دعوى عاجلة جديدة تطالب بوقف تنفيذ قرار جمهوري بشأن اتفاقية جزيرتي تيران وصنافير    سعر الذهب اليوم الأحد 4 مايو 2025 في مصر.. استقرار بعد الانخفاض    مختص بالقوانين الاقتصادية: أي قانون يلغي عقود الإيجار القديمة خلال 5 سنوات "غير دستوري"    الأرصاد تكشف طقس الساعات المقبلة: أمطار وعودة الأجواء الباردة    تنفيذاً لقرار مجلس الوزراء.. تحرير 148 مخالفة عدم غلق المحلات في مواعيدها    مينا مسعود يحضر العرض المسرحي في يوم وليلة ويشيد به    الإفتاء توضح: هذا هو التوقيت الصحيح لاحتساب منتصف الليل في مناسك الحج لضمان صحة الأعمال    عشان دعوتك تتقبل.. اعرف ساعة الاستجابة في يوم الجمعة    جيش الاحتلال الإسرائيلي يؤكد فشله في اعتراض صاروخ اليمن وسقوطه بمحيط مطار تل أبيب    شاهد عيان على جسارة شعب يصون مقدراته بالسلاح والتنمية.. قناة السويس فى حماية المصريين    مد فعاليات مبادرة كلنا واحد لمدة شهر اعتبارا 1 مايو    سعر الدولار الأمريكي أمام الجنيه المصري الأحد 4-5- 2025    اللهم اجعله اختطافًا (خالدًا) وخطفة (سعد) على النقابة (2-3)    الكوابيس القديمة تعود بثياب جديدة! كيف صاغ ترامب ولايته الثانية على أنقاض الديمقراطية الأمريكية    هجوم كشمير أشعل الوضع الهند وباكستان الدولتان النوويتان صراع يتجه نحو نقطة الغليان    الوجهان اللذان يقفان وراء النظام العالمى المتغير هل ترامب هو جورباتشوف الجديد!    رئيس وزراء أستراليا المنتخب: الشعب صوت لصالح الوحدة بدلا من الانقسام    واصفًا الإمارات ب"الدويلة" الراعية للفوضى والمرتزقة"…التلفزيون الجزائري : "عيال زايد" أدوات رخيصة بيد الصهيونية العالمية يسوّقون الخراب    بغير أن تُسيل دمًا    درس هوليوودي في الإدارة الكروية    تمثال ل«صلاح» في ليفربول!!    وجه رسالة قوية لنتنياهو.. القسام تنشر فيديو لأسير إسرائيلي يكشف تعرضه للقصف مرتين    رابطة الأندية تعلن عقوبات الجولة الثالثة من مرحلة حسم الدوري    عاجل.. الزمالك يرفض عقوبات رابطة الأندية    لجنة حكماء لإنقاذ مهنة الحكيم    من لايك على «فيسبوك» ل«قرار مصيرى».. ال SNA بصمة رقمية تنتهك خصوصيتنا «المكشوفة»    إحالة الفنانة رندا البحيري للمحاكمة بتهمة السب والتشهير ب طليقها    بسبب وجبة «لبن رايب».. إصابة جدة وأحفادها ال 3 بحالة تسمم في الأقصر    والدتها سلمته للشرطة.. ضبط مُسن تحرش بفتاة 9 سنوات من ذوي الهمم داخل قطار «أشمون - رمسيس»    روز اليوسف تنشر فصولًا من «دعاة عصر مبارك» ل«وائل لطفى» يوسف البدرى وزير الحسبة ! "الحلقة 3"    بعد ختام الدورة الحادية عشرة: مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير.. وشعار «النضال من أجل الاستمرار»    سرقوا رائحة النعناع الطازج    أهرامات العالم!    عبدالناصر حين يصبح «تريند»!    في ظل فضائح وكوارث حكومة الانقلاب .. مجند يحاول الانتحار فى معبد فيله احتجاجا على طقوس عبادة الشمس    الرئيس السيسى ينتصر لعمال مصر    أول مايو يخلد ذكرى «ضحايا ساحة هيماركيت» عيد العمال احتفاء عالمى بنضال الشقيانين    أثارت الجدل.. فتاة ترفع الأذان من مسجد قلعة صلاح الدين    كلام ترامب    وزير الصحة يوقع مذكرة تفاهم مع نظريه السعودي للتعاون في عدد من المجالات الصحية الهامة لمواطني البلدين    تصاعد جديد ضد قانون المسئولية الطبية ..