سعر الدولار اليوم الجمعة 25-7-2025 أمام الجنيه المصري    المتطرف إيتمار بن غفير: "أؤيد تجويع سكان قطاع غزة"    طقس اليوم الجمعة.. أجواء شديدة الحرارة على أغلب الأنحاء    موعد عقد امتحانات الثانوية العامة الدور الثاني 2025    الفن السيناوي يضيء ليالي مهرجان جرش. .فرقة العريش للفنون الشعبية تتألق وتبهر الأردنيين بتراث سيناء (صور)    اسعار الدواجن والبيض اليوم الجمعة 25 يوليو 2025    بكام الفراخ النهارده؟.. أسعار الدواجن والبيض في أسواق الشرقية الجمعة 25-7-2025    أسعار الأرز الشعير والأبيض اليوم الجمعة 25- 7- 2025 في أسواق الشرقية    أسعار حديد التسليح اليوم الجمعة 25 يوليو 2025    نائب محمود عباس يرحب بقرار الرئيس الفرنسي الاعتراف بدولة فلسطين    تايلاند تعلن ارتفاع عدد القتلى جراء الاشتباكات مع كمبوديا إلى 15 شخصًا    موجة حارة شديدة تتسبب بحرائق في تونس    رفضًا لتجويع غزة| احتجاجات أمام القنصلية الإسرائيلية في شيكاغو    الأهلى يواجه البنزرتي التونسي اليوم    الزمالك يواجه وادى دجلة وديًا    نجم الزمالك السابق يوجه رسالة خاصة ل عبد الله السعيد    نائب رئيس جنوب إفريقيا: القارة السمراء تحصل على 3% فقط من الاستثمارات الأجنبية المباشرة عالميًا    إزالة فورية ل 4 حالات تعدٍّ على أراضي أملاك الدولة في قنا    خلال عمله.. دفن عامل صيانة سقط من الطابق السادس بعقار بحدائق الأهرام    حالة المرور اليوم بمحاور وميادين القاهرة والجيزة    ارتفاع أسعار النفط وسط تفاؤل بانحسار التوتر التجاري وخفض صادرات البنزين الروسية    تجهيزات خاصة لحفل عمرو دياب في لبنان    القنوات الناقلة مباشر لمباراة الأهلي والبنزرتي التونسي الودية اليوم.. والتردد والموعد    في حادث مأساوي.. مصرع أم وابنتها وإصابة 3 من أطفالها في حادث سقوط سيارة في ترعة بالبحيرة    مصطفى كامل: دعمي لشيرين مش ضد أنغام.. ومكنتش أعرف بالخلاف بينهم    رسميا، مانشستر يونايتد يمنع طباعة أسماء ثلاثة من أساطير النادي على قمصان الموسم الجديد    طريقة عمل بلح الشام، باحترافية شديدة وبأقل التكاليف    إليسا تتصدر ترند جوجل بعد ليلة لا تُنسى في موسم جدة    تظلمات نتيجة الثانوية العامة 2025.. الموعد والخطوات والرسوم (فرصة لتحسين درجاتك)    رسميا.. قائمة بالجامعات الأهلية والخاصة 2025 في مصر (الشروط والمصاريف ونظام التقسيط)    لا ترضى بسهولة وتجد دائمًا ما يزعجها.. 3 أبراج كثيرة الشكوى    الهلال الأحمر يعلن رفع قدرات تشغيل المراكز اللوجيستية لأعلى مستوياتها    هل الجوافة تسبب الإمساك؟ الحقيقة بين الفوائد والأضرار    بعد عمي تعبان.. فتوح يوضح حقيقة جديدة مثيرة للجدل "فرح أختي"    تدهور الحالة الصحية للكاتب صنع الله إبراهيم من جديد ودخوله الرعاية المركزة    الأوقاف تفتتح اليوم الجمعة 8 مساجد في 7 محافظات    نقابة التشكيليين تؤكد استمرار شرعية المجلس والنقيب المنتخب    الآلاف يحيون الليلة الختامية لمولد أبي العباس المرسي بالإسكندرية.. فيديو    محامي أسرة ضحية حادث «الجيت سكي» بالساحل الشمالي يطالب بإعادة تحليل المخدرات للمتهمة    "الجبهة الوطنية" ينظم مؤتمراً جماهيرياً حاشداً لدعم مرشحيه في انتخابات الشيوخ بالجيزة    استمرار استقبال طلاب الثانوية العامة لاختبارات العلوم الرياضية بالعريش    وزارة الصحة تنظم اجتماعًا لمراجعة حركة النيابات وتحسين بيئة عمل الأطباء    مصدر للبروتين.. 4 أسباب تدفعك لتناول بيضة على الإفطار يوميًا    "قلب أبيض والزمالك".. حامد حمدان يثير الجدل بصورة أرشيفية    أحمد سعد: ألبوم عمرو دياب مختلف و"قررت أشتغل في حتة لوحدي"    يوسف حشيش يكشف كواليس صعبة بعد ارتباطه ب منة عدلي القيعي    سعاد صالح: القوامة ليست تشريفًا أو سيطرة وإذلال ويمكن أن تنتقل للمرأة    سعاد صالح: النقاب ليس فرضًا أو سنة والزواج بين السنة والشيعة جائز رغم اختلاف العقائد    تنسيق الجامعات 2025، شروط الالتحاق ببعض البرامج المميزة للعام الجامعي 2025/2026    تفاصيل صفقة الصواريخ التي أعلنت أمريكا عن بيعها المحتمل لمصر    وسيط كولومبوس كرو ل في الجول: صفقة أبو علي تمت 100%.. وهذه حقيقة عرض الأخدود    العثور على رضيعة حديثة الولادة أمام مستشفى الشيخ زويد    فلكيا.. مولد المولد النبوي الشريف 2025 في مصر و3 أيام إجازة رسمية للموظفين (تفاصيل)    داليا عبدالرحيم تنعى أسامة رسلان متحدث «الأوقاف» في وفاة نجل شقيقته    «دعاء يوم الجمعة» للرزق وتفريج الهم وتيسير الحال.. كلمات تشرح القلب وتريح البال    دعاء يوم الجمعة.. كلمات مستجابة تفتح لك أبواب الرحمة    لتخفيف حرقان البول في الصيف.. 6 مشروبات طبيعية لتحسين صحة المثانة    الشيخ خالد الجندي: «ادخل العبادة بقلب خالٍ من المشاغل الدنيوية»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رفقة درب
إيثار ينبض.. وعقل يبدع
نشر في أخبار الأدب يوم 12 - 04 - 2014


محمد يوسف القعيد يبلغ السبعين
إذن.. سأبلغها العام القادم، فرصة للتأمل وتلمس العبر والأحوال، ما من لحظة في مساري عبر الزمن إلا ويمثل يوسف كما يناديه، كل من يعرفه عداي، أناديه محمد لأن اسمه مركب محمد يوسف وأسرته تخاطبه بالاسم الأول، يطالعني أينما وليت الوجه، في مسيرة تمتد إلي أكثر من نصف قرن بكل ما حفلت به من مسرات ومحن ولحظات توهج إنساني.
