بدأنا حملتنا لإنقاذ القاهرة التاريخية منذ أكثر من عام بعد أن لاحظنا سرعة الخراب الذي حل بالمدينة القديمة نظرا للمرحلة الاستثنائية التي عشناها و حالات الانفلات الامني في كل أوجه الحياة في مصر. وقد انضم إليها اليوم عدد كبير من المهتمين و الدارسين و المحبين لهذه المدينة خاصة بعد أن تبنتها مكتبة القاهرة و جريدة الأخبار حيث قمنا معا بتقديم بلاغ إلي النائب العام مطالبين فيه بسرعة التحقيق في هذا الاعتداء الغاشم علي تراث الوطن. فقد طالت الفوضي مدينتنا التاريخية، التي أصبحت مرتعا للصوص والبلطجية: فأصبحنا نسمع عن سرقات لعناصر معمارية من آثارنا الإسلامية كنزع لحشوات المنابر من العاج و الابانوس أو خلع حشوات نحاسية مزخرفة من علي الابواب الرئيسية للمدارس والجوامع أو سرقة الشبابيك النحاسية للأسبلة التاريخية, وأيضا سرقة النصوص التأسيسية التي تزين أعلي المنابر أو في بعض الأحيان من علي الواجهات. وقد رصدنا في حملة أنقذوا القاهرة ما يقرب من 25 سرقة وقعت في السنوات الماضية، فقد تكاثرت هذه السرقات بشكل مرعب في الآونة الأخيرة حتي طالت في شهر يونيو الماضي فقط ثمانية جوامع أثرية. و لم تسلم الجوامع الكبيرة من هذه السرقات فقد تطاولت أيدي اللصوص لتشمل أيقونات العمارة الإسلامية المتمثلة في جامع ابن طولون و مدرسة السلطان حسن و السلطان برقوق و المجمع الجنائزي للسلطان قايتباي. مؤخرا استطاعت الشرطة الايقاع باحدي هذه العصابات إلا اننا لا نعلم بعد لحساب من يعملون؟ و لكن المدينة القديمة ليست فقط مباني أثرية مسجلة فهي تحوي في المقام الأول نسيجا متجانسا من العمران يجاور هذه الآثار. هذا النسيج المتميز لم يسلم من البطش، حيث اننا وفي كل زيارة كنا نلحظ عمليات الهدم الموسعة التي طالت بيوت المدينة القديمة والتي كانت تعد معلما من معالم هذه الاحياء التراثية. وتم بناء محلها أبرجمهولة تشذ معماريا عن طراز المنطقة الأصيل إلي جانب كونها في معظم الأحيان لا تراعي القوانين و اشتراطات البناء الخاصة بالمنطقة التاريخية و غالبا لا يستخرج لها التراخيص اللازمة للبناء. وقد تسارعت وتيرة الهدم بشكل مرعب مما عكر في شهور قليلة سماء المدينة التاريخية و خاصة منطقة الدرب الاحمر التي اصبحت تعج في كل شارع و كل حارة بهذه العقارات المخالفة والتي وصلت ارتفاعاتها احيانا الي 12 دورا،مع العلم ان القانون يسمح بدورين أو ثلاثة علي الأكثر فوق الأرضي. وفي غفلة من الزمن، تحولت مدينة الالف مئذنة الي مدينة الألف برج. تبدل تراث المدينة المعماري الذي كان يميز هذه الاحياء التاريخية وتحول إلي سيمفونية من النشاز العمراني مثل تلك التي نراها في المناطق العشوائية التي اختنقت بها جميع المدن المصرية. وفي بعض الأحيان كانت تحدث هذه الكوارث بمسمع و مرأي المسئولين، مثلا من أولي الحالات التي لفتت انتباهنا لخطورة الوضع وبداية عمليات الهدم التي تسهم بسرعة في اختفاء ذاكرة القاهرة التراثية، كان عندما هدمت حفيدة الشيخ عبد الرحمن قراعة في 25 مايو 2013، بوابة بيت جدها القديمة و الذي كان يقع في شارع باب الوزير بالدرب الأحمر. و الشيخ قراعة هو مفتي الديار المصرية في عصر الملك فؤاد الأول ( 1921-1928) و بيته كان من معالم المنطقة في جوار أثرين مهمين بالشارع و هما بيت الرزاز و جامع ام السلطان شعبان. فقد استخرجت الحفيدة ترخيص هدم، و دكت البوابة بكل سهولة، والتي كانت تعد مثالا رائعا لطراز المنطقة التاريخية