باكستان: على طالبان أفغانستان اتخاذ خطوات فوريبة لتفكيك الشبكات الإرهابية    إسرائيل تتسلم جثتى رهينتين من حماس عبر الصليب الأحمر    إصابة 12 شخصا في انقلاب ميكروباص ب«صحراوي المنيا»    وفاة ضابط شرطة في حادث مأساوي على طريق الإسماعيلية الصحراوي    المعاينة: تسرب غاز وراء وفاة زوجين فى مدينة بدر    مصرع شخصين وإصابة آخرين إثر حادث تصادم سيارتين فى النزهة    زيلينسكي: ترامب لم يعطني ردًا حاسمًا لصواريخ توماهوك    وائل جسار يطرب جمهوره بأغنية "غريبة الناس" في مهرجان الموسيقى العربية    «العمل العربية» تشارك في الدورة ال72 للجنة الإقليمية بالصحة العالمية    توابع زيادة البنزين، ارتفاع جديد في أسعار الجبن الأبيض والرومي والشيدر بالأسواق    التعليم توضح الفئات المستفيدة من أجهزة التابلت 2025-2026.. من هم؟ (إجراءات وضوابط التسليم)    شبانة: أداء اليمين أمام مجلس الشيوخ مسئولية لخدمة الوطن والمواطن    رئيس مصلحة الجمارك يتفقد قرية البضائع بمطار القاهرة    موعد مباراة منتخب المغرب ضد الأرجنتين في نهائي كأس العالم للشباب والقنوات الناقلة    يسرا وإلهام شاهين يشاركان نانسى عجرم الغناء على هامش مهرجان الجونة    «بين الأهلي والزمالك».. خالد الغندور يثير الجدل بسؤال: «بيراميدز خد مكان مين؟»    عملوها الرجالة.. منتخب مصر تتوج بكأس العالم للكرة الطائرة جلوس    نتنياهو: الحرب ستنتهي بعد تنفيذ المرحلة الثانية بما يشمل نزع سلاح حماس    نتنياهو يعلن نيته الترشح مجددًا لرئاسة الوزراء في الانتخابات المقبلة    أتلتيكو مدريد ينتصر على أوساسونا بالدوري    تراجع عيار 21 الآن بالمصنعية.. سعر الذهب اليوم الأحد بالصاغة بعد الانخفاض الكبير عالميًا    "عام الفضة " دلالة على انهيار المنظومة الاقتصادية ..تدهور الجنيه يدفع المصريين إلى "الملاذ الفضي"    مكافأة على سجله الأسود بخدمة الانقلاب .. قاضى الإعدامات المجرم "عصام فريد" رئيسًا ل"مجلس شيوخ العسكر" ؟!    زيكو: بطولتي الاولى جاءت أمام فريق صعب ودائم الوصول للنهائيات    أحمد ربيع: نحاول عمل كل شيء لإسعاد جماهير الزمالك    اتحاد الكرة يهنئ نادي بيراميدز بعد التتويج بكأس السوبر الإفريقي    ذات يوم مع زويل    «الشيوخ» يبدأ فصلًا تشريعيًا جديدًا.. وعصام الدين فريد رئيسًا للمجلس بالتزكية    ارتفاع يصل إلى 37 جنيهًا في الضاني والبتلو، أسعار اللحوم اليوم بالأسواق    تحالف مصرفى يمول مشروع «Park St. Edition» باستثمارات 16 مليار جنيه    رابط المكتبة الإلكترونية لوزارة التعليم 2025-2026.. فيديوهات وتقييمات وكتب دراسية في مكان واحد    تفاصيل محاكمة المتهمين في قضية خلية مدينة نصر    المشدد 15 سنة لمتهمين بحيازة مخدر الحشيش في الإسكندرية    شبورة كثيفة وسحب منخفضة.. بيان مهم من الأرصاد الجوية بشأن طقس مطروح    سيتغاضى عنها الشركاء الغربيون.. مراقبون: تمثيل كيان العدو بجثامين الأسرى والشهداء جريمة حرب    ستيفن صهيوني يكتب: مساعٍ جدية لبدء عصر جديد في العلاقات بين دمشق وموسكو بعد زيارة الشرع لروسيا.. فهل تنجح هذه المساعي؟    