صيدليات الجيزة تطالب بعدم مساءلة الصيدلي في حالة صرف دواء بديل    الأهلي سيتعاقد مع جوميز ويعلن في هذا التوقيت.. نجم الزمالك السابق يكشف    إنتر ميلان يواصل مطاردة نابولي بالفوز على فيرونا بالكالتشيو    كامل الوزير: هجمة من المصانع الصينية والتركية على مصر.. وإنشاء مدينتين للنسيج في الفيوم والمنيا    حقيقة خروج المتهم في قضية ياسين من السجن بسبب حالته الصحية    الفريق كامل الوزير: فروع بلبن مفتوحة وشغالة بكل الدول العربية إحنا في مصر هنقفلها    كامل الوزير: البنية التحتية شرايين حياة الدولة.. والناس فهمت أهمية استثمار 2 تريليون جنيه    50 موسيقيًا يجتمعون في احتفالية اليوم العالمي للجاز على مسرح تياترو    كامل الوزير: 80% من مشروعات البنية التحتية انتهت.. والعالم كله ينظر لنا الآن    حزب الله يدين الاعتداء الإسرائيلي على سوريا    الشرطة الألمانية تلاحق مشاركي حفل زفاف رقصوا على الطريق السريع بتهمة تعطيل السير    الأوقاف تحذر من وهم أمان السجائر الإلكترونية: سُمّ مغلف بنكهة مانجا    " قلب سليم " ..شعر / منصور عياد    «إدمان السوشيال ميديا .. آفة العصر».. الأوقاف تصدر العدد السابع من مجلة وقاية    مصرع شخص وإصابة 6 في انقلاب سيارة على الطريق الصحراوي بأسوان    تمهيدا للرحيل.. نجم الأهلي يفاجئ الإدارة برسالة حاسمة    فحص 700 حالة ضمن قافلتين طبيتين بمركزي الدلنجات وأبو المطامير في البحيرة    الصحة: العقبة الأكبر لمنظومة التبرع بالأعضاء بعد الوفاة ضعف الوعي ونقص عدد المتبرعين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سرور طلال .. وأطلال نجيب!
نشر في أخبار الأدب يوم 04 - 01 - 2014


الكتاب: سرور المؤلف: طلال فيصل الناشر: الكتب خان
قليلة هي تلك الروايات التي تخشي أن تبدأ علاقتك بها بنظرة في وجه بطلها.. لكن "سرور " لا تجد لك مفرا من هذا. فبمجرد أن تمسك بالكتاب تجد نجيب شخصيا محدقا إليك.. وقد غامت نظراته وحدود وجهه وتفاصيل ملامحه في مربعات صغيرة تليق بعالم لم ير نجيب أبدا إلا من خلال قصاصات مبعثرة ومشكوك حتي في مصداقيتها هنا أو هناك.. لا يعرف كثير من جيلي نجيب - ولا أريد أن أقول " إلا من رحم ربي " لأنني غير متأكد أن معرفة نجيب هي قبس من رحمة.. ربما سمعوا بأمياته الشهيرة وربما علموا أنه كتب " البحر بيضحك ليه " وربما تردد علي مسامعهم تعبير " منين أجيب ناس " دون أن يدروا سياقه أو من قائله.. لكن نظرة واحدة من أيهم علي سيرة حياته حتي في ويكيبيديا ستجعله يشعر بأنه في أبعد موضع عن معرفة الرجل. الرواية علي أية حال قد اتخذت قرارها بمعاقبتنا.. لن نري نجيب كما تمنينا ببعض الفضول وبعض تأنيب الضمير الذي يتبع ويكيبيديا.. وربما الرواية قررت مكافأتنا بعدم رؤية نجيب كما خشينا ببعض الرغبة في التصالح مع الذات والامتنان لفضيلة الجهل الذي يتبع ويكيبيديا هو الآخر. يمكنك أن تقرأ كي تقرر بنفسك.