كما هدمت العقود القديمة المتبقية في الحوش التي غالبا ما كانت ترجع إلي العصر المملوكي. وقد باءت كل محاولاتنا لشراء أحجار هذه البوابة بالفشل فأخذنا نساوم مقاول الهدم بعدها من أجل شراء احدها خاصة المنقوش منها. لكن الأدعي اننا اكتشفنا ان هذه البوابة لم تكن مدرجة علي قوائم التراث المعماري المتميز الذي تعكف محافظة القاهرة بالتعاون مع جهاز التنسيق الحضاري علي إصدارها. أذا في النهاية لم تخالف حفيدة الشيخ قراعة القانون، بل إنها ربما تكون الوحيدة التي احترمت ارتفاعات المباني في المنطقة، ولكنها بالنسبة لنا قد هدمت احد العناصر الرائعة والمتميزة في شارع باب الوزير والتي كانت تعد مثالا فريدا لعمارة القرن ال19 كما أنها غيرت من صورة الشارع الذي قبع علي هذه الشاكلة في أذهان أجيال متعاقبة. وقد صدمتنا تصريحات المسئولين بعدها عندما واجهتهم كاميرا برنامج هنا العاصمة بآثار الهدم لما كان يعد يوما تراثا معماريا، حيث صرح المسئول عن مشروع القاهرة التاريخية السيد محمد عبدالعزيز أن البناء المهدوم هو مبني عادي وليس أثريا وحاصل علي تصريح الهدم.. وعمليات الهدم لم تؤثر علي آثار المنطقة. وهنا كانت الصدمة! هل التعامل مع المدينة التاريخية يكون بالحتة؟ هذا أثر و هذا ليس أثرا؟ ألا تعلم وزارة الآثار ان القاهرة التاريخية مدرجة علي لائحة التراث العالمي ليس فقط لان بها هذا الكم المدهش من الآثار الاسلامية و القبطية و اليهودية بل لانها تعد نموذجا متميزا و فريدا للعبقرية الانسانية و لانها تعتبر مجتمعا انسانيا تقليديا لثقافات متعددة في بيئة أصبحت هشة أي دمار فيها لا رجعة فيه، أم ان الوزارة لا تعلم انها أدرجت لجمالها و أهميتها الاستثنائية. هل قرأتم كلمة أثر في أي من هذه البنود التي علي أساسها أدرج اليونسكو في عام 1979 مدينتنا التاريخية علي لائحة التراث الانساني؟ لا! اذا هناك خلل واضح في المنظومة المؤسسية فالجهة المنوط بها الحفاظ علي المدينة التاريخية و هي وزارة الآثار لا تتعامل مع المدينة و لا تهتم بما هو ليس مدرجا علي قوائمها كأثر بل و انه حين أراد بعض العاملين بهذه الوزارة التدخل من أجل انقاذ هذا التراث الانساني المتميز خاصة بعد أن دمرت حارات بأكملها و تطاولت الابراج المخالفة لتصبح في محاذاة المباني الأثرية لم يسعهم الا تحرير المحاضر و مخاطبة الشرطة و المحافظة، أي أن الوزارة وجدت نفسها مكتوفة الأيدي حيث أنها ليست المسئولة عن النسيج العمراني للمدينة التاريخية! إذا من المسئول؟ عندما حاولنا الرد علي هذا السؤال وجدنا انفسنا أمام معضلة كبيرة. فحتي يومنا هذا و بعد مرور خمسة وثلاثين عاما علي وضع القاهرة التاريخية علي لائحة التراث العالمي، لا يوجد مسئول واحد يري المدينة ككل ويتعامل معها بمجملها ويخطط لها، بل علي العكس فقد تشتتت الجهات وتعددت وتاهت بينها المدينة القديمة. فوزارة الآثار مسئولة عن الآثار فقط ولكنها تتشارك المسئولية مع وزارة الأوقاف عندما نكون أمام جامع تقام به الشعائر أو مملوك للأوقاف و هي الأغلبية العظمي من المساجد و المدارس الأثرية. كما قسمت المدينة بين احد عشر حيا و نائبين للمحافظ ولا ننس أن نضيف أيضا الدور الذي يلعبه جهاز التنسيق الحضاري التابع لوزارة الثقافة فهو المسئول عن وضع الاشتراطات الخاصة للبناء و الهدم في المدينة. لذا تراءي للحملة أن تكون أول مطالبها لمحافظة القاهرة وهو الوقف الفوري لجميع أعمال الهدم و البناء في