انجذاب لشخص في محيط عملك.. حظ برج العقرب اليوم 19 أكتوبر    لا تتردد في استخدام حدسك.. حظ برج الدلو اليوم 19 أكتوبر    منة شلبي: أنا هاوية بأجر محترف وورثت التسامح عن أمي    ياسر جلال: أقسم بالله السيسي ومعاونوه ناس بتحب البلد بجد وهذا موقف الرئيس من تقديم شخصيته في الاختيار    بشأن الإسورة الأثرية.. «السياحة والآثار» تنفي ما تم تداوله بشأن التقدّم ببلاغ ضد أحد الصحفيين    اليوم، ختام زيارة قاعة الملك توت عنخ آمون بالمتحف المصري بالتحرير    محمود سعد يكشف دعاء السيدة نفيسة لفك الكرب: جاءتني الألطاف تسعى بالفرج    غضب ومشادات بسبب رفع «الأجرة» أعلى من النسب المقررة    لا مزيد من الإحراج.. طرق فعالة للتخلص من رائحة القمامة في المطبخ    الطعام جزء واحد من المشكلة.. مهيجات القولون العصبي (انتبه لها)    فوائد شرب القرفة باللبن في المساء    أتلتيكو مدريد يتخطى أوساسونا في الدوري الإسباني    أخبار 24 ساعة.. زيادة مخصصات تكافل وكرامة بنسبة 22.7% لتصل إلى 54 مليار جنيه    إبراهيم العامرى: والدى كان يعشق تراب الأهلى.. وأنا مشجع درجة ثالثة للأحمر    هل يجوز للزوجة أن تأخذ من مال زوجها دون علمه؟.. أمين الفتوى يوضح    توجيهات عاجلة من وكيل صحة الدقهلية لرفع كفاءة مستشفى جمصة المركزي    البحوث الفلكية: 122 يوما تفصلنا عن شهر رمضان المبارك    الجارديان عن دبلوماسيين: بريطانيا ستشارك في تدريب قوات الشرطة بغزة    الوطنية للانتخابات: إطلاق تطبيق إلكتروني يُتيح للناخب معرفة الكثافات الانتخابية    "الإفتاء" توضح حكم الاحتفال بآل البيت    مواقيت الصلاة اليوم السبت 18 أكتوبر 2025 في محافظة المنيا    أعضاء مجلس الشيوخ يؤدون اليمين الدستورية.. اليوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سرور طلال .. وأطلال نجيب!
نشر في أخبار الأدب يوم 04 - 01 - 2014


الكتاب: سرور المؤلف: طلال فيصل الناشر: الكتب خان
قليلة هي تلك الروايات التي تخشي أن تبدأ علاقتك بها بنظرة في وجه بطلها.. لكن "سرور " لا تجد لك مفرا من هذا. فبمجرد أن تمسك بالكتاب تجد نجيب شخصيا محدقا إليك.. وقد غامت نظراته وحدود وجهه وتفاصيل ملامحه في مربعات صغيرة تليق بعالم لم ير نجيب أبدا إلا من خلال قصاصات مبعثرة ومشكوك حتي في مصداقيتها هنا أو هناك.. لا يعرف كثير من جيلي نجيب - ولا أريد أن أقول " إلا من رحم ربي " لأنني غير متأكد أن معرفة نجيب هي قبس من رحمة.. ربما سمعوا بأمياته الشهيرة وربما علموا أنه كتب " البحر بيضحك ليه " وربما تردد علي مسامعهم تعبير " منين أجيب ناس " دون أن يدروا سياقه أو من قائله.. لكن نظرة واحدة من أيهم علي سيرة حياته حتي في ويكيبيديا ستجعله يشعر بأنه في أبعد موضع عن معرفة الرجل. الرواية علي أية حال قد اتخذت قرارها بمعاقبتنا.. لن نري نجيب كما تمنينا ببعض الفضول وبعض تأنيب الضمير الذي يتبع ويكيبيديا.. وربما الرواية قررت مكافأتنا بعدم رؤية نجيب كما خشينا ببعض الرغبة في التصالح مع الذات والامتنان لفضيلة الجهل الذي يتبع ويكيبيديا هو الآخر. يمكنك أن تقرأ كي تقرر بنفسك.