يحدثنا طلال فيصل عن صحفي يحمل اسمه ومهنته وما هو أكثر لكنه في التاسعة والثلاثين من العمر.. هذه التفصيلة لن تستوقفك إن لم تكن تعرف طلال في الواقع.. طلال من مواليد 1985.. أي أنه أكمل في ( 2013 ) عامه الثامن والعشرين فقط.. ما الذي فعله طلال هنا، وما الذي عناه بإضافة السنوات العشر إلي عمر بطله، هل يريد أن يقول أن الرؤية الروحية ويقظة البصيرة التي يوخز بها نجيب العالم هي أمر لا يحتمله الإنسان إلا علي مشارف الأربعين ( سن الأنبياء والروائيين ).. أم يريد أن يملأ نفسه / جيله بالأمل علي اعتبار أنه لن يشعر بخواء حياته إلي الحد الذي يسير معه - طائعا - في سكة نجيب إلا بعد سنوات عشر قادمة من البهجة والغفلة الوجودية الرائعة. السؤال الأهم هنا : ما الذي جري في تلك السنوات العشر التي مرت بالفعل في حياة طلال الرواية ولم يرها بالفعل طلال الواقع.
ما الذي يهمني في عمر مؤلف رواية.. يهمني هنا أنه يتماس مع لحظة كشف بالغة الخطورة.. فكأنه يؤجل كشف السر لسنوات مقبلة لعلنا نكشف وحدنا في يوم من الأيام وبشكل أقل قسوة.. بدلا من أن يداهمنا نجيب في قلب كتيبته الخرساء ليلقي في وجوهنا كل ما نشأنا علي الخوف منه :
العزلة بين الأضداد
» دائما ما كنت أفكر أن هناك أشخاصا اختصتهم الأقدار بمحاباة من نوع خاص - أستغفر الله - فصار ما يريدونه لأنفسهم هو بالضبط ما يريده منهم المجتمع، وهو بالضبط ما يريده منهم إمام المسجد علي الأرض والله سبحانه في السماء، لا صراع ولا قلق ولا حيرة ولا دراما كالتي يعيشها أولئك الذين يحاولون الخروج من هذ النظام المحكم، والحياة علي هامش تلك الحياة الرتيبة البليدة التي يعيشها عموم البشر " العاديون " إن صح التعبير. "
كان من ضمن كوابيسي الشخصية في فترة الطفولة مشهد كنت أراه في بعض الأفلام الأجنبية.. حيث يسير أحد الأبطال علي سطح بحيرة متجمدة.. فإذا بالموضع الذي يقف عليه ينهار فيحمله التيار إلي الأسفل.. فيحاول الخروج فإذا بكل ما حوله جدران صلبة من الثلج.. حوله مناطق متجمدة وفوقه سطح البحيرة المتجمد وتحته قاع مصمت.. والتيار يجرفه.
الآن أمضي في رحلة بين اماكن وأشخاص تحاول تشكيلي علي ما تراه.. وما أبعدها عن شخصيتي الحقيقية.. لتكون العزلة. العزلة هي تلك المرآة التي قررنا أن نسكنها هربا من وجوه لا تري انعكاساتها فينا.. وهي الصوبة البلاستيكية التي زرعنا بداخلها ذواتنا في طقس متخيل لا يتوفر أبدا خارجها. العزلة هي منفانا الاختياري.. ونصرنا الذي لم يشرف أحدا.. وهزيمتنا التي لم نعترف بها أبدا. هكذا مضي الخط الرئيسي لحكاية نجيب سرور - بشكل يبدو ساخرا كما يليق به - بين مجموعة من النماذج الإنسانية الصلبة كجدران الثلج.. سواء أخاه أو زوجته الروسية أو صديقه نجيب محفوظ أو الأطباء الذين باشروا حالته بمن فيهم جلال الساعي.. بالإضافة إلي طلال طبعا.. لا يكاد يجمع هؤلاء الأشخاص شيئا إلا معاندتهم لجموح نجيب ومحاولة منعه من الصدام اللاعقلاني مع الواقع.. لكي يتم تدجينه في النهاية فيصير مثلهم : إنسانا " طبيعيا " يعلم مصلحته جيدا، ويلتهم خراء العالم دون تذمر.. لكنه يرفض.. يرفض المرة تلو الأخري حتي لم تجد فيه جدران الثلج حلا آخر سوي ان يجرفه التيار بعيدا.. إلي العباسية. هنا تأتي الإجابة علي أحد أهم أسئلة هذا الجيل : الحظيرة أم العباسية ؟
الخروج عن نمطية الطبقة الوسطي الخانقة وعواقب التهور
