وجدت نفسي في طابور ليس كأي طابور ذكرني بقصة يوسف الشاروني "الزحام" حيث يصف هذا الكاتب المذهل انزلاق شخص بدين إلي داخل طابور عشوائي منضغط، ليصعد اتوبيسا مكتظا أصلا عن تمه. كان اليوم هو السابع من يوليو. أول قبض للمعاشات في السنة المالية الجديدة حيث يتوجب علي "أرباب" المعاشات التواجد شخصيا لإثبات أنهم ما زالوا علي قيد الحياة فلا يسمح لهم بصرف معاشاتهم من ماكينة البطاقة الذكية المستحدثة. من يقفون في هذا الطابور هم بالطبع أصحاب المعاشات المتواضعة جدا و بالتالي ينتمي معظمهم إلي الفئة التي نطلق عليها "الغلابة" من "الغلب" الذي نحيله في العادة للفقر. لكن هذا لا يمنع أن هناك من الفقراء من هو مفتري، و من الأقل فقرا من هو مفتري عليه من قبل تلك الفئة المفترية. فالفقر في النهاية هو الفقر إلي الله و الفقير لله قد يملك مال قارون و غير الفقير لله قد ينطبق عليه ما يقال مجازا عن فرعون موسي. الفقر في حد ذاته لا يجعل الانسان طيبا وكذلك الغني بالطبع. كنت أتابع الطابور الذي لا يبدو أنه يتحرك إطلاقا عندما لا حظت سيدة عفية عالية الصوت تحاول أن تأخذ بعافيتها المفتولة العضلات مكان أخري يبدو عليها المرض و الارهاق فقررت التدخل. المدام اللي في الطرحة التيركواز جت قبل حضرتك قلت. رمقتني العفية المستعفية بنظرة غاضبة لكنها تنحت و شكرتني ذات الطرحة التيركواز. وجدتني بعد برهة أنبه سيدة أخري أن تلك التي كانت تتأهب لتأخذ مكانها واقفة هنا من قبلي بما لا يقل عن الربع الساعة. حضرتها جت قبل حضرتك يا فندم بما لا يقل عن ثلث الساعة. فعلا صوتها و راحت تقسم بالله العظيم مرة و الثانية. نبهتها إن هي أقسمت مرة ثالثة فإن العاقبة ستكون وخيمة. و كأني وضعت أصبعي علي مكان الضمير من قلبها فوجمت و تركت مكانها دون أن تنبس. لما نظرت علي الدكة وجدت أربع نساء متشحات بالسواد يجلسن في صمت المستكينات لقدرهن لا يتململن و المستقويات العفيات يتقدمن. المهذبات غير المستعدات للعراك تأخذ أماكنهن نساء تعلمن أن الدنيا تؤخذ بلطجة و غلابا و كل أدبيات أنا و بعدي الطوفان. كانت الموظفة الشابة رابطة الجأش تخدم من يصل للشباك في ثبات و حرفية دون أن يعلو لها صوت و كانت تخدم في الواقع طابورين و علي وجهها استسلام المؤمنين بالقدر. طابور للنساء و طابور للرجال و كان طابور الرجال أطول كثيرا. فكانت تخدم رجلا ثم امرأة بالتوالي. و ان كانت مشادات الرجال تعلو بين حين و آخر فيلتبس الأمر. من حين لآخر كانت احداهن تخرج و تقول لأخري أن "تحجز" لها مكانها في الطابور. لكن المكان لا يفرغ ولا يبدو أن أحدا يخرج علي الرغم من استمرار وفود آخرين. هنا تملكني الفضول و قررت علي نحو واع أنني لن أترك المكان حتي أفهم سر عدم قيام الناس علي بعضهم ضربا و ركلا و ربما حتي قتلا. الكل متفق علي أن هناك طابورا حتي أن البعض مستعد للعراك في سبيل مكانه في هذا الطابور. الطابور لا شكل له في الواقع و ينزلق من وسطه أناس يريدون خدمات