الكاتب العراقي حسن مطلك، شقيقي، هو الذي قربني إلي ماركيز وهو الذي أبعدني عنه. فمثل الجميع، أصابه ماركيز بسحريته حد الهوس حين قرأه مطلع ثمانينيات القرن الماضي بحيث صار يقول: إنني أستطيع لمس السماء بيدي لأن سماء قريتي هي أقرب السماوات إلي الأرض. ودفعني لقراءته، فكنا نمضي ساعات طوال بالحديث عنه وعن أعماله، كان هو يفليها جُملة جملة ويحفظ الكثير منها، وكلما سمعنا بصدور ترجمة لشيء من أعماله، كنا نستعير سيارة ونسافر إلي بغداد التي تبعد عن قريتنا قرابة الخمس ساعات، كي نقتنيه. بعد إنهائي للدراسة الثانوية، كان علي أن أختار ما سأدرسه في الجامعة، أنا أريد دراسة المسرح وأهلي المتدينون يرفضون، ففكرت أن أدرس الصحافة، لكن صديقي وابن قريتي الكاتب الراحل إبراهيم حسن ناصر، الذي كان قد أنهي دراسته للصحافة تواً نصحني بشيء آخر، قائلاً بأنها لم تضف له شيئاً وبأن أفضل صحافيي العالم لم يدرسوها أكاديمياً، وأنصحك بدراسة اللغة الإسبانية. فاجآني الاقتراح لأنه لم يخطر لي علي بال، وكنت سيئا بدراستي للإنكليزية، كما أن شهادة اللغة الإسبانية ليس لها أي مستقبل وظيفي في العراق. فسألني: هل قرأت (مائة عام من العزلة)؟ قلت: طبعاً. قال: هل أعجبتك؟ قلت: جداً جداً. قال: فتخيل كيف هي، فيما لو قرأتها بلغتها الأصلية إذاً! عدت راكضاً إلي أخي حسن مطلك وأخبرته بالأمر، فقفز مهللاً للفكرة وراح يعدد لي مناقبها وكيف سأكون محظوظاً بأن أقرأ لماركيز كل جديد دون انتظار ترجمته. ووقف إلي جانبي معنوياً ومادياً وعائلياً بهذا القرار ودعمني بكل التفاصيل اللاحقة من تسجيل ومن تخفيف غربة عيشي لأول مرة في المدينة، وما إن صرت أعرف القراءة بالإسبانية حتي راح يسألني عن كيف يلفظ اسم ماركيز وعناوين أعماله بالضبط، كان يقول أريد أن أسمعها كما يقولها هو، وأستشعر إيقاعها الصوتي. وهكذا كانت الرغبة بقراءة (مائة عام من العزلة) بلغتها الأصلية، هي المفتاح الذي قد غير مجري حياتي بأكمله، لكنني وبعد أعوام طويلة، هنا في مدريد، ومداومتي علي قراءة أي جديد يصدر لماركيز أو عنه حال صدوره، ومنها أعماله (خبر اختطاف)، (ذكريات غانياتي الحزينات) و(عشت لأروي) لم تعجبني كثيراً، وبعد أن صار في مكتبتي طبعات مختلفة من روايته (مائة عام من العزلة)، أردت تنفيذ تلك الرغبة القديمة، وشرعت بقراءتها مجدداً، فلم أجد فيها ذلك السحر الذي كان، وأن أعمالاً أخري لآخرين أقل منها شهرة تعجبني أكثر، فأدركت حجم ما تغير في ذائقتي عموماً وحيال ماركيز بشكل خاص، وكان لحسن مطلك أثر مبكر في هذا التغيير أيضاً، فهو بعد أن تعمق بماركيز حد التشبع، اكتشف ما يفرقه عنه، وهو أن ماركيز لاعب ماهر بالصور والخيالات والكلمات لكنه بلا أفكار مهمة، وكان يقول:" إنه يجيد صنعة الرواية لكنه لا يضيف شيئا فكرياً للقاريء.. فهو سطحي". وفي كتابه الخاص بتأملاته في فن الرواية (الكتابة وقوفاً)، قال ما نصه:"تمرن ماركيز طويلاً لكي يسخر منا، إنه لم يقل شيئاً مهماً، لم يأت بفكرة كبيرة، غير أنه أتقن اللعبة الأدبية وعرف أسرارها أكثر من أي روائي في العالم، علي وجه التقريب، ولذلك فهو خدّاع، يفكر أولا كيف يهيج القارئ ويستثيره، ويعرف كل الوسائل الممكنة في صناعة الدهشة، غير أنه لا يوازي فوكنر الذي يمتلك