الآن ونحن علي شفا. تصفو العلاقة ويبدو أجمل ما فيها صحبة جميلة علي المستوي الإنساني والأدبي. أتذكر أعماله الكبري الجميلة، أيام الجفاف، بلد المحبوب، البيات الشتوي، شكاوي المصري الفصيح، يحدث في مصر الآن وأخيراً (المجهول)، الآن لا أستطيع تحديد تاريخ معين لبدء صلتي به، موجود حتي قبل أن أعرفه، في السنوات الأخيرة لا نلتقي كثيراً بسبب ظروف الانتقال في القاهرة، لكنني أهاتفه يومياً وأحياناً مرات عديدة، نتبادل الأخبار، نعلق علي الأحوال، نتبادل خبرات القراءة، عندما أقرأ له يخيل إلي أنني أسمعه، له أسلوب في الحكي الشفهي خاص به يتسرب أحيانا إلي ما يكتبه خاصة غرامه بالتفاصيل الدقيقة، المؤكد أنه مظلوم نقدياً، وعلي مستوي نقل أعماله إلي لغات أخري، وربما يرجع ذلك إلي العمل بالصحافة رغم أنه هجر المهنة بقرار منه في 8 فبراير 2000 عندما خرج من دار الهلال في ظروف لم يتحدث عنها حتي الآن، ولكنه مازال ماثلا فيها بروحه وحب البسطاء الذين لا يعرفون إلا الصدق في مشاعرهم، جمعنا نجيب محفوظ، المؤكد أنني التقيته في مقهي ريش يوم جمعة أحد أعوام الستينيات، كان مجندا في سلاح الخدمات الطبية، أمضي في الخدمة تسع سنوات من عام 1965 حتي 1974.
جمع نجيب محفوظ جيلنا حوله، اختصر بذلك طريق كل منا إلي الآخر، كان ينصرف في الثامنة والنصف مساء الجمعة، كنا في المقتبل ولدينا الطاقة والوقت، ليس ذلك حنينا إلي الماضي، ولكنني أعتبرها أجمل أيامنا، كنا لا نفترق بعد ذهاب محفوظ، وقد نقضي الوقت حتي الفجر في الفيشاوي، المقهي الوحيد المفتوح ليلاً نهاراً في القاهرة وقتئذ، إلي جانب بوفيه المحطة. من ندوة محفوظ تعرفت علي كثيرين بعضهم اختفي تماما من ذاكرتي، وبعضهم اختفي تماما من ذاكرتي، وبعضهم انزوي متباعداً، كانت الندوة نقطة الارتكاز التي قربت كلاً منا واختصرت المسافات بيننا، كان يمكن أن تتأخر معرفتي بالقعيد والكداوي وأبوعوف ومجيد طوبيا وإبراهيم منصور وأمل دنقل سنوات لولا مقهي محفوظ وندوته، أسباب عديدة قربتني من محمد (هذا هو الجزء الأول من اسمه إذ إن اسمه مركب محمد يوسف) منها تلك الأسباب المستعصية علي التفسير التي تجعل روحا تألف روحاً وتنفر من أخري، كان قريباً جدا بشهامته وذكائه وموهبته وقدرته علي التفاعل، عندما أتحدث إليه رغم قدرته الفائقة علي مداهمتي بتفاصيل لا نهاية لها عن كل شيء، فإنني في مواجهته أشعر أنني يمكن الإفضاء إليه بما يخصني علي جميع المستويات، منذ لقائنا وحتي الآن وقد بلغنا شتاء العمر عاش محمد معي أدق تفاصيل المحطات التي مررت بها، وفي الشدائد ليس مثله صديق، تجده قد تخلي عن كل ما يخصه وتفرغ للوقوف في اللحظات الصعبة، ليس صرخة أنه الصاحب الوحيد الذي وقف حتي النهاية عندما توفي أبي وأنا في سفر عام ثمانين، وعند رحيل أمي عام ثلاثة وثمانين، وعند رحيل شقيقي علي، خصال يوسف الشخصية الإيجابية لا حصر لها ، إنه فلاح لم تغيره المدينة ولا المرور بمراحل عديدة خلال نموه الفطري والروحي، لذلك تبدو مواقفه العامة متسقة تماما لا تهاون ولا لبس فيها، موقفه من الصراع العربي الإسرائيلي حاسم، لا يقبل أي حجج تقول بالمرونة أو تغير الظروف، إخلاصه ووفاؤه لجمال عبدالناصر لا تشوبه شائبة، لم يعرفه شخصيا ولم يلتق به، لكنه مدافع مخلص عنه في مواجهة محاولات التشويه، وفي جلسة الثلاثاء مع محفوظ لم يكن يتبع اسم ناصر إلا بوصف العظيم مما دعا محفوظ إلي مبادلته الوصف بالوصف فكان إذا ذكر اسم ناصر يتأني لحظة ثم يقول »العظيم«، محمد متسق إلي حد مثالي بين ما يعتقده وسلوكه الشخصي، لا ذبذبة، ولا مساحة رمادية، من العناصر التي وثقت بيننا القراءة إنه قارئ نهم، متابع جيد لما يصدر في الوطن العربي كله، من عادتي أن أوقع باسمي في الصفحة الأخيرة، كثير من الكتب التي احتفظ بها في مكتبتي تحمل توقيع محمد أيضا، عندما تعرفنا إليه كان مجنداً وكان مقره مستشفي غمرة العسكري، لم يكن له سكن قاهري عاين مكتبتي التي كانت بدأت تنمو في بيتنا بدرب الطبلاوي، وبدأ يقرأ ما يلفت نظره منها، كان دقيقاً جداً في إرجاع الكتب وظل كذلك إلي سنوات قريبة، خلال الفترة الأخيرة ألاحظ أنه يستعير الكتب ولا يعيدها، كذلك لا يسألني عما آخذه منه، ربما لأن ذاكرة كل منا مثقلة، وربما لأن ما عنده عندي.