" أظن أن في كل فنان عظيم جانبا استعراضيا ونرجسيا لا يمكن ان تتم عملية الخلق الفني بدونه، لعل هذا ما ينقصني، أنني طوال الوقت لا أخرج من عباءة الطبيب المهذب الخجول ولا أجيد ذلك التواصل الجريء بما يتطلبه أحيانا من بذاءة - لو اصطلحنا أنها بذاءة - وجرأة في التعبير، هل يمكننا أن نتصور فنانا مهذبا خجولا ؟ "
يبدأ نجيب حياته مستقيما علي سطر الطبقة الوسطي، فهو يتدرج في التعليم حتي يغادر قريته " أخطاب " إلي كلية الحقوق الجاذبة / الطاردة للمبدعين. لكنه يخرج عن السطر حين يترك كلية الحقوق إلي معهد الفنون المسرحية رغم رغبة والده - وهذه نقطة مهمة. يذهب نجيب إلي روسيا حيث يخرج عن الصفحة بأكملها إذ يقرر الزواج من فتاة روسية ويدمن الخمر وينضم إلي الشيوعيين المصريين، مرتكبا كل المحاذير التقليدية التي لم يتوقف هذا الجيل - جيلي - عن سماع عبارات التحذير منها، كما لم يتوقف عن ممارستها في الخفاء حفاظا علي مكاسب الالتزام بتقاليد الطبقة الوسطي. وكأن نجيب هنا يعلن بأنك إذا ما قررت تحرير نفسك فما عليك سوي قطع علاقتك تماما بهذه التقاليد، فالجنون ليس انتقائيا، ولا يحمل أولويات أو معايير، أنت وفقط، وهو ما عبر عنه الخطاب الذي أرسله نجيب من روسيا طالبا فيه " إرسال أقصي ما يمكن من ملابس صيفية وشتوية، كما لو أن مدة البعثة عشرون سنة "، والرد اليائس الذي رد به أبوه قائلا " عليه العوض في أخيك، قد اعتبرته ميتا منذ الآن ونفضت يدي من ترابه "
لا يفوت طلال هنا أن يقدم لنا النموذج المقابل : طلال فيصل فتي الطبقة الوسطي المطيع، الصحفي بالجريدة القومية، الذي يعمل ب " الديسك " بما يشير ذلك إلي الدلالات المصاحبة لمهنة تصحيح أخطاء الآخرين - ينكر هنا طلال دراسته الواقعية للطب وتركه إلي الكتابة كما ينكر أعماله الأدبية السابقة لما في تلك الأفعال من جموح لا يتسق مع النموذج الذي يريد تقديمه - والذي يتعرف علي نجيب بطريقة تقليدية من خلال شريط مسجل لقصيدته " أميات "، والذي يتزوج زواجا علي الطريقة المعتادة " نظرة فابتسامة فكلام فتأتي سيرة نجيب سرور فأكتشف أن أباها مخرج مسرحي (...... ) وتتصاعد علاقتي بنرمين في سياق مختلف لأجد نفسي بعدها بشهور جالسا مع عمي - والدها سابقا - في الصالون بالبدلة الكاملة آكل الكيك وأشرب العصير وأطلب يد نرمين "
المفزع في هذه المقابلة بين هذين النموذجين لم يكن فقط المصير الذي حصل عليه نجيب بسبب جموحه وتمرده، ولكن أيضا المصير الذي حصل عليه طلال بسبب التزامه. ففي حين حصل نجيب علي علاقة حب محطمة ومليئة بالارتياب حصل طلال علي علاقة خاوية من المعني والتفاهم والسعادة، ولم تدم أي من العلاقتين طويلا. وفي حين انتهي نجيب الباحث عن البهجة إلي " الأميات "، انتهي طلال الباحث عن الحكمة إلي أن " أين ذهبت بهجة الأيام القديمة؟ يقولون إن البهجة تزول وتحل محلها الحكمة، لكن أين هي الحكمة "، وانتهي الاثنان إلي الاتفاق الضمني علي مقولة نجيب محفوظ " لا يستطيع تدمير الإنسان مثل نفسه "، وعلي تساؤل الطبيب جلال الساعي " لماذا لا تكون مثل عبد السلام محسن "
انتظار الخذلان
" تعمل ايه، فلاح بسيط لف الدنيا لكن فضل فلاح متوقع انه يضيع في أي لحظة في وسط المدينة الواسعة. "