يحدثنا طلال فيصل عن صحفي يحمل اسمه ومهنته وما هو أكثر لكنه في التاسعة والثلاثين من العمر.. هذه التفصيلة لن تستوقفك إن لم تكن تعرف طلال في الواقع.. طلال من مواليد 1985.. أي أنه أكمل في ( 2013 ) عامه الثامن والعشرين فقط.. ما الذي فعله طلال هنا، وما الذي عناه بإضافة السنوات العشر إلي عمر بطله، هل يريد أن يقول أن الرؤية الروحية ويقظة البصيرة التي يوخز بها نجيب العالم هي أمر لا يحتمله الإنسان إلا علي مشارف الأربعين ( سن الأنبياء والروائيين ).. أم يريد أن يملأ نفسه / جيله بالأمل علي اعتبار أنه لن يشعر بخواء حياته إلي الحد الذي يسير معه - طائعا - في سكة نجيب إلا بعد سنوات عشر قادمة من البهجة والغفلة الوجودية الرائعة. السؤال الأهم هنا : ما الذي جري في تلك السنوات العشر التي مرت بالفعل في حياة طلال الرواية ولم يرها بالفعل طلال الواقع.
ما الذي يهمني في عمر مؤلف رواية.. يهمني هنا أنه يتماس مع لحظة كشف بالغة الخطورة.. فكأنه يؤجل كشف السر لسنوات مقبلة لعلنا نكشف وحدنا في يوم من الأيام وبشكل أقل قسوة.. بدلا من أن يداهمنا نجيب في قلب كتيبته الخرساء ليلقي في وجوهنا كل ما نشأنا علي الخوف منه :
العزلة بين الأضداد
» دائما ما كنت أفكر أن هناك أشخاصا اختصتهم الأقدار بمحاباة من نوع خاص - أستغفر الله - فصار ما يريدونه لأنفسهم هو بالضبط ما يريده منهم المجتمع، وهو بالضبط ما يريده منهم إمام المسجد علي الأرض والله سبحانه في السماء، لا صراع ولا قلق ولا حيرة ولا دراما كالتي يعيشها أولئك الذين يحاولون الخروج من هذ النظام المحكم، والحياة علي هامش تلك الحياة الرتيبة البليدة التي يعيشها عموم البشر " العاديون " إن صح التعبير. "
كان من ضمن كوابيسي الشخصية في فترة الطفولة مشهد كنت أراه في بعض الأفلام الأجنبية.. حيث يسير أحد الأبطال علي سطح بحيرة متجمدة.. فإذا بالموضع الذي يقف عليه ينهار فيحمله التيار إلي الأسفل.. فيحاول الخروج فإذا بكل ما حوله جدران صلبة من الثلج.. حوله مناطق متجمدة وفوقه سطح البحيرة المتجمد وتحته قاع مصمت.. والتيار يجرفه.
