حفل التأبين الذي أقيم للشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم داخل دار الأوبرا شكل قصة لا يمكن تجاهلها إذا ما تحدثنا عن "الجماعة الثقافية"، أو عن "علاقة الثورة بالرموز". الحفل كانت له صبغة رسمية واضحة، حضره عدد من مرشحي الرئاسة السابقين مثل حمدين صباحي وخالد علي، ورجل الأعمال نجيب ساويرس، ووزير الثقافة محمد صابر عرب، بالإضافة إلي المثقفين بالطبع. بعد غناء حضور الحفل لقصائد نجم الشهيرة مثل "شيد قصورك"، بدأ الهتاف من مجموعات بداخل القاعة. الهتاف كان "يسقط حكم العسكر"، وهو ما تم الادعاء من قبل الآخرين أنه "محاولة لإفساد حفل التأبين". الموضوع ملتبس جداً، ويمس واحداً من أعصاب الجماعة الثقافية، فقصائد نجم التي اكتسبت قدرتها وشعبيتها من قدرتها علي التحريض في الشارع، وطالما هتف علي إيقاعها الشباب منذ يناير 2011 وحتي الآن، يراد لها أن تنحبس داخل قاعة المسرح الكبير بالأوبرا وداخل البذلات المنمقة، هذا هو رأي البعض، أما الآخرون فيحتجون بأن نجم نفسه كان قد وقع علي استمارة "كمل جميلك"، التي تطالب الفريق السيسي بالترشح للرئاسة، وهو ما يعني أن هتاف "يسقط حكم العسكر"، الذي يقال في تأبينه الآن لا يعبر عن رأيه في آخر أيام حياته. كتب الناشر محمد هاشم علي صفحته بالفيسبوك: "محاولة إفساد حفل تأبين شاعر الشعب أحمد فؤاد نجم تعبير حي عن مشهد يسكنه الإلتباس، فلا أظنه سلوك يتسم بالثوريه أن أشارك جماعة رابعه اليدويه، حملتهم لإسقاط دستور أكثر إنسانيه ووطنيه مماكتبوا هم وحلفائهم الحمقي عديمي البصيرة والمصابون بالعمي السياسي التام"، وأضاف: "إلي من هتف أمس من بتوع رابعه اليدويه أو حسني النيه أنني مع النضال السلمي حتي الا نتصار أو الموت وأنني مع حقوق الإنسان لكنني أبدا لن أكون مع حق القتل باسم الله أو الوطن. شكلكم كان وحش جدا وإنتوا بتشاركوا بتوع رابعه اليدويه الهتاف .ولاإحترمتوا نجم..ولازملائكم وأصحابكم إللي تعبوا لتنظيم تأبين يليق به.المهم تكونوا روحتم رايقين وحاسين إنكم ناضلتم جامد ضد العساكر إللي ماليين الأوبرا .داهية تكسفكم .سواء أصحابي أو الذين ليسوا كذلك". القضية ملتبسة وحساسة لأنها تمس الأصدقاء إذن. يخبرنا هاشم أن من بين من هتفوا كانوا أصدقاءه، وأصدقاؤه يشاركون الإخوان نفس شعارهم كما يري. الشاعر باسم شرف من جانبه، يري أن اعتراف دار الأوبرا المصرية ب"نجم" هو حق تم انتزاعه. يقول في صفحته علي الفيسبوك: "النهارده انتزعنا حق عظيم بالنسبه لينا في اننا قدرنا نعمل حفل تأبين عم نجم في الاوبرا وصوره متعلقه علي المسرح الكبير الرسمي والدعوات مجانيه واغاني الشيخ امام علي المسرح باصوات مصريه ووزير الثقافه يقول كلمه الافتتاح وساويرس يعلن جايزه باسم نجم من فوق مسرح الاوبرا ونجوم كبار وفنانين محترمين يقولوا قصايده بفخر بعيدا عن اي سلطه تخاف كلمات الفاجومي ولكن من المحزن اننا نلاقي شباب يحاول ان يفسد الحفل بحجة الثوره ويهتفوا يسقط حكم العسكر . تهتف ضد مين ? وعشان توصل لايه ? اللي نعرفه ان الهتاف بيكون من اجل الوصول لهدف لكن انت بتهتف سعادتك زي الاخوان نفس هتافهم بمنتهي الرومانسيه والسذاجه وتتهمونا باننا عبيد البياده. لو انت اصلا معترض علي حفله في الاوبرا لنجم جاي ليه ما توفر علي نفسك المجهود وسيب مساحه لغيرك بيحترم عم نجم يسمع كلماته واغانيه وكفايه هرتله ثوريه وهياج ثوري بقي واعرفوا بتعملوا ايه وعايزين توصلوا لايه". رد علي باسم شرف عدد من أصدقائه، كانوا من بين الهاتفين، أما هو فرد عليهم: " انتم ليه مستخسرين فينا نحتفل بشاعر كبير زي عم نجم عشان شهوة الهتاف والانتصار علي الاعداء... كان نفسنا في حفل غنا وفن وبس"، ولكن في نفس الوقت وإذا كان الحفل حفلا للغناء والفن فقط، فلماذا تم اختيار أحمد فؤاد نجم؟ نجم كان شاعراً سياسياً بامتياز. لم يكن شاعراً كل هدفه في الحياة هو "الغناء والفن فقط"، وإنما تغيير الواقع والتحريض علي الثورة. يعرف هذا كل من رددوا قصائده في المظاهرات. قصائده ببساطة هي أيقونات للاحتجاج الثوري. علي الأقل غالبيتها، علي الأقل تماما، "شيد قصورك". ولكن كان من بين من علقوا علي الحادث من رددوا هم نفسهم هتاف "يسقط حكم العسكر". الشاعر سامح سمير كتب علي الفيسبوك أنه كان من ضمن الهاتفين. ثم كتب: " إمبارح كنت بقولكم إن تأبين نجم في الأوبرا شرف للأوبرا مش لنجم ، بس بعد شوية تفكير إكتشفت إن ده فعلا شرف الأوبرا متستحقهوش ، المكان إللي رفضه وهو عايش ميستحقش شرف إستقباله بعد ما مات. مشكلة عم نجم إنه كان راجل بسيط علي أد عبقريته ، وناسه كمان طيبيين لدرجة إنهم صدقوا إن تأبين الأوبرا دي حاجة تزود في مقام واحد من أكبر القامات الشعرية العربية". يبدو هنا بالتحديد أن ثمة صراعاً علي احتكار نجم. الرجل الذي كتب بعد النكسة مباشرة "الحمدلله خبطنا، تحت بطاطنا، يا محلا رجعة ظباطنا، من خط النار"، والذي كتب قصيدة في مديح خالد الإسلامبولي قاتل السادات، كان في نفس الوقت مؤيداً للسيسي في آخر أيام حياته. كل من فريقي الصراع الآن في وسط الجماعة الثقافية، يريد نجم الذي أحبه. ونجم نفسه فعل كل شيء يقدم لكل واحد من جماهيره الصورة التي يحبها. ولكن هناك عنصراً آخر في الالتباس الحادث في قصة تأبين نجم، وهو خالد علي،المرشح السابق للرئاسة، والمرشح الشخصي لكثير من المثقفين، سواء من بين من هتفوا ضد حكم العسكر أو ممن عبروا عن استيائهم من الهتاف. شارك خالد علي الشباب في الهتاف ضد "حكم العسكر". مما دفع جريدة الوطن الزميلة لأن تكتب خبراً صياغته هي: "أفسدت السياسة حفل تأبين الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم، في ذكراه الأربعينية، بالمسرح المكشوف بالأوبرا أمس، حيث اندفع عدد من الشباب المجهولين يصيحون وسط القاعة "يسقط يسقط حكم العسكر"، وتصدر المشهد المرشح السابق للانتخابات الرئاسية خالد علي، ما اضطر وزير الثقافة محمد صابر عرب، ورجل الأعمال نجيب ساويرس، إلي الانسحاب من حفل التأبين. واندفع رجال الأمن إلي الإحاطة بالوزير محمد صابر عرب، والمهندس نجيب ساويرس، إلي أن غادرا الحفل. ولامتصاص التوتر الذي جري، صعد الفنان علي الحجار إلي المسرح، وحاول الغناء حتي انصرف خالد علي ومن معه من المتضامنين". جريدة الوطن تكتب "أفسدت السياسة حفل تأبين نجم". هذا منطق غير مفهوم، لأن نجم نفسه كان شاعراً مسيساً إلي أبعد حد! وإذا كان هناك شيء ضد تداخل الفن بالسياسة، فلماذا لا يقال هذا بخصوص قصائد نجم نفسها؟ لماذا يكون شعار "يسقط حكم العسكر"، شعاراً سياسياً، ولا يكون هتاف "واطلق كلابك في الشوارع، واقفل زنازينك علينا"، هتافاً سياسياً؟ كل هذه القصة تطرح عدداً من الأسئلة، بخلاف السؤال الرئيسي طبعاً عن علاقة الفن بالسياسة، منها مثلا أن الجماعة الثقافية مختلفة تماماً الآن، والاختلافات أحياناً ما تكون بادية للعين، ولكن ثمة عقدة أخري وهي الصداقات الشخصية التي تجمع بين أعضاء هذه الجماعة وبعضها، هذه عقدة غير قابلة للحل، ولا أحد يعرف إلا ستنتهي، هل ستخفف الصداقات من حدة الاستقطاب أم سيمزق الاستقطاب هذه الصداقات؟ لا أحد يعرف حتي الآن. الشيء الآخر، هو الأيقنة التي يحظي بها الشعراء الكبار. علي مدار ثلاث سنوات، يتم توجيه الانتقاد إلي رموز ثقافية كبيرة انحازت لهذا الطرف أو ذاك، سقطت حصانة "الرموز". ولكن نجم وحده من بقي بعد هذه المحرقة، واحد من الأسباب كانت قصائده التي لا غني عنها في أي مظاهرة، وسبب آخر هو رحيله الفاجع الذي منع من توجيه رؤية نقدية له، فاختار كل فريقي الصراع من المثقفين التمسك بصورته الشخصية عن نجم.