سافرنا معاً، وهو رفيق سفر رائع، لديه دهشة طفل وفلاح يتغرب لأول مرة، ولنا في الأسفار حكايات تملأ مجلدات، لديه نظر مدبب تلفته الأشياء الصغيرة، يتوقف عندها، ولعل كتابه عن اليابان من أجمل كتب الرحلات العربية كما أنه يعرف بهذا البلد القصي.
بدأنا معاً في عام ثمانية وستين كان يدخر أربعين جنيها وكنت أدخر خمسة وثلاثين قدمنا كل ما نملك إلي الأديب سمير ندا الذي أسس سلسلة كتاب الطليعة، وبإيثار نادر قدمني محمد علي نفسه. هكذا صدر كتاب »أوراق شاب عاش منذ ألف عام« في بداية عام تسعة وستين، رحنا نبيع نسخة للمعارف والأقارب ومن خلال الحاج محمد مدبولي وبحصيلة ما جمعناه طبعنا روايته الأولي »الحداد« وكان ظهور الكتابين بمثابة ميلاد أدب لكل منا توالت أعماله الأدبية والحديث عنها يطول، غير أنني أؤكد أنه لم يقرأ جيداً مثل العديدين أعمالي وأعمال كتاب آخرين موهوبين، والسبب الخلل في الحياة الأدبية التي تفتقد الآن حركة نقدية في الوقت الذي يزدهر فيه الإبداع الروائي. نقطة حساسة يبلغ يوسف السبعين وعنده إنتاج وفير وقيم وليس لديه ناشر لأعماله هذه مأساة جيلنا كله الذي لم يجد مشروعاً مثل لجنة النشر للجامعيين. كانت ظروفنا صعبة لم تمكن أحدنا من إنشاء دار أمينة تعني بأدبنا، منذ ثلاث سنوات فقد شريكة عمره كان وداعها مهيباً جسد محبة يوسف في قلوب الناس، كانت مصر بكل رموزها ماثلة. يعيش يوسف بمفرده تعتني به رباب ابنته وابنه المهاجر إلي كندا أما حفيدته أمينة فهي مركز عواطفه وهيام روحه.
مما اعتدنا عليه قراءة مخطوطات أعمالنا، أطلعه علي ما كتبت خاصة الروايات وأحترم آراءه وملاحظاته، أثق في ذائقته وفي قراءاته للاخرين، علي المستوي المهني يعتبر من أقدر الصحفيين حرفية، ولعب دوراً أساسياً في ازدهار »المصور« غير أنه غادر المهنة كلها لأسباب احترم رغبته في عدم الإفصاح عنها، امتلك من الشجاعة ما لم أمتلكه، إذ أحال نفسه إلي التقاعد وهو دون الستين بسنوات خرج من دار الهلال ولم يعد إليها حتي الآن بجسده رغم دعوات الأصدقاء الذين تعاقبوا علي الدار العريقة.
عاد إلي المصور بقلمه ولم يعد إليها بنفسه، غير أنني طوال السنوات الماضية أتيح لي أن أقف علي مدي ما تركه من أثر حميم وصادق عبر اتصالات العمال والمحررين به وودهم لشخصه الطيب النبيل واحتفال الهلال به هذا الشهر تجسيد لهذا. من العلاقات الكبري في حياة كل منا الصلة بالأستاذ محمد حسنين هيكل، غير أن محمد أقرب وكثيرا ما أعرف الأخبار التي تخص الأستاذ من خلاله وللأستاذ تأثير عظيم في حياته، وأعتقد أن تلك الصلة أحد عوامل التوازن في حياته خاصة في السنوات الأخيرة التي ينطوي فيها ولا يتحرك كثيراً ويتابع بأسي بعضاً مما يجري نتحدث طويلا عبر الهاتف، وقد تمضي أيام بدون أن نتبادل كلمة، لكنه دائماً هناك، في أيامي التي ولت وتلك الباقية، صديقاً عزيزاً وصلة تعلو فوق أي حساسيات يظنها البعض بين المبدعين المتجايلين، لكل منا طريقة، لكن ما أمضي فيه يمضي بالتوازي وكلانا امتزجت أيامه بأيام الآخر، لذلك شعرت أنني من حصد الجائزة عندما نالها من أول دورة تصويت في إجماع يحمل التقدير فعلا لواحد من أكبر أدباء جيلنا ومن أخلص أبناء مصر، ربما أفضت في الجوانب الخاصة ولكنني أتوقف عند آخر ما أبدعه بعد فترة طويلة من الصمت.