الآن أمضي في رحلة بين اماكن وأشخاص تحاول تشكيلي علي ما تراه.. وما أبعدها عن شخصيتي الحقيقية.. لتكون العزلة. العزلة هي تلك المرآة التي قررنا أن نسكنها هربا من وجوه لا تري انعكاساتها فينا.. وهي الصوبة البلاستيكية التي زرعنا بداخلها ذواتنا في طقس متخيل لا يتوفر أبدا خارجها. العزلة هي منفانا الاختياري.. ونصرنا الذي لم يشرف أحدا.. وهزيمتنا التي لم نعترف بها أبدا. هكذا مضي الخط الرئيسي لحكاية نجيب سرور - بشكل يبدو ساخرا كما يليق به - بين مجموعة من النماذج الإنسانية الصلبة كجدران الثلج.. سواء أخاه أو زوجته الروسية أو صديقه نجيب محفوظ أو الأطباء الذين باشروا حالته بمن فيهم جلال الساعي.. بالإضافة إلي طلال طبعا.. لا يكاد يجمع هؤلاء الأشخاص شيئا إلا معاندتهم لجموح نجيب ومحاولة منعه من الصدام اللاعقلاني مع الواقع.. لكي يتم تدجينه في النهاية فيصير مثلهم : إنسانا " طبيعيا " يعلم مصلحته جيدا، ويلتهم خراء العالم دون تذمر.. لكنه يرفض.. يرفض المرة تلو الأخري حتي لم تجد فيه جدران الثلج حلا آخر سوي ان يجرفه التيار بعيدا.. إلي العباسية. هنا تأتي الإجابة علي أحد أهم أسئلة هذا الجيل : الحظيرة أم العباسية ؟
الخروج عن نمطية الطبقة الوسطي الخانقة وعواقب التهور
" أظن أن في كل فنان عظيم جانبا استعراضيا ونرجسيا لا يمكن ان تتم عملية الخلق الفني بدونه، لعل هذا ما ينقصني، أنني طوال الوقت لا أخرج من عباءة الطبيب المهذب الخجول ولا أجيد ذلك التواصل الجريء بما يتطلبه أحيانا من بذاءة - لو اصطلحنا أنها بذاءة - وجرأة في التعبير، هل يمكننا أن نتصور فنانا مهذبا خجولا ؟ "
يبدأ نجيب حياته مستقيما علي سطر الطبقة الوسطي، فهو يتدرج في التعليم حتي يغادر قريته " أخطاب " إلي كلية الحقوق الجاذبة / الطاردة للمبدعين. لكنه يخرج عن السطر حين يترك كلية الحقوق إلي معهد الفنون المسرحية رغم رغبة والده - وهذه نقطة مهمة. يذهب نجيب إلي روسيا حيث يخرج عن الصفحة بأكملها إذ يقرر الزواج من فتاة روسية ويدمن الخمر وينضم إلي الشيوعيين المصريين، مرتكبا كل المحاذير التقليدية التي لم يتوقف هذا الجيل - جيلي - عن سماع عبارات التحذير منها، كما لم يتوقف عن ممارستها في الخفاء حفاظا علي مكاسب الالتزام بتقاليد الطبقة الوسطي. وكأن نجيب هنا يعلن بأنك إذا ما قررت تحرير نفسك فما عليك سوي قطع علاقتك تماما بهذه التقاليد، فالجنون ليس انتقائيا، ولا يحمل أولويات أو معايير، أنت وفقط، وهو ما عبر عنه الخطاب الذي أرسله نجيب من روسيا طالبا فيه " إرسال أقصي ما يمكن من ملابس صيفية وشتوية، كما لو أن مدة البعثة عشرون سنة "، والرد اليائس الذي رد به أبوه قائلا " عليه العوض في أخيك، قد اعتبرته ميتا منذ الآن ونفضت يدي من ترابه "