نلاحظ علاقة نجيب بالارتياب مع النمو النفسي لشخصيته عبر مراحلها المختلفة، نبدأ في أخطاب حيث يعجز عقل نجيب الطفل عن استيعاب فعلة المرأة العجوز التي اتهمته زورا بضرب ابنها لتحصل علي تعويض من أبيه، وتبدأ علاقته بالخذلان في شكل شعور مبهم خانق سيشعر به إزاء فقدانه دون وجه حق لكل ما كان يدخره لشراء جلابية العيد. ثم في موسكو حيث يعيد تشكيل خريطة حياته بشكل يجعلها أكثر فردية، كأنه يتجنب الاعتماد علي الآخرين تحسبا لخذلان ما. لكنه يعود إلي القاهرة، ويؤدي التضاغط بين شخصيته وبين العوامل النفسية السابقة من عزلة وكسر للقواعد إلي جانب فقد عمله وتنكر الأصدقاء له، يؤدي ذلك إلي حالة البحث عن الخذلان. ينتظر نجيب الخذلان كمن ينتظر نتيجة امتحان هو يعلم جيدا أنه لم يجب علي أي من أسئلته، وربما يصل به ذلك الانتظار إلي أن يغضب في حالة نجاحه. يعلم نجيب جيدا أنه كسر القواعد، وأنه تجاهل " المفروض "، وخرج عن القطيع، ويعلم جيدا أن لكل ذلك عواقب. ويختلط في تلك النقطة الحقيقة بالوهم فلا يمكننا من سياق الرواية القطع بمعرفة هل حاولت زوجته الروسية " ساشا " إنقاذه أم تخلت عنه، ولا هل كانت هناك علاقة بين زوجته المصرية وبين نجيب محفوظ، وربما استدعي عقله شخصية نجيب محفوظ دون غيره ليمارس الخيانة مع زوجته لما يمثله محفوظ نفسه : فهو صديق ساهم نجيب سرور في التعريف به وتقديمه للجمهور، وهو الرجل المنظم الدقيق الصامت الذي يمثل الآلة العملاقة للعالم التي بصق نجيب في وجهها، وهو الروائي الذي تعتبره مصر فرصتها في الحصول علي تكريم عالمي، مصر التي حصلت علي خذلانها الخاص ( النكسة ) ثم ألقت بنجيب في العباسية. هنا لا يبخل نجيب علي نفسه بالقسوة ويصنع مشهدا / موتا كاملا.
ربما يمكن القول بأنه انتظر ذلك الخذلان ك " مكافأة " تثبت له أمام نفسه كما كان قاسيا عليها وعلي العالم، وربما لم يكن ليرضي بأقل من الانتقام الشرس من شخصه كعقوبة تشعره بالانتشاء لأهمية ما فعل، ولحجم ما تمكن من كشفه وتعريته ومن ثم تدميره، وبالتالي استحقاقه للانضمام إلي الكتيبة الخرساء. وربما كان ذلك مجرد مبالغة في التأويل، فتدبر.
التورط في الفن
" عارف يا دكتور، ما الفرق بين العاقل والمجنون ؟
(........ )
أن العاقل ليس مجنونا! "
تكتمل الدائرة في العباسية، حيث نجيب مودع في " مادة أربعة " وهو قسم المرضي الخطرين، حيث نجلس جميعا معه ومع صديقه الدكتور إمام (السيد المسيح) كي نضع الفن في مواجهة المرض، والنبوءة في مواجهة المنطق. وهنا لا بد من لنا من شخصية وسيطة كالدكتور جلال الساعي، ذلك الرجل المحب للقراءة والكتابة والذي اعترف نجيب نفسه بموهبته، وهو نفسه الطبيب الخجول المهذب الذي لم يخرج عن السطر، والذي يشارك نجيب وطلال بؤس الحياة العاطفية بشكل مثير للتأمل.
ستبدأ دائرة جلال الساعي بالاستغراب الشديد لوجود قيمة مثل نجيب سرور في مستشفي المجانين " أو المجاذيب "، حيث العلاقة الملتبسة بين الفن والجنون، حيث تتلقي عبارات مثل " انتوا حتقتلوني إمتي " أو " طيب حتقتلوا عبد الناصر إمتي " أو حديثه عن النصر القريب وعن اليهود اللي " حنلاقيهم قاعدين وسطينا " فلا تدري بأي منطق يمكن أن تحكم علي نجيب / علي نفسك. ثم يمر بالسعادة وهو يصاحب نجيب في المستشفي وفي سكن الأطباء، كأنه يمتلك الفن ذاته أو يقترب لأقصي درجة من جنون الإبداع دون التورط فيه. ثم ينتهي بمحاولة إخراج نجيب من المستشفي، وهو ما يمكن تفسيره بإشفاقه علي الفنان الكبير، ويمكن تفسيره أيضا باستشعاره قسوة التشابه بين الفن والجنون، فالاثنان ملعونان، مطرودان خارج العالم الذي لا يقبل بأي تجاوز، والاثنان عاجزان عن خرق جدار الاطمئنان الكثيف الذي يعيش الناس بداخله، والاثنان عليهما دفع ثمن الاختلاف، والأهم أن التماس العقلاني بين أي منهما وبين منطق العالم لا يمكن أن يحدث إلا في مكان مثل هذا، في مستشفي " المجاذيب ".