الحس المأساوي ويتلمس كارثة الإنسان، وماركيز يحوّل الموت إلي لعبة فيرمينا في السطح، فماذا سيقول عنه هيدجر لو كان حيا؟". استطاع ماركيز أن يوسع آفاق الواقعية ويثريها عبر توسيع جانبها الفانتازي، بينما يريد حسن مطلك (واقعية مطلقة) كما يسميها "واقعية الحاضر"، واقعية تتسع لكل شيء وتضم إلي جانب الخيال والسحر والفانتازيا، التاريخ والعلم والفلسفة والفنون وأنه "مثلما يختفي الحاجز بين الواقعي والخيالي، بين الذات والموضوع، فإنه يختفي كذلك بين الرواية ذات الحدث الواحد والرواية المُرَكَّبَة." وأن "يجري دمج الشخوص بالخلفيات، بالآثاث، بالأحداث الأخري، بحيث لا يكون ثمة إمكان لقيام شخصية بدون انفتاح علي العالم". حسن مطلك يري بأن أي كتاب يخلو من معرفة هو خداع للقاريء، وماركيز يري بأن الخدعة ذاتها هي معرفة أيضاً... وأنا أتفق مع كليهما. هذان هما مُعَلماي الكبيران في الأدب والحياة، وكان لحسن مطلك الأثر الأكبر والمباشر عليّ حياً وميتاً بحيث أشعر أحياناً وكأنني مجرد نتاج آخر من بين أعماله، لذا يطول الحديث عن أثره علي، كما يطول الحديث عما تعلمته من ماركيز، والذي من بينه: التحرر والجرأة في الخيال كحل ألجأ إليه عندما أعجز عن إيجاد حلول واقعية، ومثال ذلك أنني ختمت مسرحيتي (حيّة عادل) بأن يتحول البطل المحاط بسخرية الآخرين إلي ماء في صحن، وجعلت شخصية محمود في روايتي (الفَتيت المُبَعثَر) شخصية مُحرِّكة للحدث دون أن يكون لها أي وجود فيزيائي ولا ظِل ولا أثر، وشخصية عبود الذي يتحول تدريجياً من أجمل طفل إلي ذئب مخيف، ثم يختفي من حفرة موصدة في المقبرة، أعدت له بهدف معالجته من السحر بالسحر. وبدأت رواياتي (حدائق الرئيس) و(تَمْر الأصابع) من نهاياتها كما فعل ماركيز في روايته (قصة موت مُعلن)، تعلمت منه أن أروي مأساتي بجمالية لصالح الحياة، وأن احب قريتي وقرويتي بدل المخاوف التي زرعها فيّ النقاد في البداية، حين قالوا بأن الرواية هي ابنة المُدن وللمدن وعنها، تعلمت التخلص من عقدة كوني لا أعرف اللغة الإنجليزية فماركيز أيضاً لا يعرفها ولم يكترث لذلك. تعلمت الابتسام في الصور، حُب الحياة أولاً ومن ثم حُب الأدب، حُب العائلة وحُب الأصدقاء، فأردد عبارته: أكتب كي يحبني أصدقائي أكثر. ومن خلال لقاءاتي ببعض أصدقائه من الكولومبيين واللاتينيين وطريقة حديثهم عنه بعادية تخلو من الهالة والسحرية، صرت أسعد بالتعامل العادي مع أصدقائي وتناسيهم لي ككاتب عندما نلتقي، وأن أُخلص لهم بغض النظر عن مواقفهم السياسية والثقافية والعامة ورؤية الآخرين لهم. تعلمت منه الاحتفاء والاحتفال بالصداقة، بالحياة وبالإنسان والأدب، وأن أتحدث عن أعمالي باعتزاز ومحبة ودعائية.. وليس ادعائية، أن ألتذ بالكذب الأبيض، وأن أُبالغ في القول أحياناً لأضاعف الجمال، ألا أزعل من النقد الذي ليس لصالحي، وأن أكون أقل خشية من كتابة عمل أقل من مستوي ما سبق وأن كتبته... وتعلمت أن أغلب ما قد نراه من المستحيلات، ما هو في الحقيقة، إلا مُمكِنات مُؤَجّلَة. هذان هما مُعَلماي الكبيران في الأدب والحياة، وهذا بعض ما تعلمته منهما، وسأبقي أتعلم منهما كل يوم. حسن مطلك مات مشنوقاً، وماركيز مات وأُحرِقت جثته، لكن أثرهما باق في حياتي وتكويني وكتابتي إلي أن أموت.