لا يفوت طلال هنا أن يقدم لنا النموذج المقابل : طلال فيصل فتي الطبقة الوسطي المطيع، الصحفي بالجريدة القومية، الذي يعمل ب " الديسك " بما يشير ذلك إلي الدلالات المصاحبة لمهنة تصحيح أخطاء الآخرين - ينكر هنا طلال دراسته الواقعية للطب وتركه إلي الكتابة كما ينكر أعماله الأدبية السابقة لما في تلك الأفعال من جموح لا يتسق مع النموذج الذي يريد تقديمه - والذي يتعرف علي نجيب بطريقة تقليدية من خلال شريط مسجل لقصيدته " أميات "، والذي يتزوج زواجا علي الطريقة المعتادة " نظرة فابتسامة فكلام فتأتي سيرة نجيب سرور فأكتشف أن أباها مخرج مسرحي (...... ) وتتصاعد علاقتي بنرمين في سياق مختلف لأجد نفسي بعدها بشهور جالسا مع عمي - والدها سابقا - في الصالون بالبدلة الكاملة آكل الكيك وأشرب العصير وأطلب يد نرمين "
المفزع في هذه المقابلة بين هذين النموذجين لم يكن فقط المصير الذي حصل عليه نجيب بسبب جموحه وتمرده، ولكن أيضا المصير الذي حصل عليه طلال بسبب التزامه. ففي حين حصل نجيب علي علاقة حب محطمة ومليئة بالارتياب حصل طلال علي علاقة خاوية من المعني والتفاهم والسعادة، ولم تدم أي من العلاقتين طويلا. وفي حين انتهي نجيب الباحث عن البهجة إلي " الأميات "، انتهي طلال الباحث عن الحكمة إلي أن " أين ذهبت بهجة الأيام القديمة؟ يقولون إن البهجة تزول وتحل محلها الحكمة، لكن أين هي الحكمة "، وانتهي الاثنان إلي الاتفاق الضمني علي مقولة نجيب محفوظ " لا يستطيع تدمير الإنسان مثل نفسه "، وعلي تساؤل الطبيب جلال الساعي " لماذا لا تكون مثل عبد السلام محسن "
انتظار الخذلان
" تعمل ايه، فلاح بسيط لف الدنيا لكن فضل فلاح متوقع انه يضيع في أي لحظة في وسط المدينة الواسعة. "
نلاحظ علاقة نجيب بالارتياب مع النمو النفسي لشخصيته عبر مراحلها المختلفة، نبدأ في أخطاب حيث يعجز عقل نجيب الطفل عن استيعاب فعلة المرأة العجوز التي اتهمته زورا بضرب ابنها لتحصل علي تعويض من أبيه، وتبدأ علاقته بالخذلان في شكل شعور مبهم خانق سيشعر به إزاء فقدانه دون وجه حق لكل ما كان يدخره لشراء جلابية العيد. ثم في موسكو حيث يعيد تشكيل خريطة حياته بشكل يجعلها أكثر فردية، كأنه يتجنب الاعتماد علي الآخرين تحسبا لخذلان ما. لكنه يعود إلي القاهرة، ويؤدي التضاغط بين شخصيته وبين العوامل النفسية السابقة من عزلة وكسر للقواعد إلي جانب فقد عمله وتنكر الأصدقاء له، يؤدي ذلك إلي حالة البحث عن الخذلان. ينتظر نجيب الخذلان كمن ينتظر نتيجة امتحان هو يعلم جيدا أنه لم يجب علي أي من أسئلته، وربما يصل به ذلك الانتظار إلي أن يغضب في حالة نجاحه. يعلم نجيب جيدا أنه كسر القواعد، وأنه تجاهل " المفروض "، وخرج عن القطيع، ويعلم جيدا أن لكل ذلك عواقب. ويختلط في تلك النقطة الحقيقة بالوهم فلا يمكننا من سياق الرواية القطع بمعرفة هل حاولت زوجته الروسية " ساشا " إنقاذه أم تخلت عنه، ولا هل كانت هناك علاقة بين زوجته المصرية وبين نجيب محفوظ، وربما استدعي عقله شخصية نجيب محفوظ دون غيره ليمارس الخيانة مع زوجته لما يمثله محفوظ نفسه : فهو صديق ساهم نجيب سرور في التعريف به وتقديمه للجمهور، وهو الرجل المنظم الدقيق الصامت الذي يمثل الآلة العملاقة للعالم التي بصق نجيب في وجهها، وهو الروائي الذي تعتبره مصر فرصتها في الحصول علي تكريم عالمي، مصر التي حصلت علي خذلانها الخاص ( النكسة ) ثم ألقت بنجيب في العباسية. هنا لا يبخل نجيب علي نفسه بالقسوة ويصنع مشهدا / موتا كاملا.
