، أجابني بأن ظرفا بعينه دفع ب"انحراف حاد" للصدور في هذا التوقيت بالتحديد. فطلبت منه التوضيح، خاصة وأنني أحسست في نبرة صوته تحدياٍ ما، ممتزجة برنة أسي، قال: "البوكر"! اندهشت، لأنني أعلم أن هذا الروائي هو آخر من يمكن أن يكتب للحاق بجائزة. وكأنه علم بما يدور ببالي فاستدرك مبتسما: لا..لا أنا لم أكتبها لتلحق بالبوكر هذا العام، وإنما جاء ذلك رد فعل لتداعيات "بوكر" 2014. كان أشرف الخمايسي، قد أعلن علي حسابه الفيسبوكي، بعد انتهائه من كتابة "منافي الرَّب"، أنه كتب الرواية الأروع في تاريخ الأدب العربي، وأن هذه الرواية يجب أن تحتل مكانتها في الأدب العالمي، وإنها الرواية التي، إذا دخلت أية مسابقة، فيجب أن تظفر بالمركز الأول! وعندما تقدم بها ناشرها إلهامي بولس ل "البوكر"، ظهرت فعلا في القائمة الطويلة، ويصر الخمايسي في كل حوار صحفي، أو قعدة علي مقهي، علي القول إنه الحائز علي"البوكر" في تلك الدورة، حتي بدا الأمر مرضيا تماما، عندما أعلن عن استعداده لتنفيذ طقوس الفرحة، وأنه سيقفز من فوق كوبري قصر النيل ابتهاجا بهذا الفوز الذي لم يشك في استحقاقه له لحظة واحدة. بدا الأمر وكأن الخمايسي قد علق كل مستقبله بهذا الفوز. وقد لمس أحد نقادنا الشباب، الدكتور ممدوح النابي، خطورة هذه المغامرة في بورتريه رسمه له بقلمه علي صفحات إحدي الصحف اللندنية، عندما أشار إلي أن الجميع توقعوا انهياره بعد خروج "منافي الرَّب" من القائمة القصيرة للبوكر، وأنه سيرتاد الحانات ليسكر سكرٍا مفرطٍا هربا من هزيمته، أو سيعود لحالة غياب جديدة وطويلة، ربما لا يعود منها للإبداع مرة أخري. وعزز هذا التصور اختفاء الخمايسي عن حسابه الفيسبوكي؛ هذا الحساب الذي لم يكن يتوقف أبدًا عن نشر آرائه المثيرة للصخب والضجيج، ليسود الهدوء، وتترعرع التنبؤات بأن الانهيار المتوقع قد تم فعلا. ولم يستمر هدوء الحساب الفيسبوكي لصاحبنا أكثر من شهرين ليعود بعدهما بالخبر المفاجئ: الانتهاء من كتابة رواية جديدة بعنوان "لن تستطيع الصبر"، وتعاقده علي صدورها قريبا عن الدار المصرية اللبنانية. الملحوظة ذات الدلالة، هي أن إعلان الخمايسي الانتهاء من كتابة هذه الرواية الجديدة جاء مواكبًا لإعلان "البوكر" عن اسم "السعداوي" كفائز أول بروايته "فرانكشتاين في بغداد". أخبرني الخمايسي بأن الخبر بهذه الصياغة، وفي هذا التوقيت، كان مقصودًا تماما، لتوصيل عدة رسائل لأكثر من جهة؛ فهو يقول لمن ظنوا أنه هش، للدرجة التي تؤثر فيه نتيجة جائزة أدبية، مهما علا شأنها، إنه ليس كذلك، بل أقوي كثيرًا، وإنه لم يكن ملقي في أحد بارات وسط القاهرة يلعق بالسكر جراحه، وإنما كان مرتبطا بمكتبه، في بيته، يشيد صرحا روائيا جديدًا، وأن هذه الرواية ستصدرها إحدي أهم كبريات دور النشر المصرية التي تعاقدت معه، وإنه، في الوقت الذي ستعلن فيه "البوكر" اسم الفائز بها، لن يكون متفرغا للحزن، وإنما منشغلا بفرحة زفاف "انحراف حاد" إلي الواقع الروائي العربي. معني هذا أنه كتب روايته الجديدة، التي صدرت مؤخرًا في 400 صفحة، في نحو شهرين فقط، وهو الفاصل الزمني ما بين ظهور القائمة القصيرة للبوكر والإعلان عن اسم الفائز الأول بها، وهو الذي أخبرني، قبل ذلك، بأن قصة قصيرة واحدة تستنزف من عمره ستة أشهر تقريبا كي ينتهي منها! كشف لي أشرف الخمايسي عن أحوال كتابة هذه الرواية، موضحا أن تغيير العنوان إلي "انحراف حاد" لم يكن، كما يمكن تصوره، لمجرد ارضاء الناشر الجديد الذي رأي أن العنوان الأول لا يساعد علي توزيع الرواية، وإنما تدخل قانون العدل ليمنح الرواية العنوان المعبر عنها بصدق، وعن كل الظروف التي أحاطت بها حتي تمام اكتمالها. يقول: تدور فكرة هذه الرواية حول إمكانية توصل الإنسان إلي الخلود بواسطة قدراته الخاصة، تمثل انحرافا حادًا، فالشخصية الرئيسة لنبي، يدعي "صنع الله"، دعوته حث الناس علي الخلود، وهزيمة الموت، حقيقة لا