يعزف البلكي في روايته علي وتر عاطفة تسيطر علي جميع شخوص الرواية وهي عاطفة الحزن فنجد حسين ذلك الفتي المهموم بالبحث عن حقيقة ما جري لجده الناطوري فيجمعها من مرايا الشخوص الذين عاصروا جده، فيكتشف في وجدان كل واحد منهم شيئاً من الحزن وبعضا من الناطوري الكبير الذي غادرهم في يوم كابوسي كما أطلق عليه البلكي فيرسم الجميع صورة تتكامل جزيئاتها وتتوحد في نهاية الرواية لنجدنا أمام بطل يحمل من النبل والشهامة والفتوة ما يجعلك تحب خصال وطبائع الصعيد ورجاله ونجد البلكي هنا يستدعي سمات الفتوات والحرافيش عند نجيب محفوظ لينحت عبرها صورة متفردة للناطوري الذي يقترب من أن يصبح رمزاً من القيم النبيلة. ونجد سكرة الابنة الوحيدة للناطوري وأم حسين (السارد) تصر علي إحياء ذكري رحيل الناطوري عبر طقوس تستمد خصوصيتها من خصوصية الصعيد في أعرافه وعاداته وتقاليده فنجدها تحتفظ بشاله وجلبابه الملطخين بدمه الذي سال في حضور شفيف لطلب الثأر، ولكن أني لها الثأر وهي لا تعرف ممن تطلبه. بعد أن أضاع الحقيقة تخاذل الآخرين ليس عن نصرته فقط ولكن حتي عن الشهادة ، كذلك نجدها تحرص علي إعداد الخبز والطعام لإحياء ذكراه بتلاوة القرآن وإطعام الأفواه الجائعة التي عجزت ألسنتها عن قول الحقيقة وتمارس طقوس حزنها النبيل بإطلاق عديدها مع البكاء أثناء إعداد الخبز والطعام. " اليوم لدي (سكرة), أمي, التي لها في ذلك اليوم طقوس لا تفرط في أي مفردة من مفرداتها, لا تبدل, أو تعدل, بعد أن تركن الصورة والشال, تسير بترتيب أخذته من أمها "* بل نجدها تعيد بناء منظومة علاقاتها بمن حولها بناء علي مواقفهم في ذلك اليوم المشهود فنجدها لا تنسي للجد هاشم مساندته لها يومها ووقوفه إلي جانبها وكذلك لا تستطيع أن تخفي بغضها للربع ومع ذلك تظل تعطف علي أمه حتي تواريها التراب، والعم سليم وأهل بيته بعد أن كانوا الجيران المقربين لها حلت القطيعة بين البيتين بعد أن صمت سليم عند سؤاله عما جري ولزم كلمة ما أعرفش حتي صارت لقباً(سليم ما أعرفش) ينادونه به سخرية من تخاذله عن الشهادة. ونجد النقد لتلك التقاليد البائدة علي لسان جيهان أخت حسين وحفيدة الناطوري هي الأخري " يصلني صوت انسحاب مزلاج باب الغرفة المقابلة للقاعة, علامة علي خروج جيهان, وهي تلعن الجهل وأيامه, وتتساءل عن اليوم الذي سيأتي وتندثر فيه تلك العادة" * بل إن البلكي يصنع من الناطوري - بكل ما يمثله من قيم- ثائراً علي التقاليد والأعراف التي لا تروقه ويراها ظالمة. وتبقي المرأة علي امتداد الرواية دوما مرآة لهذا الحزن النبيل الذي يطل من كل الوجوه سواء كانت المرأة المكلومة بالفقد (سكرة)، أو التي تعاني من الحرمان( زهيرة) زوجة هاشم و(فوقية) زوجة سليم، وتلك التي تعاني من القهر وتسلم بالمكتوب " ياقوتة". ولكن تظل سكرة وحدها امرأة الحزن كما أراد لها البلكي ومنحها صلابة وتميزاً لكونها امتداداً للناطوري ويلبسها ثوب الحكمة حتي في حزنها. " بحق كانت امرأة الحزن, وبأدق كلمة هي تسكت لأنها لم تجد فتح قلبها إلا للناطوري, والرجال من بعده كانوا يوضعون بواسطتها في خانات ضيقة، فالزوج للفراش, والابن امتداد أبيه, أما الأب فهو الكل الذي جاء منه جسدها، وصعودها للرواق ما هو إلا مكان لتحقيق ذلك، هناك تصبح أكثر قربا منه، بحرية تمارس طقس الفضفضة, تتكلم بلا انقطاع عن كل شيء, وحينما تنزل لا تجد ما تقوله, علي الأقل في ذلك اليوم *" . نجح البلكي في تضفير عنصري الزمان والمكان في سرده بطريقة تعجزك عن الحديث عن أحدهما في معزل عن الآخر أنظر إلي هذا الاستهلال الأكثر من رائع كنموذج استدلالي علي ما نقوله " رغم الحركة الدءوب, فمازال الصبح يحبو, وما زالت لحظات اليوم تنساب داخلي, معها الذكريات, وأنا أعبر البيوت والوجوه المردومة بآثار ليل صيفي, يصبغها بمسحة من التعب, فتبدو كأنها كائنات هشة, يسهل كسرها, بالطبع أنا غير هذه الوجوه, لسبب بسيط, وهو أنني ابن بنت الناطوري." * لنجد الزمن مقرونا بالمكان ودلالة تصويرية واضحة لهما في إبراز المنزلة الاجتماعية لحسين حفيد الناطوري. لكننا نستطيع أن نقول إن البلكي تعامل مع عنصر الزمن بشكل حداثي حيث نجد الزمن في الرواية زمنا مراوغاً، ففي حين نجد الزمن الواقعي للرواية وأحداثه الواقعية هو يوم واحد فقط بينما يحتوي داخله عبر الفلاش باك وتيار الوعي وحتي المونولوج الداخلي للأبطال حيوات كاملة تقاطعت وتوازت مع سيرة وحياة البطل الرئيسي الناطوري الكبير. أما المكان فنجد البلكي حريصاً أيما حرص علي فاعلية الأماكن عبر مكوناتها من الموجودات مهما كانت صغيرة ودقيقة وعبر دلالتها وتأثيراتها علي صيرورة الأحداث والشخوص فلسكرة غرفتها الخاصة التي تمارس فيها طقوس حزنها بكل تفاصيلها وموجوداتها وتبقي تلك الشجرة في السوق والتي وقعت فيها تلك الحادثة التي راح ضحيتها الناطوري مصدراً للشجون والحزن لدي معظم شخوص الرواية إن لم يكن جميعهم ، بل إن البلكي عمد إلي تسمية بعض الأماكن بمسميات وصفية انطلاقا من طبائع قاطنيها مثل "عزبة الطرح ، التصليبة، حارة النقورة". ومن هذه النقطة ننطلق للحديث عن البعد الاجتماعي في الرواية فنجد البلكي يرصد عبر بحث (سارده المركزي) حسين حفيد الناطوري عن حقيقة ما جري لجده صراعاً بين أجيال تتمرد علي العادات والتقاليد وجيل يتمسك بالماضي القديم حتي ولو ذكري وكذلك يرصد صراعا طبقياً بين أهل القرية الأصليين وهؤلاء الأغراب الذين فرضوا سطوتهم وسيطرتهم علي شطر كبير من القرية وبين هؤلاء البسطاء الذين كان الناطوري يمثل لهم الحارس والرمز للبطولة والشهامة ضد جشع الأجاويد والأثرياء وأطماع الأغراب. وعلي مستوي العلاقات الإنسانية يبرز البلكي التكافل والتعاون بين أبناء تلك البيئة عبر موقف سكرة من أم الربع وكذلك مساندة هاشم لسكرة في وقت الشدائد، ويعرض مصطفي البلكي للوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين بلا ضجة ولا خطابية عبر العلاقة الوثيقة بين أسرة الناطوري والعم سليم وأكاد أذهب إلي القول بأن البلكي كان يضع نصب عينيه وهو يخط روايته تلك صورة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وكل الصراعات التي خاضها انتصافا للمهمشين والبسطاء من أبناء هذا الوطن. ونحن إذ نتناول السرد في "سيرة الناطوري " ننطلق في تحليلنا لهذا العمل الروائي المميز من مفهوم الرواية الذي أطلقته نتالي ساروت من أن الرواية هي عملية بحث دائم يسعي إلي تعرية واقع مجهول وأن اكتمالها وكمالها مرهونان ببحثها المستمر ،إنها مغامرة ومجازفة. حيث نجد البلكي في خطابه السردي في هذه الرواية يتلبسه هذا المفهوم فجعل السارد داخل هذه الرواية في عملية بحث لا ينتهي عن حقيقة ذلك اليوم الذي رحل فيه الناطوري نتيجة ما وقع فيه من أحداث، معتمداً علي توالد الحكايات داخل الرواية عبر تكنيكات الفلاش باك والمونولوج الداخلي لشخوص روايته في مغامرة سردية تدفعنا إلي القول بأن البلكي قد ألبس روايته ثوباً حداثياً يجعلنا نضعها في مصاف الرواية التجربيبة وعلي الرغم من أن الرواية تحمل عنوان (سيرة الناطوري) إلا إنها تكاد تكون خالية من أسلوب السرد الذاتي بضمير المتكلم إلا في بعض المواضع التي يبرز فيها أسلوب تيار الوعي أو المونولوج الداخلي لبعض الشخوص؛ وذلك لأن البلكي عمد إلي الأسلوب الدرامي في عرض أحداث الرواية وفيه يسيطر الإيقاع بمستوياته المتعددة، ويعقبه المنظور في الأهمية. وانطلاقاً من أسلوب السرد الذي اتبعه البلكي نصل إلي اللغة في رواية "سيرة الناطوري" والتي ترسخ بتفرد البلكي بلغة خاصة تنبت من طين القرية وتتلون بلون شوارعها وأزقتها لغة خصوصيتها دفعت صاحبها إلي اللجوء لهوامش مفسرة لبعض مفردات البيئة المحلية للصعيد خوفا منه علي مدي تفاعل المتلقي مع لغته إن هو تحير في فهم مفردة أو تركيب من هذه التراكيب اللغوية المعبرة بصدق عن بيئتها وزين البلكي هذه اللغة باستدعاء الموروث المحلي لهذه البيئة من عديد وغناء وأمثال ومواعظ ، لغة يقف فيها الحوار جنباً إلي جنب مع السرد في تقديم شخوص الرواية في صورة حية تشعرك بمعاناتها وصدق تعبيرها عن واقعها الموشي بالحزن .