العلاقة الشائكة بين خيال المؤلف ووقائع التاريخ، هي مجدداً بطل رواية "كازانوفا في بولزانو"، ترجمة إيمان حرز الله، وقد ظهرت نسختها العربية مؤخراً عن دار "التنوير" (القاهرة، بيروت، تونس). إنها العلاقة التي تكثرت عبرها أسئلة عديدة في علاقة الأدب كسؤال فردي يبذره أفق خيالي في نهاية المطاف، بالواقع أو التاريخ كإجابة واهية في الحقيقة، تقبض علي مقدراتها الإيديولوجيا المهيمنة علي عصر من العصور. تهيمن مقدرات هذه العلاقة بامتياز علي هذه الرواية المثيرة. أقول مثيرة لأكثر من سبب، فبطل الرواية هو "جياكومو كازانوفا" بالذات، أيقونة الحسية التاريخية والشخصية الخلابة المعقدة والعامرة بالتفاصيل. نحن أيضاً أمام رواية/ مغامرة من ذلك النوع التشويقي الذي يجتذب القارئ العام بقدر ما قد يجتذب قارئ الأدب، وفي النهاية، نحن أمام عنصر تشويق ثالث لا يمكن إغفاله، حيث تواجهنا "حكاية جديدة" لم يروها تاريخ كازانوفا ولا مذكراته، كونها حكاية لم تقع فصولها أبداً خارج فصول هذه الرواية! مثلما يحدث كثيراً، وصل اسم مؤلف الرواية المجري "ساندور ماراي" (1900 9891) متأخراً جداً لقراء العربية. لكن ربما كان العزاء هذه المرة أن الانجليزية نفسها استقبلته متأخرةً جداً، فقد بدأت تعرف طريقها لرواياته في العام 2004. وربما كمن أحد الأسباب في أن ماراي أصر ألا يكتب إلا بلغته الأم وهي المجرية. وقد صدرت الترجمة الانجليزية ل "كازانوفا في بولزانو" في العام 2004 رغم أنها صدرت لأول مرة بالمجرية عام 1940! و"ماراي" واحد من فصيل الكتاب المنفيين في أربعينيات أوروبا الشرقية الشيوعية. ولد في سلوفاكيا عام 1900، وتوفي بكاليفورنيا في العام 1989، وبين الميلاد والموت عاش في بلاد عديدة منها فرنساوإيطاليا وألمانيا. كان ماراي معاديا صريحا للشيوعية، ما دفع بالنظام الشيوعي في المجر لاضطهاده حتي أجبره علي الرحيل عام 1948. وربما تكونت لديه فكرة كتابة رواية عن "كازانوفا" أثناء إقامته في إيطاليا، مثلما يبدو من تعاطفه مع بطله، أنه التقط عبره ما يمكن أن يكون مرآة لذاته: الفرد الرافض لتحفظ القطيع وإجماعهم، والمنبوذ من السلطة السياسية والأخلاقية معاً ثمناً لانحرافه عن أعرافهما. الرواية التي حظيت بترجمة رائقة سلسة للمترجمة المصرية الشابة "إيمان حرزالله" عن الإنجليزية، تقدم في الحقيقة نموذجاً دالاً لنص روائي صارخ في جوهره ضد الفاشية وكافة السلطات القمعية رغم احتشاده بعناصر جاذبية تسهل الاستجابة لها لتقديم رواية إيرو/بوليسية خفيفة. لكن رهان ماراي، كما يعكسه نصه، ظل منصباً علي اختبار صورة الفرد المنبوذ، أو الهارب أو المطرود، بحس وجودي يجعل من "البطل الضد" سؤالاً كبيراً هنا. من حياة كازانوفا المديدة، اختار ماراي واقعةً بعينها، ليبني عليها رواية خيالية. العام 1756، يفر جياكومو كازانوفا في منتصف ليلة الحادي والثلاثين من أكتوبر من سجن القصر الجمهوري المعروف بالليدز. هروب أقرب للمعجزة ينجح فيه العاشق الأبدي والمقامر بالفطرة، بمساعدة راهب مشلوح يدعي بالبي. حسب الواقعة الحقيقية، يفر كازانوفا إلي ميونخ، لكن ماراي يختار لهربه مكاناً آخر، داخل إيطاليا نفسها. هكذا تصبح "بولزانو" البلدة الإيطالية الصغيرة الساكنة والمهملة، رحماً لمقدرات لهذه الرواية، حيث يعاد تقديم العاشق الهارب في حكاية ملتهبة وكاشفة. يبدو ماراي حريصاً، في تصدير شخصي للعمل ممهور بتوقيعه، علي تأكيد الهوة بين التاريخي والمختلق، شرح وجهة نظره فيما أجراه علي الواقعة من تحريف: " قد يتعرف القارئ في ملامح سلوك بطلي علي شخصية الرحالة الشهير سييء السمعة، المدعو جياكومو كازانوفا الذي عاش في القرن الثامن عشر. أن تتعرف، لدي البعض، يعني أن توجه اتهاماً، ومن الصعوبة بمكان أن نتصدي لدفاع بنفس القدر". هكذا يستهل ماراي مقدمته، مقرناً " أمانة المحاكاة" بالاضطرار للدفاع عن بطله. إنها فلسفة، لن تجد لنفسها مخرجاً إلا بجرح ذلك الخيط الذي يُطابق الواقعة الفنية بنظيرتها التاريخية، والتي كانت واقعيةً ذات يوم، لينهي مقدمته باعتذار عما سيقدم عليه: "عذري هنا أن ما يثير اهتمامي في حياة بطلنا ليس مغامراته الرومانسية بقدر ماهو شخصه الرومانسي، لذلك لم أهتم بمذكراته المشينة سوي بتفصيلة واحدة فيما يخص وقت ووقائع هروبه، وما عدا هذا فكل ما سيمر به القارئ هنا ليس سوي اختلاق ونسج خيال". هكذا تنطلق الرواية، من نقطة هرب كازانوفا ورفيقه من السجن، خالقةً لنفسها موضوعاً. كازانوفا يقابل دوق بارما العجوز والرهيب، وعدوه اللدود. لقد خسر كازانوفا مبارزةً معه قبل سنوات علي شرف فتاة فاتنة هي فرانشيسكا. قرر الدوق ألا يقتل كازانوفا، وفق اتفاق أقرب لمعاهدة: ألا يحاول العاشق الشهير رؤيتها مرةً أخري. لحظ كازانوفا العثر، يعثر دوق بارما علي رسالة غرامية كتبتها فرانشيسكا، التي صارت زوجته، إلي غريمه. وهنا يبدأ فصل جديد من حياة كازانوفا، ينهض فيه الحب أمام السلطة. وتتكثف الصراعات أمام الهارب، ليجد أمامه عشرات الجبهات المفتوحة، بينما يتجول بين الجميع متنكراً وكأنه ينكر ذاته نفسها لكي يُبقي علي جسده حياً. يبني ماراي روايته علي رحلة سردية خطية مُحكمة، تُضاعف من إثارتها. وبروح ساخرة عنيفة في نقدها لمجمل السياقات الاجتماعية والسياسية التي هيمنت علي أوروبا القرن الثامن عشر الإقطاعية، حيث قشرة الأخلاق المتحفظة التي تخفي تحتها ركاماً من التحلل والتفسخ الأخلاقي والقيم المجافية للحرية الإنسانية.. وحيث محاكم التفتيش التي كان الجميع يدركون أنها "ناب مغروس في قطعة ما من لحمهم هم أنفسهم". "ماذا كانت جريمته؟". إنه السؤال الرمزي الذي تلح عليه الرواية بصيغ شتي، لتعرض، في سخرية، لغطاً من الإجابات الهزلية المتداخلة والمتناقضة، والتي تكشف في النهاية، أنه أياً كانت الجريمة التي اقترفها جياكومو كازانوفا، فهناك الآلاف ممن يقترفون الجرائم ذاتها كل يوم دون أن تتحرك سلطة لتوقيفهم: "كان يقامر، لعله لم يكن شريفاً تماماً، وبالطبع كانت له موائده في حانات وضيعة، وكان يلعب مع المقامرين المحترفين وهو يرتدي قناعاً! لكن تلك هي البندقية! من ذا الذي لا يفعل هذا؟.. ونعم، تعامل بخشونة مع القليلين ممن خانوه، وأغوي نساء زرنه في شقته المستأجرة بمورانو، بعيداً قليلاً عن المدينة. ولكن بأي طريقةٍ أخري تقضي شبابك في البندقية؟ وبالطبع كان عربيداً، ولسانه فالتاً، ويتحدث كثيراً، لكن هل من أحد يسكت في البندقية؟!". في الحقيقة، ومع التقدم في القراءة، سينهض السؤال الكبير والملح، والذي يمكن من خلاله تخمين سر شغف ماراي المنتمي لأوروبا الشيوعية أواسط القرن العشرين، بكازانوفا القادم من أوروبا الإقطاعية أواسط القرن الثامن عشر. فمحاكم التفتيش تحظي في هذه الرواية بقسط وافر من النقد اللاذع والتأمل العميق في آليات عملها والسخرية منها بضراوة، وكأن الرواية من خلال قناع أوروبا الإقطاعية تكشف وجهاً آخر لأوروبا الشيوعية التي استخدمت الآليات نفسها، وإن بمسميات مختلفة، رغم أنها نهضت، تحديداً، لمحاربة الإقطاع بمجمل قيمه وسياقاته وللانتصار، علي الورق، للحرية المهدرة !