مجازًا، عبر إنكار وجود يوم القيامة، والملائكة، والشياطين. الرواية تدور داخل "ميكروباص" ينحرف بركابه، أثناء رحلته من القاهرة إلي أسيوط، انحرافا حادًا مهلكا. الأبطال، جميعهم، يتعرضون في مراحل حياتهم المختلفة إلي انحرافات حادة. ويستدرك: كما أنني، ولأول مرة، آتخذ قرارًا بالإنتهاء من كتابة ما خلال وقت محدد، وأن أجلس لأكتب عددًا معينا من الكلمات كل يوم، لا أقل عنه، بأي حال من الأحوال، أيضا حذفت أكثر من خمسة آلاف كلمة بعد كتابتها، مع أنني في روايتي: "الصنم"، و"منافي الرَّب"، لم أحذف حرفا واحدًا مما كتبت، وهو ما مثل انحرافا حادًا في طريقة الكتابة. كما أنني، ولأول مرة، أومن بأن الإبداع ليس وحيا من السماء علي المبدع أن ينتظر هبوطه، وإنما هو وحي القلب، وقتما تستفزه يستجيب. ولا ينكر الخمايسي أنه كتب ربع روايته "انحراف حاد" قبل الشروع في كتابة "منافي الرَّب"، وثلاثة أرباعها كتب في شهرين. كان من العدل فعلا أن يختفي العنوان الأول "لن تستطيع الصبر" لصالح العنوان الأخير "انحراف حاد". في هذين الشهرين اختفي أشرف الخمايسي، أو كاد، كنت أعرف أنه يكتب، وعبر الهاتف، خلال مكالماتي العديدة معه كنت ألمس قلقه الشديد، فقد كان يبني روايته الجديدة في ظل سطوة "منافي الرَّب"، التي حققت انتشارًا واسعا، ولاقت قبولا نقديا تمثل في هذا الكم اللافت من المقالات النقدية، كما راقت لأذواق القراء علي أشهر المواقع الإلكترونية المتابعة لما تصدره المطابع من كتب، وكان قد أخبرني، من قبل، أن صديقا، فلسطينا، علق بعد انتهائه من قراءة المنافي، قائلا: ماذا يمكن لأشرف الخمايسي أن يكتب بعد "منافي الرَّب"؟!. كان بين شقي الرحي؛ فقد قال لي: لا أحب أن أكون ضحية "منافي الرَّب"، سأنحرها ب"لن تستطيع الصبر". لم يكن العنوان قد تغير بعد. عليه إذن أن يتخلي عن سحر اللغة الذي فجرته روعة الصحراء، وبساطة حكمة أهلها، عليه أن يسافر إلي فكرة جديدة، تحثه علي تجديد نفسه، كي يكتب رواية مغايرة لها عالمها الخاص الذي يدفع بها بعيدًا عن مجال المقارنة ب"منافي الرَّب". قال ملخصا مأزقه: علي ألا أكرر خطأ الدكتور يوسف زيدان، عندما كتب "النبطي" بعد "عزازيل". ولا أحب أن أكون المبدع صاحب الرواية الوحيدة. قلت له إن روايتك الأولي "الصنم" رواية بديعة أيضا، ومجموعتيك القصصيتين: "الجبريلية"، "الفرس ليس حرًا"، منتجك هذا هو ما دفعني إلي فكرة إعداد كتاب "هدير السرد" عنك قبل أن تكتب "منافي الرَّب". وفاجأني بالكشف عن جانب آخر لقلقه، ألا وهو "قائمة الروايات الأكثر مبيعا"! يقول: يجب أن نجيد التعامل مع هذا الطارئ علي الساحة الثقافية في مصر؛ فبعض روايات مجموعة من الكتاب الشباب سببت حراكا كبيرًا، وصار هناك قارئ يهتم بشراء الرواية، لا أنكر أنه قارئ صاحب ذائقة تألف الخفيف، المشوق حتي لو كان علي حساب القيمة الإبداعية المتمثلة في سلامة اللغة، ونصاعة الأسلوب، وقوة البناء واحكامه، والفكرة الخلاقة. لكن هذا بالضبط ما يمثل تحديا كبيرًا لي، إذ كيف يمكن لي كتابة رواية خفيفة، مشوقة، تتوفر فيها، في ذات الوقت، كل مقومات الإبداع الحقيقي؟ وعندما سألته عما إذا كان قد نجح بروايته "انحراف حاد" في تحقيق هذه المعادلة الصعبة، هز رأسه هزة رضا، وقال بثقته المستفزة: إذا بدأت قراءتها فإنك لن تتركها قبل كلمة النهاية، وإذا ما تركتها لسبب قهري فلن تصبر حتي تعود إليها. ألمس حجم مبيعات الرواية، فرغم أن شهر رمضان المبارك لم يكن مناسبا لقراءة الروايات، إلا أن طبعتها الأولي نفدت خلال أسبوعين من تاريخ صدورها، واحتلت مكانها كأفضل الروايات مبيعا في مكتبات "ألف"، و"تنمية"، و"عمر بوك ستورز". بينما يتلقي الخمايسي آراء أصدقائه من الكتاب والقراء بفرح أستشعر نقاءه أثناء المهاتفات التي تدور بيننا. أقرأ، الآن، "انحراف حاد"، ومع كل فصل أتذكر أنني، عندما أراهن علي هذا الروائي المبدع، أضمن أنني صاحب رهان لا يخيب.