ربما يمكن القول بأنه انتظر ذلك الخذلان ك " مكافأة " تثبت له أمام نفسه كما كان قاسيا عليها وعلي العالم، وربما لم يكن ليرضي بأقل من الانتقام الشرس من شخصه كعقوبة تشعره بالانتشاء لأهمية ما فعل، ولحجم ما تمكن من كشفه وتعريته ومن ثم تدميره، وبالتالي استحقاقه للانضمام إلي الكتيبة الخرساء. وربما كان ذلك مجرد مبالغة في التأويل، فتدبر.
التورط في الفن
" عارف يا دكتور، ما الفرق بين العاقل والمجنون ؟
(........ )
أن العاقل ليس مجنونا! "
تكتمل الدائرة في العباسية، حيث نجيب مودع في " مادة أربعة " وهو قسم المرضي الخطرين، حيث نجلس جميعا معه ومع صديقه الدكتور إمام (السيد المسيح) كي نضع الفن في مواجهة المرض، والنبوءة في مواجهة المنطق. وهنا لا بد من لنا من شخصية وسيطة كالدكتور جلال الساعي، ذلك الرجل المحب للقراءة والكتابة والذي اعترف نجيب نفسه بموهبته، وهو نفسه الطبيب الخجول المهذب الذي لم يخرج عن السطر، والذي يشارك نجيب وطلال بؤس الحياة العاطفية بشكل مثير للتأمل.
ستبدأ دائرة جلال الساعي بالاستغراب الشديد لوجود قيمة مثل نجيب سرور في مستشفي المجانين " أو المجاذيب "، حيث العلاقة الملتبسة بين الفن والجنون، حيث تتلقي عبارات مثل " انتوا حتقتلوني إمتي " أو " طيب حتقتلوا عبد الناصر إمتي " أو حديثه عن النصر القريب وعن اليهود اللي " حنلاقيهم قاعدين وسطينا " فلا تدري بأي منطق يمكن أن تحكم علي نجيب / علي نفسك. ثم يمر بالسعادة وهو يصاحب نجيب في المستشفي وفي سكن الأطباء، كأنه يمتلك الفن ذاته أو يقترب لأقصي درجة من جنون الإبداع دون التورط فيه. ثم ينتهي بمحاولة إخراج نجيب من المستشفي، وهو ما يمكن تفسيره بإشفاقه علي الفنان الكبير، ويمكن تفسيره أيضا باستشعاره قسوة التشابه بين الفن والجنون، فالاثنان ملعونان، مطرودان خارج العالم الذي لا يقبل بأي تجاوز، والاثنان عاجزان عن خرق جدار الاطمئنان الكثيف الذي يعيش الناس بداخله، والاثنان عليهما دفع ثمن الاختلاف، والأهم أن التماس العقلاني بين أي منهما وبين منطق العالم لا يمكن أن يحدث إلا في مكان مثل هذا، في مستشفي " المجاذيب ".
أنهي طلال روايته، وتركنا نحاول العودة إلي غفلتنا القديمة، أو ابتداء غفلتنا الجديدة. نحاول قتل نجيب سرور أو الموت في سبيله. والأهم أننا نحاول ألا ننظر إلي الغلاف الخلفي للرواية، فقد تحمل صورة نجيب واضحة بلا اهتزاز ولا مربعات رمادية مراوغة. فتأخذنا الكتيبة الخرساء.