أخري وراء شبابيك أخري، ورغم الزحام الهائل يصرون علي الدخول حشرا بين كل تلك الأجساد التي كان الكثير منها يسد عين الشمس. تنحيت جانبا ووقفت أشاهد المشهد لأستوعبه. كان فوضي تامة يتغلب فيها القوي المستعفي علي الضعيف المستكفي بالصبر. و كانت مصر كلها ممثلة هناك يومها. سيدة ذبلت و لم يذبل جمالها قررت أنها كانت تقف هنا منذ التاسعة و النصف في لكنة بورجوازية مصطنعة بعض الشيء لكنها تعبت فقررت أن تذهب للجلوس في سيموندس و تعود و أنها ما وقفت هذه الوقفة البشعة إلا لأن أولادها في انتظار نصيبهم من المعاش، ثم نظرت حولها و أحكمت حجابها و أخرجت منديلا وضعته علي أنفها مما استاءت له بنت بلد جميلة فقلت للجميلة أمازحها "معلش" في ناس تعبانة، فردت "ما كلنا تعبانين" فقلت: "في ناس تعبانة أكتر" و فهمت قصدي فضحكت. هنا كانت امرأة صعيدية تحاول زق سيدة لا تتأفف و تهوي علي وجهها بمروحة يد. تدخلت مرة أخري فكادت تشتبك معي: "انتي مالك انتي، أنا كنت هنا قبلها" فقلت مازحة: "اللي بيكدب بيروح النار". و آزرني رجل كان دوره اقترب. فتح فمه و رسم حروف كلمة "كدابة" دون أن ينطقها عاليا. فابتسمت "الكدابة" خفيفة الظل و أفسحت الطريق لسيدة المروحة ذات الطرحة الصفراء. تقدمت السيدة وانهت مهمتها و في لفتة كريمة مدت لي يدها بالمروحة و أعطتني إياها فقبلت رأسها شكرا و ابتسمت ابتسامة عذبة و خرجت. و نظرت نساء "الطابور" بعضهن لبعض نظرات طيبة. كانت الطاقة في المكان قد بدأ يتحول نوعها. من صراخ و عافية و زق و ادعاءات بالأولوية إلي حس عال بالفكاهة و عبثية الموقف و مع هذا، كان كل من كان ينوي تخطي الطابور يفعل ما في وسعه ليتخطاه. هنا تنبهت انني قد نجحت إلي حد ما في تغيير أسلوب التعامل باتخاذ موقع مسئوليات يفرضها موقع المواطنة . لاحظت كذلك أن لي قدرة علي تذكر من كان يقف أمام من و من جاء بعد من و كانت ألوان "الطرح" دليلي. كان ذهني مشغولا طوال الوقت بكم العمل غير الانساني الملقي علي الموظفة الشابة وراء شباك المعاشات. كنت أحاول كذلك أن أجد مبررا يعقل لفصل طابور الرجال عن طابور النساء. فوجود طابورين و موظفة واحدة غير منطقي فهو و لا شك يبطيء ولا يعجل من عملية الصرف. و بما أن الجمهور من غير "أرباب" المعاشات كان مسموح له "بالحشرة" وسط جموع النساء فلا يمكن أن يكون السبب محاولة لتفادي احتكاك الأجساد. مرة ثانية خطر لي يوسف الشاروني وقصته البديعة "نظرية الجلدة الفاسدة". من الممكن أن تصرف الحكومة مليارات الجنيهات لتوفير خدمة طبية ممتازة للجمهور لكن لو كان هذا الجمهور علي استعداد لرشوة الطبيب و دفع ثمن في دواء يوفر بالمجان انهارت الخدمات الصحية. و هو ما ينطبق علي كل خدمة تقدمها الدولة لمواطنين يشعر كل واحد فيهم انه استثناء و أنه وحده المريض ووحده الذي يعاني ووحده الذي يستحق. كانت الشكاوي من هذا النوع تتعالي كلما أوقفت إحداهن عن حد البلطجة حتي تأخذ دورها تلك التي جاء دورها: "أنا عندي