تثير رواية "سقوط الصمت" تساؤلات عديدة تتعلق بشكل رئيسي بمسألة التصنيف والنوع؛ فهل تنتمي هذه الرواية إلي جنس الرواية التاريخية، أم تنتمي لجنس الرواية السياسية، أم تنتمي لجنس الرواية الذي يتحدث عن الثورات ويؤرخ لها، أو إذا استخدمنا كلمة جديدة علي النوع الروائي، وربما مباغتة له، يؤرشف لها؟. إضافة إلي ذلك، فإن الرواية تثير أيضا تساؤلات أخري تتعلق بموضوعها والزخم المرتبط بها والفترة الزمنية الفاصلة بين الحدث وبين فعل الكتابة والإبداع. فهل يحق للكاتب الروائي المبدع أن يشتبك مع الحدث التاريخي وهو لم يبرد أو يهدأ أو تتضح صورته بعد؟ وهل يجب أن ينبري هو أو غيره من المبدعين الآخرين بالإنجذاب لفعل الغواية الإبداعي في ظل وعي مُضبب تجاه الأحداث التاريخية؟ وهل هناك ثمة فترات زمنية لازمة تحدد للمبدع متي يبدأ الكتابة ومتي يمتنع؟ الواقع أن رواية "سقوط الصمت" واجهت كل هذه المخاطر المتعلقة بحدث الثورة، وقدمت عملا متماسكا بدرجة كبيرة. صحيح أننا لا نجد ذلك العمق الروائي الذي قد نجده في بعض الروايات التاريخية التي يكون الحدث فيها متواريا من أجل التعمق في المجتمع وطبائع الشعوب، لكننا لا نعدم عمقا من نوع آخر يرتبط بتقديم نماذج بشرية عديدة ومتنوعة ارتبطت بأحداث الثورة والتحولات التي ارتبطت بها. تبدو الرواية مترامية الأطراف ومُرهقة بالقياس للملمة هذا الكم من الشخصيات. فتقريبا، لا يوجد نموذج واحد شاهدناه ميدان التحرير إلا وموجود في الرواية، من خلال "الراوي العليم" بكل شيء. ورغم ذلك التنوع اللافت للنظر، والذي يبدو في بعض الأحيان مُربكا، وربما مُسطحا، فإن الرواية وجدت مادة لُحمتها القوية التي تربط هذا الكم الهائل من الشخوص والفصول العديدة من شخصية الثوري النقي حسن عبدالرافع. لقد مثل استشهاد حسن عبدالرافع الناظم الرئيسي لكافة الشخصيات؛ فما من شخصية في الرواية إلا والتفت حوله، أو جالسته في الميدان، أو سمعت عنه وله، أو شاهدته في القنوات الفضائية، أو صافحته، أو صاحبته، أو تمنت رؤيته، أو حتي شهرّت به وتوعدته، أو خانته، أو ساهمت في قتله. ورغم ذلك فلم تُفرط الرواية في خلق البطل الأسطوري الذي تخلقه بعض الروايات، البطل المثال المنشود، لكنها تعاملت معه كنموذج مثل الكثيرين من المصريين الشرفاء من الفقراء والمعدمين والأغنياء والمتعلمين والأميين والشيوخ والقساوسة والمفكرين والمثقفين والمبدعين ورجال الأمن والجيش. الكل يقترب أو يبتعد من حسن عبد الرافع حسب ظروف الحدث وامتلاء الميدان وفراغه، لكن اللافت للنظر هنا، أنه في الوقت الذي يتعلمون فيه من حسن عبدالرافع، فإنه يتعلم من الكثير منهم، من ثوار السويس واليساريين والليبراليين ورجال الدين المخلصين الأوفياء. هذا البناء المعماري الممتد من بدايات الرواية حتي آخرها لتلك الشخصية تم من خلال تناول الشخصيات الأخري العديدة المتفقة معه أو المخالفة له. والسؤال الذي يفرض نفسه قبل قراءة رواية "سقوط الصمت" يتعلق بقدرة الروائي علي وضع المسافة اللائقة بين ما يكتب وبين الأحداث التي يتعرض لها ويتناولها والشخصيات التي يشيدها، خصوصا في ظل تناول أحداث غير مكتملة، وفي ظل غياب كبير لمنظومة المعارف المرتبطة بها. فنحن نعرف الروائي المفكر، عالم الاجتماع السياسي، صاحب الرؤي التي قد تجتذبها أدران السياسة ومساوئها، فيبدو، في بعض الأحيان، خطيا واحديا مثله مثل أي مفكر آخر تتقاذفه أهواء السياسة وتنحرف به في أحيان كثيرة عن مسارات الرؤية متعددة الأبعاد، الأكثر عمقا وشمولا. لكن أمام الأدب والحديث باسمه فإن الأمر يختلف بشكل كبير، فالأدب مُطالب بأن يمنحنا إمكانية الاختيار، وألا يصادر قُدراتنا علي الحكم بين الأمور والشخصيات المختلفة. هذا ما يتسم به الأدب الحقيقي حينما يأخذنا بعيدا عن غواية السياسة والأدران المرتبطة بها والصراعات النامية في أحضانها. وهذا ما استطاعت الرواية الراهنة القيام به في ظل جذوة الأحداث الماثلة والأهواء والتلاطمات المرتبطة بها، رغم هيمنة وعي الراوي العليم هنا علي وعي الشخصيات المشيدة. فكيف نجحت الرواية في ذلك؟ وهل نجحت في ذلك بشكل كبير أم إن إغواءات السياسة وهيمنة الأيديولوجيات قد تسللت إليها بوعي أو بغير وعي؟ وعموما يمكن القول أن الحديث عن ثورة الخامس والعشرين من يناير هو حديث بشكل واضح عن مصر، وعن شكل التجريف الذي حدث بها خلال العقود الثلاثة الماضية من خلال حكم مبارك وأعوانه. وفي ضوء ذلك تبدو طبيعة التناول الآني المطالب بتقديم عمل روائي يلملم هذا الكم الهائل من الشخصيات المرتبطة بالحدث، حتي لا ينجذب لطرف علي حساب آخر، وحتي لا تبدو الرواية في النهاية مانيفستو أيديولوجي زاعق ومنفر. يأتي ذلك في ظل إحساس قابض علي النفس بتلاشي الزخم المرتبط بالثورة إن لم يكن الإحساس بالعودة لما قبل الثورة، إحساس ضاغط بالهزيمة التي مثلها نجاح الدولة العميقة في التشهير بالثورة والثوار، وفي قتل حسن عبدالرافع أيقونة الميدان. فهل استطاعت الرواية الفرار من قهر التحزبات السياسية؟ وهل استطاعت أن تشتبك مع الميدان وتنقل شخصياته بشكل مبدع أولا ومن خلال الوعي التام بمداركهم العقلية والسياسية ثانيا؟ يمكن القول هنا بأن الرواية نجحت إلي حد كبير في أن تنقل لنا صورة مصر من خلال ما يحدث في ميدان التحرير الذي تصدر المشهد من خلال أمرين علي قدر كبير من الأهمية: أولهما الكعكة الحجرية التي مثلت واحة الأمن والأمان للثوار، ومن خلال تمثال عمر مكرم الذي مثل واحة الشكوي والتفاؤل والإحباط. ومن خلال هذا الميدان، استطاعت الرواية تشكيل عشرات الشخصيات المحبة للثورة والمضادة لها في آن، فقد كان الهم الأثير للرواية أن ترصد أكبر عدد ممكن من المتظاهرين المرتبطين بالثورة إن إيجابا أو سلبا، إلي الحد الذي يمكن معه القول أن الهاجس الرئيسي للراوي العليم، تمثل في تلك الرغبة الدفينة في ألا ينسي أي شخصية، من خلال إحساس طاغ بأن النسيان هنا يعني غياب طرف ما من أطراف الثورة، بما يعني غياب صدق المؤرخ وغلبة السياسي. لذلك، ففي أحيان كثيرة كنا نجد إخوانياً منشقا، وإخوانيا أفاقا، ومستشارا محترما، وآخر تابعا للسلطات، ورجل شرطة عنيفاً، وآخر يحترم القانون، وعاهرة تضحك علي الجميع، لكنها تجد شرفها المستباح وسط الميدان. الصورة هنا طبيعية ترتبط بالإنسان والأهواء المرتبطة به، وهذا هو الجانب الآخر المرتبط بشخصية حسن عبدالرافع والذي يمثل قاسما مشتركا بين شخوص الرواية ألا وهو الطابع الإنساني لشخوصها. فما من شخصية هنا سواء أحببتها أو كرهتها، سواء وجدتها مناصرة للثورة أو مضادة لها، إلا ولها أبعادها الإنسانية المختلفة. وهنا تبدو جماليات العمل الإبداعي، أنه لا يدين شخصياته بقدر ما يقدمها هكذا من خلال ضعفها وقوتها، صدقها وخيانتها، سعادتها وأحزانها، والباقي متروك للقارئ إما أن يقبلها أو يرفضها أو يجد لها التبريرات المختلفة التي تتناسب وتوجهاته الأيديولوجية. ورغم ذلك، فإن الشخصية الرئيسية في الرواية المرتبطة بالثورة المشاركة فيها والحالمة بمجتمع أفضل مثل حسن عبدالرافع، يحزنها، مثلما يحزننا، هذا الكم الكبير من الطعنات الموجهة لها، وقدرات الدولة العميقة والمدافعين عنها في مواجهة الثورة وإضعافها والتشهير بها. فماذا عليه أن يفعل وهو قد مات واغتالته يد الشر الآثمة التي تركتها الرواية مجهولة غير محددة؟ وماذا عليه أن يفعل في ظل الإنكسارات التي حاقت بالثوار؟ وماذا عليه أن يفعل هنا أو تفعل الرواية من خلاله وهو أيقونة الثورة، ومرتكز الرواية؟ هنا يبدو تجسير الفجوة بين وعي الراوي وبين وعي شخوصه نوعا من الحلم أو التبكير به أو نوعا من التجميل للواقع بما لا يتفق مع طبائع الأمور، ذلك النوع الذي يضفي علي الكثير من شخصيات العمل ما لا يمكنهم التفكير فيه أو حتي الإحساس به ناهيك عن ممارسته. الواقع أن الراوي المهيمن هنا فرض وعيه الخاص، وعي المفكر وعالم السياسة، علي شخصيات هي من الضعف والاهتراء بما يجعلها أقرب لشخصية الشاب المتحرش أو شخصية البلطجي. وهي شخصيات لم ترتم من تلقاء نفسها في أحضان التحرش أو البلطجة لكنها شخصيات صنعتها قوي الأمن والمتنفذين من رجال الأعمال من أجل تشويه الثورة والنيل منها. يحق للراوي المهيمن فرض درجات وعي معينة علي شخوصه، فالأدب في النهاية نافذة لمواجهة العالم، وحتي حينما يتشاءم العقل، فإن إرادة الرواية تدفعنا للغد والمستقبل، لكن الخطورة هنا أن يصبح هذا الوعي وعيا افتراضيا لا يصب في مصلحة الفهم الواعي العميق لواقع الثورة والثوار والمصريين البسطاء الذين نتحدث باسمهم وعنهم ولهم.