بعد ثماني سنوات من الكف، فاجأ يوسف القعيد الجميع بعمل روائي جديد، يعتبر من الأعمال الكبري في الأدب العربي والإنساني »مجهول« رواية طويلة في أربعمائة صفحة تقيم عالما خاصا كل تفاصيله من الريف المصري، بالتحديد منطقة الدلتا حيث ولد وعاش في قرية الضهرية التي تنتسب إلي الظاهر بيبرس في ريف مصر ثماني قري تحمل الاسم غير أن الضهرية التي تقع في محافظة البحيرة كانت محظوظة بابنها البار الذي لم ينقطع عنها رغم إقامته في القاهرة، يتردد عليها بانتظام وقد عرفت هذه القرية الجميلة ذات الموقع الفريد علي ضفة النيل من رواياته قبل أن أزورها وأقيم فيها لأيام جميلة خلت، معظم رواياته تدور فيها الأولي »الحداد« التي طبعناها معا عام 1969، و»يحدث في مصر الآن« عن زيارة نيكسون لمصر و»الحرب في بر مصر« و»البيات الشتوي« و»أيام الجفاف« ، الضهرية وريفها، ناسها وتحولاتها عالمه الحميم الأثير، يوسف حكاء عظيم، مفعم بالتفاصيل، رفقته حميمة، صداقتنا طويلة حميمة، وهو بأصالته وخصاله المصرية الصميمة يمثل بالنسبة لي صحبة جميلة استمرت مع تبدل الظروف وتقلب الأيام، إنه جزء حميم من مسيرتي وعيشي خلال النصف القرن الأخير، قابلته في ندوة نجيب محفوظ في الستينيات والحقيقة أن محفوظ اختصر المسافات بين أبناء جيلي كله والأجيال التالية بانتظامه ومواظبته علي لقاء أسبوعي توحد زمنه وتعددت أماكنه، واستمر حتي أيام الأخيرة، يوسف بقدرته الفريدة علي الحكي يحول المألوف إلي غير عادي، وفي أجزاء كثيرة من »مجهول« أقرأ وصفه أو روايته للأحداث فيخيل إلي أنني أسمعه هو شخصيا، خاصة أنه يمزج بين الفصحي والعامية في جرأة إبداعية، ويرتقي بالعامية الريفية إلي مستوي الشعر، ويورد في السرد تشبيهات طازجة كما ترد في حوارات المصريين سواء في قريته أو البندر الذي تتبعه القرية، لتدخل إلي هذا العالم الذي يقف علي حافة الأسطورة والواقع ماتزال قريته في دلتا مصر مصدر ثري لعالمه، صلته لم تنقطع بها، خدوم لأبناء الضهرية رغم أنه لا يشغل وظيفة أو موقعاً، لكن أحبابه كثر، لا يطلب لنفسه شيئاً، إنما للآخرين، ألاحظ تردده المتقارب علي مسقط رأسه، في المجهول تفاصيل واقعية عن ريف الآن، غير أن السمة المؤطرة هي الغياب، الاختفاء الغامض المفاجيء، قيمة أساسية في أعمال يوسف، لا شيء يقلقل الوجود الإنساني إلا الغياب، من هنا انطلقت أحداث الرواية من غياب حسن أبوعلي.
يقول يوسف:
»يوم اختفائه كان يوما غريب الخلقة، ناداه الغياب، تهيأ لغواية المستخبي ولعبة الاستغماية، نسي أن يرتب مع من سيلعبها استعد من بكة الشمس، أرسل في طلب الحلاق صباحاً، حلق شعر رأسه وسوي شاربه، اختار ملابسه بعناية من سيزف لغيابه، كيف فات زوجته ملاحظة كل غريب وعجيب بدا عليه في صباحه الأخير؟ لم تجرب من قبل السفر، سالكة طريقا بلا عودة ولم ترحل بدون نوبة »جوع؟« حسن لم ينجب إلا بنات من نبوية التي تتقن أسرار الأنوثة التي لا تجيدها نساء القرية، لذلك يتفحصها الفضوليون ويتجسس علي حياتها الخاصة بالطامحين حتي أن بعضهم يختبيء تحت نافذة البيع ليستمع إلي أدق الأسرار الحميمة، المشكلة التي يعانيها حسن أبوعلي أنه لم ينجب ولداً ورغم ذلك اتخذ منه اسما.
أبوعلي، يسهب يوسف في وصف مشاعر الأب وزوجته ويشرح بخبرة نادرة الخطوات التي اتخذها لإنجاب ولد ومنها السحر والشبشبة والعمل، وتحديد ساعات معينة للمقارنة وأوضاع أوصي بها الشيخ، ورغم ذلك لا يتحقق الأمل إنما تجيء بنت فاتنة الجمال يطلقان عليها هذا الاسم الغريب »أحمده« منذ نقطة الانطلاق يمضي المؤلف في مسارين متضادين، الأول إلي الماضي ويكشف مسارات الأحداث والأيام حتي غياب حسن، والثاني توالي الوقائع منذ غيابه، اضطرار الفاتنة »أحمده« إلي الخروج بالبهائم إلي الغيط حتي غيابها الغامض وبدأ رحلة أمها في البحث عنها وعثورها علي شريط دواء أصفر في حاجياتها تكتشف مروعة أنها حبوب منع الحمل، وصورة مع خواجات تفهم من التلميح أنهم إسرائيليون. السرد يعكس الحزن المصري العميق.