سكر"، "أنا عندي ضغط" "أنا لسه طالعة من عملية" و أحيانا "أصل أنا مستعجلة"! خلاصة الكلام أن ما تعلمته من قراري بالمكوث حتي يغلق مكتب البريد أبوابه في الثانية لم يكن ليمكنني تعلمه من ألف كتاب في سوسيولوجيا الزحام و حتي غير الزحام. من ضمن ما تعلمت غير هذا الشعور الغالب أن كل شخص يشعر أنه حالة خاصة تستوجب الانتباه تمظهر في سلوكيات و أقوال تنم عن مشاعر ذات صلة بالطبقية و من بعدها العنصرية. كان هناك رجل في استقامة رمح و لون الأبنوس و جلباب في بياض الثلج، استفزه أحدهم بقوله إنه ليس مصريا فراح يقسم و يخبط يدا بيد و يعلو صوته بأنه مصري ابن مصري و أكتر "واهد" مصري هنا خالص و كأنه لا يعبر عن انتمائه الوطني أو أحقيته في معاش من الحكومة المصرية ولكن عن رفضه التعالي الذي كان واضحا في نبرة صاحب الاتهام. في لحظة وجدتني في ذات موضعه أدافع أنا أيضا عن "مصريتي". كانت هناك سيدة من كلابشة تري إني لا يمكن أن أكون مصرية فقلت لها أني من كوم امبو ففرحت كأنها لاقت صديقة لم تراها من زمن. و لم تشك لحظة أني أقول الحقيقة. عادت سيدة "سيموندس" إلي المشهد و كررت علي مسامعنا مرة ثانية أنها لولا من ينتظرون تلك النقود ما وقفت في هذا الطابور أبدا و عاد منديلها إلي أنفها يتهمنا أن رائحتنا لا تطاق. أما تلك التي لن أنساها فكانت سيدة متقدمة جدا في السن يشف جلدها الأبيض كالشمع عن نور داخلي يعززه سواد طرحة بسيطة و جلباب قديم، تبتسم لنفسها من حين لآخر علي العجائب التي تراها ولا تحرك ساكن. عندما أومأت لها بأن دورها جاء و قلت: اتفضلي حضرتك. حاولت احداهن مزاحمتها بحجة أنها ما تركت الطابور إلا لأن رئتيها لا تتحملان هذه الخنقة فقلت بصوت حازم و واضح: ده دور الهانم. سكت الجمع و كأنهم سقط عليهم سهم الله. ربما لأن "الهوانم" لا يقفن في طوابير؟! في الطوابير من الممكن الحديث. و بما أن الحكومة كانت لتوها قد رفعت أسعار الوقود أخيرا و تنفس من يقدرون نعمة أن يعيش المرء في الحقيقة مهما كانت مرة بدلا عن الأوهام راحت الأحاديث بين برهة و أخري في اتجاه الغلاء. و بادرتني سيدة في خمار مزركش لطيف: عارفة التاكسي اللي جابني من امبابة أخد كام؟ خمستاشر جنيه! و ترجم عقلي المبلغ: 2 دولار. يا بلاش. ثم عاد عقلي للغة العربية. 2 دولار في مصر يكفون إطعام شخص يوما بحاله لو لم يكم مدخنا. فرددت: طيب و ليه تاخدي تاكسي؟ دي امبابة يا دوب ورا الكوبري. رمقتني و كأنني أهرطق فعاد ذهني يوما واحدا للوراء. البارحة كنت أزور طبيبي العجوز الذي قرر أن ينتقل لبيت للمسنين بعد وفاة رفيقة عمره. البيت يقع علي الضفة الثانية في الدقي. يوجد تحت كوبري أكتوبر كوبري للمشاة أمام مركز شباب الجزيرة يوصلك للضفة الثانية في دقائق. في ظرف أربعين دقيقة كنت أجلس بجوار الدكتور بطرس نشرب الشاي و نناقش رواية كان يقرأها. عدت من نفس الطريق و كان معني ذلك أنني وفرت حق المواصلات سواء تاكسي أو ميكروباس و شددت عضلات ساقي و اشتريت