وفاق القدميري
قاموس الثورة
"كونوا واقعيين.. اطلبوا المستحيل" كان أحد الشعارات العديدة التي زينت جدران الحي اللاتيني وجامعتي النونتير والسوربون، في باريس إبان ثورة مايو 1968 الطلابية. لا أعرف لماذا أجدني أريد الصراخ بهذا الشعار لكل من أراد أن يغير شيئا في هذا العالم، لكل من حلم بثورة جارفة، أو بمجرد تغيير بسيط.
أن تحلم بصنع ثورة، أو الخوض في كيف يكون التغيير، هذا يلزمك أن تصنع عالما جديدا، عالما لا يشبه ما مضي، أو بالأحري ما تريده أنت أن يمضي، عليك أن تقطع مع معارك المُغّير، لغته، منطقه، أبطاله، وتواريخه.. المصقول منها و الخبيئ.
لكم هي حزينة بعض معارك تمني التغيير اليوم، وحزنها يتجلي في كونها معارك تمني في الغالب، فأن تسجن جلادا أو تطرد ديكتاتورا، ثم تصنع أغنية لتحتفل بذلك لا يعني أنك صنعت عالما جديدا، أن تجيش حشدا ليحتج علي الطاغية هذا لا يعني أنك نزعت دروس الديكتاتورية التي تشبعت بها أذهانهم، أن تقتحم القول في السياسة هذا لا يعني أنك صنعت أخري بديلة.
ينصحنا سارتر كما فعل ذات مايو مع طلاب النانتير والسوربون، بتوسيع أفق الممكنات، توسيع كل الأفق، لكل الممكنات، هذه الممكنات التي إذا ما قارنا السياسة معها ستظهر ضئيلة جدا مع شساعة هذه الممكنات، فصراخنا ضد سياسة بعينها، وسلطة بعينها، هو خيانة لباقي المعارك، لذا لابد للرفض أن يكون جذريا، بل أهم من هذا عليه أن يكون عادلا.. بهذا سيتساوي رفض بؤس الاستبداد، مع رفض بؤس السوق، مع رفض بؤس البلاهة، مع رفض بؤس الكبت الجماعي، ليصل لرفض بؤس كل المفاهيم القديمة.
من البلاهة أن نطرد عالما -أو نحاول- ونحن في نفس الوقت نلوك مفاهيمه، مسمياته، ومرادفاته. فالبؤس كل البؤس هو أن نعجز عن صنع عالم في مقابل ذاك الذي هدمناه، فكل عجز عن البناء تجعل من القديم ينبعث من رماده، ليُلزمنا، ويبدع سلط جديدة تكبلنا، ما دمنا عاجزين علي صنع عوالمنا.
من هنا سنكتشف أنه يلزم لكل ثورة قاموسا، ولكل عالم جديد معجم، وبالمعاجم تحيي العوالم، كل العوالم، وما تاريخ البشرية سوي ذاكرة قواميس ومعاجم، يصحح بعضها بعضا، ويشطب بعضها علي البعض الأخر.
فلا معني مثلا لأن يبقي الوطن مرادفا للقدرة علي الموت داخل الحشد باعتزاز! أن الموت فداه هو أسمي تجلي للحياة، لا معني لأن يبقي الوطن هو الانعكاس الساذج للفداء، الموت البئيس داخل ذاكرته الناسية دوما، لا معني لأن يبقي الإنسان مستفردا بالانتماء، فتصير الحياة، كل الحياة خارج مدارات ما سمي تواطئا ب.. »الوطن«.
نريد وطنا يرادف الحياة والأمل، وطن يهب حق الوجود ويضمنه للبشر كما للعصافير والأشجار والشواطئ، وطن يهب بطاقات الانتماء لما تبقي لنا من أطلال الأجداد، قصص الجدات، سكان الغابات، وللمنقرضين من هؤلاء نُصبا ترفعهم لمقام الشهداء.