القاهرة التاريخية لحين حصر المخالفات وتقييم للوضع الكارثي التي وصلت اليه المدينة حيث إن ذلك هو أهم ما يستوجب عمله. لذا قمنا بعمل وقفة احتجاجية أمام ديوانها في عابدين في يونيو 2013، و في جميع تصريحاتنا الصحفية و التليفزيونية كان دائما هذا هو المطلب الوحيد، إلي ان استجابت جزئيا المحافظة باصدار قرار مؤخرا ألا يتم الترخيص بهدم أي مبني في المدينة القديمة بدون الرجوع للمحافظ شخصيا، ذلك بعد أن فقدنا في احدي الليالي ربع مبني في جوار جامع وسبيل قجماس الاسحاقي (أبو حريبة) أو جامع الخمسين جنيه و الذي كان يتميز بشبابيكه الطويلة الناتجة عن التنظيم في أوائل القرن التاسع عشر والذي كانت يشترط هذه الشبابيك في بناء المنازل بدلا من المشربية لكي يدخل النور والهواء إلي البيوت وبالتالي يتم رفع المستوي الصحي للمنزل المصري. هذا المبني البسيط كان شاهدا علي تاريخ مصر الحديث و اهتمام الدولة بتنظيم المدن و مراعاة صحة قاطنيها علي عكس ما يتم بناؤه الآن من مقابر سكانية لاتدخلها الشمس أو الهواء. بالطبع قرار المحافظ يعد خطوة حميدة ولكنه مازال ينتظر التصعيد من أجل وقف جميع العمليات هدما كانت أم بناء حتي لا تصدر التراخيص ثم نفاجأ بهذه البنايات الغريبة في سماء المدينة. لذا فنحن ماضون في مطلبنا إلي ان يستجيب لنا المحافظ. الجدير بالذكر أنه أخذ علي عاتقه البدء فعليا في عمليات إزالة المخالفات التي تمت في الآونة الأخيرة. كما شكل رئيس الوزراء الحالي المهندس إبراهيم محلب لجنة وزارية خاصة رقم 627 لسنة 2014 مكونة من تسعة وزراء يترأسهم وزير الآثار للعمل علي عدة مهام من أجل حل مشاكل القاهرة التاريخية. وقد تم ضم مؤخرا محافظ القاهرة لهذه اللجنة. لكن السؤال الآن ما الذي قامت به هذه اللجنة منذ تشكيلها وحتي الآن؟ ولما لا يترأسها رئيس الوزارء بنفسه؟ أيضا ما الخطط الموضوعة من أجل التصدي لهذا التعدي الصارخ علي المدينة التاريخية؟ هل سنكتفي بالازالة ؟ ام أن الوضع يحتاج إلي أكثر من ذلك؟ ومن المسئول عن ملف هذا الموقع التراثي العالمي؟ وهل ستنجح الحكومة المصرية بتحضير الملف المطلوب منها من قبل اليونسكو وتسليمه في الميعاد (فبراير 2015 ) و الذي من المفترض ان يستعرض بوضوح خطة الدولة للحفاظ علي القاهرة التاريخية؟ أم أن اليونسكو سينفذ تهديده و سيدرج مدينتنا علي لائحة التراث المهدد. هل نخسر قاهرة نجيب محفوظ و الليلة الكبيرة بلا رجعة؟ أما سنهب جميعا لانقاذها ماذا نحن فاعلون؟ بداية ليست هكذا تدار المدن التراثية يا سادة فكفانا عبثا و كفانا تقسيما للمسئوليات بين الجهات. إذا أردتم فعلا إنقاذ ما تبقي من تراثنا الانساني في المدينة التاريخية اوجدوالها صاحبا. نريد إدارة موحدة فاللجان الوزارية لن تأتي بالجديد ولن تفلح هذه الجهود الحكومية الشكلية في إنقاذ المدينة التاريخية. يجب علي الحكومة المصرية أن تعي الدرس و أن تراقب كيف استطاعت المدن الأخري العربية قبل الاوروبية الحفاظ علي مكوناتها التاريخية. ويجب علينا نحن قاطني هذه المدينة العريقة ان نتكاتف و نعمل معا علي إعادة رءوس الأموال ثانية إلي المدينة بعد أن هجرتها منذ عقود عديدة. أنقذوا القاهرة التاريخية! Figure1 بوابة بيت الشيخ قراعة قبل الهدم تصوير محمد الشاهد Figure2 بوابة بيت الشيخ قراعة بعد الهدم تصوير أحمد حامد Figure3 ربع أبو حريبة الذي تم هدمه تصوير أمنية عبد البر Figure4 سبيل قجماس الإسحاقي و الربع تصوير هيثم صلاح