»عندما تشيخ الأمهات تشرخ البنات، ونونت العبارة في عقل الأم، لحظة إمساكها بأشياء »أحمده« التي نجحت في إخفائها طويلا، الحكاية ليست »سلو« بنات اليوم، هل شاخت أم علي؟ هل شابت؟ شيبة الرجل تكسبه وقارا وتزيده حكمة، ولكن شيبة المرأة قاسية ومؤلمة، خاصة عندما تشيب بدون أن تسمع كلمة أمي من ابن صبي....«
ورغم المناخ الأسطوري المخيم علي الهواية، والحديث عن أحد أسباب غياب حسن أبوعلي وهو معرفة كلمة الكنز، والجبل عند حدود القرية الذي يحتوي علي المعبد القديم، نلاحظ أن يوسف أضاف الجبل والمعبد إلي قرية الدلتا التي يصف تضاريسها بمهارة ولكنه جمع بين أسطورية الصعيد والدلتا، رغم هذه اللاوقعية إلا أنه يسرد الكثير من ملامح واقع القرية المعاصرة، عندما ذهبت نبوية إلي الصيدلي يقول يوسف: »أوشك أن يقول لها انفرادهما ممنوع، حتي لو كان سيعطيها حقنة، أو يغير لها علي جرح، كان زمان وجبر، الآن ممنوع علي الرجل إعطاء حقنة لحرمة، أو التغيير علي جرحها، رغم أنه لا حياء في الطب عنده من تعاطي الحقن من نسوان وتغير علي جروحهن لم تحضر بعد، غابت لندرة مجيء النسوان للصيدلية، وما إن غابت حتي حضرت امرأة، سوء حظ..«.
ثم يقول:
»جزء من هامش الربح يحصل عليه الصيدلي الشاب، عمولة لا تغني ولا تسمن من جوع، قال لنفسه: أحسن من القعاد في البيت مثل الحريم، أوقعه سوء الحظ في صاحب صيدلية ظالم، ليس صيدلياً. حصل علي الترخيص بعد إجادته للعبة أوراق معقدة سلكها في مجلس المدينة والنقابة، الصيدلية تجارة، يبيع دواء يشفي المرضي المظاليم. مظلوم يظلم مظاليم، كله يظلم كله، كأن الظلم قدر المصريين..«.
أما زيارة السيد الرئيس لنصرت باشا وتصويره مع فلاح يشرب الشاي فيبدو أنه استوحاه من واقعة حقيقية لزيارة الرئيس الأسبق للصعيد، بني سويف تحديدا وشربه الشاي في الصورة مع فلاح وأسرته، اتضح فيما بعد أنه مخبر وأن الموضوع كله تمثيل في تمثيل. المشهد حافل بالسخرية الحادة التي يتقنها يوسف القعيد جيدا.
في القسم الأخير »كفر الغيب« يتحول الواقع تدريجيا إلي أسطورة، قال الناس إن حسن أبوعلي عثر علي الكنز وأنه صعد الجبل ومن المعبد انطلق إلي جنة رضوان أكثر الأماكن أمانا حيث خبأ الكنز، جبل قديم، يحوي الجنة والنار معاً، يعلن عن قدم حجمه وهامته الخضراء فوق الجنة والحمراء المدخنة فوق النار، اهتمام النار تركز علي الجنة وخوفهم من النار جعلهم يحاولون تجاهل وجودها. الجبل رمز للعالم الآخر، إليه يمضي حسن أبوعلي وتتجه ابنته الجميلة أحمده وأخيراً تختفي نبوية التي أتي بها حسن أبوعلي من مصر ولذلك سماها الناس الغرباوية، عاشت غريبة ومضت غريبة، الرواية مشيدة علي مهل، بتأن، شديدة المصرية، مرجع لميراث المصريين في الحزن والفرح والسخرية، عالم كامل أحسن يوسف القعيد تشييده، لذلك أقول لكل من أقدمها إليه، إنها عمل كبير سيحتل المكانة اللائقة بأصالته مع مضي الوقت وعودة الحياة الثقافية إلي مسارها الطبيعي عندئذ ربما تكتشف أعمال محمد يوسف القعيد من جديد.
الآن ونحن علي شفا. تصفو العلاقة ويبدو أجمل ما فيها صحبة جميلة علي المستوي الإنساني والأدبي. أتذكر أعماله الكبري الجميلة، أيام الجفاف، بلد المحبوب، البيات الشتوي، شكاوي المصري الفصيح، يحدث في مصر الآن وأخيراً (المجهول)، الآن لا أستطيع تحديد تاريخ معين لبدء صلتي به، موجود حتي قبل أن أعرفه، في السنوات الأخيرة لا نلتقي كثيراً بسبب ظروف الانتقال في القاهرة، لكنني أهاتفه يومياً وأحياناً مرات عديدة، نتبادل الأخبار، نعلق علي الأحوال، نتبادل خبرات القراءة، عندما أقرأ له يخيل إلي أنني أسمعه، له أسلوب في الحكي الشفهي خاص به يتسرب أحيانا إلي ما يكتبه خاصة غرامه بالتفاصيل الدقيقة، المؤكد أنه مظلوم نقدياً، وعلي مستوي نقل أعماله إلي لغات أخري، وربما يرجع ذلك إلي العمل بالصحافة رغم أنه هجر المهنة بقرار منه في 8 فبراير 2000 عندما خرج من دار الهلال في ظروف لم يتحدث عنها حتي الآن، ولكنه مازال ماثلا فيها بروحه وحب البسطاء الذين لا يعرفون إلا الصدق في مشاعرهم، جمعنا نجيب محفوظ، المؤكد أنني التقيته في مقهي ريش يوم جمعة أحد أعوام الستينيات، كان مجندا في سلاح الخدمات الطبية، أمضي في الخدمة تسع سنوات من عام 1965 حتي 1974.