لا معني لأن تبقي السياسة هي إلزامية تصفيق الجهة اليسري من المشهد ما دامت الجهة اليمني فعلت ذلك، لا معني لأن تبقي السياسة هي القدرة علي تهديد الأمل الجماعي، القدرة علي التهديد بالبلادة و السخف كل الرافضين و المنتمين لحزب الاب.
وما السياسة سوي تصريف لكل أنواع الممكن من الحياة، أن تصير السلطة هي القدرة القصوي علي عكس الحياة في العالم، أن يصير الدفاع عن حق شجرة في الوجود أسمي معاني النضال، وحتي الاستبداد يصير له معني ممكن، فالانحياز للألوان، والتعصب في الانحياز للون الأخضر علي الخصوص، سيعد أرقي أنواع التطرف.
أزمتنا هي أزمة فُُهوم بائسة، بارديغمات تتصلب و تتعنت في إضفاء الحزن علي وجودنا المنسحبة إنسانيته ببطء، مؤسسات البلاهة و الحمق التي توهمنا بنبوءات الخلاص، بشعارات قرب النهايات السعيدة، و اقتراب وصول البطل المخلص، بطلنا المفدي، قائد معركتنا الأخيرة نحو الخلود.
أكذوبات كثيرة تتلاقفنا و تمكر بنا علي أساس أنها ركائز بنيان منطقنا السليم، وما هي إلا خدع صنعناها، خدع نربي أذهاننا، وأذهان نسلنا علي أن فيها الخلاص، وبها يكون سواء السبيل، فيصير اللاعدل، واللاسلم، واللاحرية هو ما يهددنا في غياب المؤسسات، ولا إنسان في الأفق ما دامت ليست هناك جدران تحتويه.
المؤسسات هي محض جدران نضفي عليها قداسة السلطة و رهبة الاحتكار والنفوذ، لتصير معابدنا الجديدة، امتداد لرُهاب التيه عن مسار الحقيقة والسواء، وجودها، بل أقصي ممكنات وجودها هي في الرهبة التي نصنع نحن حولها. لا نحتاج لبنيان وجدران لنكون عادلين، أو مسالمين، لا نحتاج لقصر مُلك، أو مبني رئاسة لنُتلقّن تمارين التسامح، وحدها الحياة بشراستها، بفرحها، بسلميتها، بعدوانيتها بكل أضدادها تعلمنا أن الإنسان هو محض - تلميذ ساذج في الغالب - إلا أنه أقصي ممكنات الوجود الذي صنعت الطبيعة، الذي لديه قدرة ما، علي الاستعاب و التعلم.
لطالما آمن أفلاطون أن الشعراء سيخذلونه في صرحه الذي دشنه احتفاءً بالحكمة، فصرخ صرخته الشهيرة »كلّلوهم بالغار..واطردوهم«، لا أدري ربما هوس الحشود رآه أفلاطون في ما يكتبه الشعراء. لو رأينا عالمنا اليوم بمنظار أفلاطون لكلل بالغار غيرهم، وما اكثر من سيطردون، سنطرد كل من تغني بالحرب والموت بكل ألوانه، لكل من يريد أن يقحمنا في خلاصه البليد، حجّرا علي حقنا في الحياة، ويقينا منه أن يد الله الذي لا يعرفه، تبارك حربه المقدسة، لكل من يلزمنا برؤية الكون بمنظاره المهترئ والمتآكل بفعل العتمة وسوء التصنيع.. سنطردهم، ونحتفي بالحياة، ولن نجدد ذكراهم بنسج شقوق أخري. سنطردهم..تأو من يدري، قد لا نستطيع! إلا أنه لابد لنا يا أصدقائي أن نكون واقعيين.. ونطلب المستحيل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.