أنهي طلال روايته، وتركنا نحاول العودة إلي غفلتنا القديمة، أو ابتداء غفلتنا الجديدة. نحاول قتل نجيب سرور أو الموت في سبيله. والأهم أننا نحاول ألا ننظر إلي الغلاف الخلفي للرواية، فقد تحمل صورة نجيب واضحة بلا اهتزاز ولا مربعات رمادية مراوغة. فتأخذنا الكتيبة الخرساء.
وفاق القدميري
قاموس الثورة
"كونوا واقعيين.. اطلبوا المستحيل" كان أحد الشعارات العديدة التي زينت جدران الحي اللاتيني وجامعتي النونتير والسوربون، في باريس إبان ثورة مايو 1968 الطلابية. لا أعرف لماذا أجدني أريد الصراخ بهذا الشعار لكل من أراد أن يغير شيئا في هذا العالم، لكل من حلم بثورة جارفة، أو بمجرد تغيير بسيط.
أن تحلم بصنع ثورة، أو الخوض في كيف يكون التغيير، هذا يلزمك أن تصنع عالما جديدا، عالما لا يشبه ما مضي، أو بالأحري ما تريده أنت أن يمضي، عليك أن تقطع مع معارك المُغّير، لغته، منطقه، أبطاله، وتواريخه.. المصقول منها و الخبيئ.
لكم هي حزينة بعض معارك تمني التغيير اليوم، وحزنها يتجلي في كونها معارك تمني في الغالب، فأن تسجن جلادا أو تطرد ديكتاتورا، ثم تصنع أغنية لتحتفل بذلك لا يعني أنك صنعت عالما جديدا، أن تجيش حشدا ليحتج علي الطاغية هذا لا يعني أنك نزعت دروس الديكتاتورية التي تشبعت بها أذهانهم، أن تقتحم القول في السياسة هذا لا يعني أنك صنعت أخري بديلة.
ينصحنا سارتر كما فعل ذات مايو مع طلاب النانتير والسوربون، بتوسيع أفق الممكنات، توسيع كل الأفق، لكل الممكنات، هذه الممكنات التي إذا ما قارنا السياسة معها ستظهر ضئيلة جدا مع شساعة هذه الممكنات، فصراخنا ضد سياسة بعينها، وسلطة بعينها، هو خيانة لباقي المعارك، لذا لابد للرفض أن يكون جذريا، بل أهم من هذا عليه أن يكون عادلا.. بهذا سيتساوي رفض بؤس الاستبداد، مع رفض بؤس السوق، مع رفض بؤس البلاهة، مع رفض بؤس الكبت الجماعي، ليصل لرفض بؤس كل المفاهيم القديمة.
من البلاهة أن نطرد عالما -أو نحاول- ونحن في نفس الوقت نلوك مفاهيمه، مسمياته، ومرادفاته. فالبؤس كل البؤس هو أن نعجز عن صنع عالم في مقابل ذاك الذي هدمناه، فكل عجز عن البناء تجعل من القديم ينبعث من رماده، ليُلزمنا، ويبدع سلط جديدة تكبلنا، ما دمنا عاجزين علي صنع عوالمنا.
من هنا سنكتشف أنه يلزم لكل ثورة قاموسا، ولكل عالم جديد معجم، وبالمعاجم تحيي العوالم، كل العوالم، وما تاريخ البشرية سوي ذاكرة قواميس ومعاجم، يصحح بعضها بعضا، ويشطب بعضها علي البعض الأخر.