جمع نجيب محفوظ جيلنا حوله، اختصر بذلك طريق كل منا إلي الآخر، كان ينصرف في الثامنة والنصف مساء الجمعة، كنا في المقتبل ولدينا الطاقة والوقت، ليس ذلك حنينا إلي الماضي، ولكنني أعتبرها أجمل أيامنا، كنا لا نفترق بعد ذهاب محفوظ، وقد نقضي الوقت حتي الفجر في الفيشاوي، المقهي الوحيد المفتوح ليلاً نهاراً في القاهرة وقتئذ، إلي جانب بوفيه المحطة. من ندوة محفوظ تعرفت علي كثيرين بعضهم اختفي تماما من ذاكرتي، وبعضهم اختفي تماما من ذاكرتي، وبعضهم انزوي متباعداً، كانت الندوة نقطة الارتكاز التي قربت كلاً منا واختصرت المسافات بيننا، كان يمكن أن تتأخر معرفتي بالقعيد والكداوي وأبوعوف ومجيد طوبيا وإبراهيم منصور وأمل دنقل سنوات لولا مقهي محفوظ وندوته، أسباب عديدة قربتني من محمد (هذا هو الجزء الأول من اسمه إذ إن اسمه مركب محمد يوسف) منها تلك الأسباب المستعصية علي التفسير التي تجعل روحا تألف روحاً وتنفر من أخري، كان قريباً جدا بشهامته وذكائه وموهبته وقدرته علي التفاعل، عندما أتحدث إليه رغم قدرته الفائقة علي مداهمتي بتفاصيل لا نهاية لها عن كل شيء، فإنني في مواجهته أشعر أنني يمكن الإفضاء إليه بما يخصني علي جميع المستويات، منذ لقائنا وحتي الآن وقد بلغنا شتاء العمر عاش محمد معي أدق تفاصيل المحطات التي مررت بها، وفي الشدائد ليس مثله صديق، تجده قد تخلي عن كل ما يخصه وتفرغ للوقوف في اللحظات الصعبة، ليس صرخة أنه الصاحب الوحيد الذي وقف حتي النهاية عندما توفي أبي وأنا في سفر عام ثمانين، وعند رحيل أمي عام ثلاثة وثمانين، وعند رحيل شقيقي علي، خصال يوسف الشخصية الإيجابية لا حصر لها ، إنه فلاح لم تغيره المدينة ولا المرور بمراحل عديدة خلال نموه الفطري والروحي، لذلك تبدو مواقفه العامة متسقة تماما لا تهاون ولا لبس فيها، موقفه من الصراع العربي الإسرائيلي حاسم، لا يقبل أي حجج تقول بالمرونة أو تغير الظروف، إخلاصه ووفاؤه لجمال عبدالناصر لا تشوبه شائبة، لم يعرفه شخصيا ولم يلتق به، لكنه مدافع مخلص عنه في مواجهة محاولات التشويه، وفي جلسة الثلاثاء مع محفوظ لم يكن يتبع اسم ناصر إلا بوصف العظيم مما دعا محفوظ إلي مبادلته الوصف بالوصف فكان إذا ذكر اسم ناصر يتأني لحظة ثم يقول »العظيم«، محمد متسق إلي حد مثالي بين ما يعتقده وسلوكه الشخصي، لا ذبذبة، ولا مساحة رمادية، من العناصر التي وثقت بيننا القراءة إنه قارئ نهم، متابع جيد لما يصدر في الوطن العربي كله، من عادتي أن أوقع باسمي في الصفحة الأخيرة، كثير من الكتب التي احتفظ بها في مكتبتي تحمل توقيع محمد أيضا، عندما تعرفنا إليه كان مجنداً وكان مقره مستشفي غمرة العسكري، لم يكن له سكن قاهري عاين مكتبتي التي كانت بدأت تنمو في بيتنا بدرب الطبلاوي، وبدأ يقرأ ما يلفت نظره منها، كان دقيقاً جداً في إرجاع الكتب وظل كذلك إلي سنوات قريبة، خلال الفترة الأخيرة ألاحظ أنه يستعير الكتب ولا يعيدها، كذلك لا يسألني عما آخذه منه، ربما لأن ذاكرة كل منا مثقلة، وربما لأن ما عنده عندي.
سافرنا معاً، وهو رفيق سفر رائع، لديه دهشة طفل وفلاح يتغرب لأول مرة، ولنا في الأسفار حكايات تملأ مجلدات، لديه نظر مدبب تلفته الأشياء الصغيرة، يتوقف عندها، ولعل كتابه عن اليابان من أجمل كتب الرحلات العربية كما أنه يعرف بهذا البلد القصي.
بدأنا معاً في عام ثمانية وستين كان يدخر أربعين جنيها وكنت أدخر خمسة وثلاثين قدمنا كل ما نملك إلي الأديب سمير ندا الذي أسس سلسلة كتاب الطليعة، وبإيثار نادر قدمني محمد علي نفسه. هكذا صدر كتاب »أوراق شاب عاش منذ ألف عام« في بداية عام تسعة وستين، رحنا نبيع نسخة للمعارف والأقارب ومن خلال الحاج محمد مدبولي وبحصيلة ما جمعناه طبعنا روايته الأولي »الحداد« وكان ظهور الكتابين بمثابة ميلاد أدب لكل منا توالت أعماله الأدبية والحديث عنها يطول، غير أنني أؤكد أنه لم يقرأ جيداً مثل العديدين أعمالي وأعمال كتاب آخرين موهوبين، والسبب الخلل في الحياة الأدبية التي تفتقد الآن حركة نقدية في الوقت الذي يزدهر فيه الإبداع الروائي. نقطة حساسة يبلغ يوسف السبعين وعنده إنتاج وفير وقيم وليس لديه ناشر لأعماله هذه مأساة جيلنا كله الذي لم يجد مشروعاً مثل لجنة النشر للجامعيين. كانت ظروفنا صعبة لم تمكن أحدنا من إنشاء دار أمينة تعني بأدبنا، منذ ثلاث سنوات فقد شريكة عمره كان وداعها مهيباً جسد محبة يوسف في قلوب الناس، كانت مصر بكل رموزها ماثلة. يعيش يوسف بمفرده تعتني به رباب ابنته وابنه المهاجر إلي كندا أما حفيدته أمينة فهي مركز عواطفه وهيام روحه.