سندويتشين شاورمة فراخ من محل محترم في شارع حسن صبري! لكن هذا يصعب بالطبع علي "هوانم" امبابة. وكدت أسألها ما الذي جاء بها لمكتب بريد في الزمالك وهي تقطن امبابة لكن الساعة كانت قد اقتربت جدا من الثانية ميعاد الانتهاء من العمل فآثرت ألا أفتح حديثا قد يطول. عدت عقارب الساعة الثانية و كان علي أحدهم غلق الباب و لم يقم بذلك أحد فتوجهت للباب أغلقه و إذا بامرأة تدفعني بشدة لتدخل فقلت لها الساعة بعد الثانية و المكتب مغلق وكان بالطبع ما زال هناك كثيرون من "أرباب" المعاشات. فما كان منها إلا أن شخطت في: وانتي صفتك إيه تمنعيني؟ ورددت تلقائيا و كنت أظن أن ذلك يمنحني مسئولية مدنية عامة: أنا مواطنة! فما كان منها إلا أن أشاحت في وجهي بذراعها الممتليء و شعرها المصبوغ يتطاير في غضب و في قدميها شبشب يبين عن أظافر طليت بلون فوشيا فاقع، فوقه بنطلون ستريتش : والله لو مش مستعجلة لضربتك! الخلاصة: العينة سالفة الوصف كانت تصرف معاشها من الزمالك لكنها تعاني الفقر بنسب لا تتفاوت كثيرا. العينة متحايلة و احيانا عدوانية و مفترية علي حقوق الغير. العينة ذات حس عال بالفكاهة و قدرة علي تقدير عبثية المواقف و لديها ما يسميه الانجليز (common sense ) يعني اعتراف ضمني بما يعقل و ما لا يعقل. و العينة تحسن التصرف لدي شعورها بأن سلوكها مراقب علي نحو ما، كما أنها يغلب عليها التطير و الخوف من العقاب الرباني. العينة في عمومها لم تعامل في حياتها بالاحترام الذي يستدعي احترام الذات لكنها علي وعي غريزي بأن هناك تعاملات تتسم باللياقة و تنزل عليها عندما تجد القدوة. العينة للأسف عنصرية و طبقية و تشوبها نسبة طفولية تصل 2 في المئة. (مثال: ما إن نجحت سيدة في الوصول إلي الشباك بعد عناء و راحت الموظفة تعد لها أوراقا بمئتي جنيه حتي تذمرت قائلة: عايزاهم من فئة المئة جنيه!). العينة لا تعرف معني كلمة "مواطنة" ولا تفهم أن الكلمة لا تشير إلي لقب بل إلي مسئولية مدنية تقتضي الحرص علي حقوق الآخرين. هذا فيما يتعلق بعينة الجمهور. أما الموظفة الفاضلة الخلوقة السيدة صابرة خضر، لو كانت تلك السيدة تعمل في ظل ظروف إدارية عادلة تضمن لها سلطة قانونية في حدود عملها، لقامت بغلق الشباك و نبهت الجمهور أنها ستمنع الصرف لو لم يلتزم الجمهور بقواعد الطابور و عدم تعطيل العمل بالتذمر و الشكوي و الطلبات غير المسئولة. إلي جانب السيدة صابرة خضر كان يجلس الاستاذ ممدوح فتحي الذي سمح للسيدة التي هددت بضربي لو لم تكن في عجلة من أمرها. شاب متزن لطيف المعشر مهذب. لما سألته لماذا رضي بخدمة تلك المرأة رغم إيذان ميعاد غلق المكتب، قال إنها جاءت من أجل تحويل مبلغ لأحدهم من المؤكد أنه في حاجة إليه و أنه يجلس وراء شباك التحويلات وليس شباك المعاشات و ليس له علم بسبب بقائي لمراقبة سير العمل ولا صفتي في هذا المكان. أنا سمية يحيي رمضان مواطنة دون أدني مسئوليات مدنية لكن لي كل الحقوق وعلي رأسها التذمر من كل شيء!