فلا معني مثلا لأن يبقي الوطن مرادفا للقدرة علي الموت داخل الحشد باعتزاز! أن الموت فداه هو أسمي تجلي للحياة، لا معني لأن يبقي الوطن هو الانعكاس الساذج للفداء، الموت البئيس داخل ذاكرته الناسية دوما، لا معني لأن يبقي الإنسان مستفردا بالانتماء، فتصير الحياة، كل الحياة خارج مدارات ما سمي تواطئا ب.. »الوطن«.
نريد وطنا يرادف الحياة والأمل، وطن يهب حق الوجود ويضمنه للبشر كما للعصافير والأشجار والشواطئ، وطن يهب بطاقات الانتماء لما تبقي لنا من أطلال الأجداد، قصص الجدات، سكان الغابات، وللمنقرضين من هؤلاء نُصبا ترفعهم لمقام الشهداء.
لا معني لأن تبقي السياسة هي إلزامية تصفيق الجهة اليسري من المشهد ما دامت الجهة اليمني فعلت ذلك، لا معني لأن تبقي السياسة هي القدرة علي تهديد الأمل الجماعي، القدرة علي التهديد بالبلادة و السخف كل الرافضين و المنتمين لحزب الاب.
وما السياسة سوي تصريف لكل أنواع الممكن من الحياة، أن تصير السلطة هي القدرة القصوي علي عكس الحياة في العالم، أن يصير الدفاع عن حق شجرة في الوجود أسمي معاني النضال، وحتي الاستبداد يصير له معني ممكن، فالانحياز للألوان، والتعصب في الانحياز للون الأخضر علي الخصوص، سيعد أرقي أنواع التطرف.
أزمتنا هي أزمة فُُهوم بائسة، بارديغمات تتصلب و تتعنت في إضفاء الحزن علي وجودنا المنسحبة إنسانيته ببطء، مؤسسات البلاهة و الحمق التي توهمنا بنبوءات الخلاص، بشعارات قرب النهايات السعيدة، و اقتراب وصول البطل المخلص، بطلنا المفدي، قائد معركتنا الأخيرة نحو الخلود.
أكذوبات كثيرة تتلاقفنا و تمكر بنا علي أساس أنها ركائز بنيان منطقنا السليم، وما هي إلا خدع صنعناها، خدع نربي أذهاننا، وأذهان نسلنا علي أن فيها الخلاص، وبها يكون سواء السبيل، فيصير اللاعدل، واللاسلم، واللاحرية هو ما يهددنا في غياب المؤسسات، ولا إنسان في الأفق ما دامت ليست هناك جدران تحتويه.
المؤسسات هي محض جدران نضفي عليها قداسة السلطة و رهبة الاحتكار والنفوذ، لتصير معابدنا الجديدة، امتداد لرُهاب التيه عن مسار الحقيقة والسواء، وجودها، بل أقصي ممكنات وجودها هي في الرهبة التي نصنع نحن حولها. لا نحتاج لبنيان وجدران لنكون عادلين، أو مسالمين، لا نحتاج لقصر مُلك، أو مبني رئاسة لنُتلقّن تمارين التسامح، وحدها الحياة بشراستها، بفرحها، بسلميتها، بعدوانيتها بكل أضدادها تعلمنا أن الإنسان هو محض - تلميذ ساذج في الغالب - إلا أنه أقصي ممكنات الوجود الذي صنعت الطبيعة، الذي لديه قدرة ما، علي الاستعاب و التعلم.
لطالما آمن أفلاطون أن الشعراء سيخذلونه في صرحه الذي دشنه احتفاءً بالحكمة، فصرخ صرخته الشهيرة »كلّلوهم بالغار..واطردوهم«، لا أدري ربما هوس الحشود رآه أفلاطون في ما يكتبه الشعراء. لو رأينا عالمنا اليوم بمنظار أفلاطون لكلل بالغار غيرهم، وما اكثر من سيطردون، سنطرد كل من تغني بالحرب والموت بكل ألوانه، لكل من يريد أن يقحمنا في خلاصه البليد، حجّرا علي حقنا في الحياة، ويقينا منه أن يد الله الذي لا يعرفه، تبارك حربه المقدسة، لكل من يلزمنا برؤية الكون بمنظاره المهترئ والمتآكل بفعل العتمة وسوء التصنيع.. سنطردهم، ونحتفي بالحياة، ولن نجدد ذكراهم بنسج شقوق أخري. سنطردهم..تأو من يدري، قد لا نستطيع! إلا أنه لابد لنا يا أصدقائي أن نكون واقعيين.. ونطلب المستحيل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.