مما اعتدنا عليه قراءة مخطوطات أعمالنا، أطلعه علي ما كتبت خاصة الروايات وأحترم آراءه وملاحظاته، أثق في ذائقته وفي قراءاته للاخرين، علي المستوي المهني يعتبر من أقدر الصحفيين حرفية، ولعب دوراً أساسياً في ازدهار »المصور« غير أنه غادر المهنة كلها لأسباب احترم رغبته في عدم الإفصاح عنها، امتلك من الشجاعة ما لم أمتلكه، إذ أحال نفسه إلي التقاعد وهو دون الستين بسنوات خرج من دار الهلال ولم يعد إليها حتي الآن بجسده رغم دعوات الأصدقاء الذين تعاقبوا علي الدار العريقة.
عاد إلي المصور بقلمه ولم يعد إليها بنفسه، غير أنني طوال السنوات الماضية أتيح لي أن أقف علي مدي ما تركه من أثر حميم وصادق عبر اتصالات العمال والمحررين به وودهم لشخصه الطيب النبيل واحتفال الهلال به هذا الشهر تجسيد لهذا. من العلاقات الكبري في حياة كل منا الصلة بالأستاذ محمد حسنين هيكل، غير أن محمد أقرب وكثيرا ما أعرف الأخبار التي تخص الأستاذ من خلاله وللأستاذ تأثير عظيم في حياته، وأعتقد أن تلك الصلة أحد عوامل التوازن في حياته خاصة في السنوات الأخيرة التي ينطوي فيها ولا يتحرك كثيراً ويتابع بأسي بعضاً مما يجري نتحدث طويلا عبر الهاتف، وقد تمضي أيام بدون أن نتبادل كلمة، لكنه دائماً هناك، في أيامي التي ولت وتلك الباقية، صديقاً عزيزاً وصلة تعلو فوق أي حساسيات يظنها البعض بين المبدعين المتجايلين، لكل منا طريقة، لكن ما أمضي فيه يمضي بالتوازي وكلانا امتزجت أيامه بأيام الآخر، لذلك شعرت أنني من حصد الجائزة عندما نالها من أول دورة تصويت في إجماع يحمل التقدير فعلا لواحد من أكبر أدباء جيلنا ومن أخلص أبناء مصر، ربما أفضت في الجوانب الخاصة ولكنني أتوقف عند آخر ما أبدعه بعد فترة طويلة من الصمت.
بعد ثماني سنوات من الكف، فاجأ يوسف القعيد الجميع بعمل روائي جديد، يعتبر من الأعمال الكبري في الأدب العربي والإنساني »مجهول« رواية طويلة في أربعمائة صفحة تقيم عالما خاصا كل تفاصيله من الريف المصري، بالتحديد منطقة الدلتا حيث ولد وعاش في قرية الضهرية التي تنتسب إلي الظاهر بيبرس في ريف مصر ثماني قري تحمل الاسم غير أن الضهرية التي تقع في محافظة البحيرة كانت محظوظة بابنها البار الذي لم ينقطع عنها رغم إقامته في القاهرة، يتردد عليها بانتظام وقد عرفت هذه القرية الجميلة ذات الموقع الفريد علي ضفة النيل من رواياته قبل أن أزورها وأقيم فيها لأيام جميلة خلت، معظم رواياته تدور فيها الأولي »الحداد« التي طبعناها معا عام 1969، و»يحدث في مصر الآن« عن زيارة نيكسون لمصر و»الحرب في بر مصر« و»البيات الشتوي« و»أيام الجفاف« ، الضهرية وريفها، ناسها وتحولاتها عالمه الحميم الأثير، يوسف حكاء عظيم، مفعم بالتفاصيل، رفقته حميمة، صداقتنا طويلة حميمة، وهو بأصالته وخصاله المصرية الصميمة يمثل بالنسبة لي صحبة جميلة استمرت مع تبدل الظروف وتقلب الأيام، إنه جزء حميم من مسيرتي وعيشي خلال النصف القرن الأخير، قابلته في ندوة نجيب محفوظ في الستينيات والحقيقة أن محفوظ اختصر المسافات بين أبناء جيلي كله والأجيال التالية بانتظامه ومواظبته علي لقاء أسبوعي توحد زمنه وتعددت أماكنه، واستمر حتي أيام الأخيرة، يوسف بقدرته الفريدة علي الحكي يحول المألوف إلي غير عادي، وفي أجزاء كثيرة من »مجهول« أقرأ وصفه أو روايته للأحداث فيخيل إلي أنني أسمعه هو شخصيا، خاصة أنه يمزج بين الفصحي والعامية في جرأة إبداعية، ويرتقي بالعامية الريفية إلي مستوي الشعر، ويورد في السرد تشبيهات طازجة كما ترد في حوارات المصريين سواء في قريته أو البندر الذي تتبعه القرية، لتدخل إلي هذا العالم الذي يقف علي حافة الأسطورة والواقع ماتزال قريته في دلتا مصر مصدر ثري لعالمه، صلته لم تنقطع بها، خدوم لأبناء الضهرية رغم أنه لا يشغل وظيفة أو موقعاً، لكن أحبابه كثر، لا يطلب لنفسه شيئاً، إنما للآخرين، ألاحظ تردده المتقارب علي مسقط رأسه، في المجهول تفاصيل واقعية عن ريف الآن، غير أن السمة المؤطرة هي الغياب، الاختفاء الغامض المفاجيء، قيمة أساسية في أعمال يوسف، لا شيء يقلقل الوجود الإنساني إلا الغياب، من هنا انطلقت أحداث الرواية من غياب حسن أبوعلي.
يقول يوسف:
»يوم اختفائه كان يوما غريب الخلقة، ناداه الغياب، تهيأ لغواية المستخبي ولعبة الاستغماية، نسي أن يرتب مع من سيلعبها استعد من بكة الشمس، أرسل في طلب الحلاق صباحاً، حلق شعر رأسه وسوي شاربه، اختار ملابسه بعناية من سيزف لغيابه، كيف فات زوجته ملاحظة كل غريب وعجيب بدا عليه في صباحه الأخير؟ لم تجرب من قبل السفر، سالكة طريقا بلا عودة ولم ترحل بدون نوبة »جوع؟« حسن لم ينجب إلا بنات من نبوية التي تتقن أسرار الأنوثة التي لا تجيدها نساء القرية، لذلك يتفحصها الفضوليون ويتجسس علي حياتها الخاصة بالطامحين حتي أن بعضهم يختبيء تحت نافذة البيع ليستمع إلي أدق الأسرار الحميمة، المشكلة التي يعانيها حسن أبوعلي أنه لم ينجب ولداً ورغم ذلك اتخذ منه اسما.
أبوعلي، يسهب يوسف في وصف مشاعر الأب وزوجته ويشرح بخبرة نادرة الخطوات التي اتخذها لإنجاب ولد ومنها السحر والشبشبة والعمل، وتحديد ساعات معينة للمقارنة وأوضاع أوصي بها الشيخ، ورغم ذلك لا يتحقق الأمل إنما تجيء بنت فاتنة الجمال يطلقان عليها هذا الاسم الغريب »أحمده« منذ نقطة الانطلاق يمضي المؤلف في مسارين متضادين، الأول إلي الماضي ويكشف مسارات الأحداث والأيام حتي غياب حسن، والثاني توالي الوقائع منذ غيابه، اضطرار الفاتنة »أحمده« إلي الخروج بالبهائم إلي الغيط حتي غيابها الغامض وبدأ رحلة أمها في البحث عنها وعثورها علي شريط دواء أصفر في حاجياتها تكتشف مروعة أنها حبوب منع الحمل، وصورة مع خواجات تفهم من التلميح أنهم إسرائيليون. السرد يعكس الحزن المصري العميق.
»عندما تشيخ الأمهات تشرخ البنات، ونونت العبارة في عقل الأم، لحظة إمساكها بأشياء »أحمده« التي نجحت في إخفائها طويلا، الحكاية ليست »سلو« بنات اليوم، هل شاخت أم علي؟ هل شابت؟ شيبة الرجل تكسبه وقارا وتزيده حكمة، ولكن شيبة المرأة قاسية ومؤلمة، خاصة عندما تشيب بدون أن تسمع كلمة أمي من ابن صبي....«
ورغم المناخ الأسطوري المخيم علي الهواية، والحديث عن أحد أسباب غياب حسن أبوعلي وهو معرفة كلمة الكنز، والجبل عند حدود القرية الذي يحتوي علي المعبد القديم، نلاحظ أن يوسف أضاف الجبل والمعبد إلي قرية الدلتا التي يصف تضاريسها بمهارة ولكنه جمع بين أسطورية الصعيد والدلتا، رغم هذه اللاوقعية إلا أنه يسرد الكثير من ملامح واقع القرية المعاصرة، عندما ذهبت نبوية إلي الصيدلي يقول يوسف: »أوشك أن يقول لها انفرادهما ممنوع، حتي لو كان سيعطيها حقنة، أو يغير لها علي جرح، كان زمان وجبر، الآن ممنوع علي الرجل إعطاء حقنة لحرمة، أو التغيير علي جرحها، رغم أنه لا حياء في الطب عنده من تعاطي الحقن من نسوان وتغير علي جروحهن لم تحضر بعد، غابت لندرة مجيء النسوان للصيدلية، وما إن غابت حتي حضرت امرأة، سوء حظ..«.
ثم يقول:
»جزء من هامش الربح يحصل عليه الصيدلي الشاب، عمولة لا تغني ولا تسمن من جوع، قال لنفسه: أحسن من القعاد في البيت مثل الحريم، أوقعه سوء الحظ في صاحب صيدلية ظالم، ليس صيدلياً. حصل علي الترخيص بعد إجادته للعبة أوراق معقدة سلكها في مجلس المدينة والنقابة، الصيدلية تجارة، يبيع دواء يشفي المرضي المظاليم. مظلوم يظلم مظاليم، كله يظلم كله، كأن الظلم قدر المصريين..«.
أما زيارة السيد الرئيس لنصرت باشا وتصويره مع فلاح يشرب الشاي فيبدو أنه استوحاه من واقعة حقيقية لزيارة الرئيس الأسبق للصعيد، بني سويف تحديدا وشربه الشاي في الصورة مع فلاح وأسرته، اتضح فيما بعد أنه مخبر وأن الموضوع كله تمثيل في تمثيل. المشهد حافل بالسخرية الحادة التي يتقنها يوسف القعيد جيدا.
في القسم الأخير »كفر الغيب« يتحول الواقع تدريجيا إلي أسطورة، قال الناس إن حسن أبوعلي عثر علي الكنز وأنه صعد الجبل ومن المعبد انطلق إلي جنة رضوان أكثر الأماكن أمانا حيث خبأ الكنز، جبل قديم، يحوي الجنة والنار معاً، يعلن عن قدم حجمه وهامته الخضراء فوق الجنة والحمراء المدخنة فوق النار، اهتمام النار تركز علي الجنة وخوفهم من النار جعلهم يحاولون تجاهل وجودها. الجبل رمز للعالم الآخر، إليه يمضي حسن أبوعلي وتتجه ابنته الجميلة أحمده وأخيراً تختفي نبوية التي أتي بها حسن أبوعلي من مصر ولذلك سماها الناس الغرباوية، عاشت غريبة ومضت غريبة، الرواية مشيدة علي مهل، بتأن، شديدة المصرية، مرجع لميراث المصريين في الحزن والفرح والسخرية، عالم كامل أحسن يوسف القعيد تشييده، لذلك أقول لكل من أقدمها إليه، إنها عمل كبير سيحتل المكانة اللائقة بأصالته مع مضي الوقت وعودة الحياة الثقافية إلي مسارها الطبيعي عندئذ ربما تكتشف أعمال محمد يوسف القعيد من جديد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.