في بداية الموجة الأولي للتمرد والانتفاض علي السلطة المصرية في أعقاب كارثة 67، وكانت الجماهير الشعبية وطلائعها والمثقفون والساسة مبهوتين من هول الحدث، هناك من جن،ومن صرخ، ومن كاد يكفر بالحكام، وخرج الطلاب والعمال يطالبون برفض تنحي عبد الناصر وتحميله المسئولية، ثم خرجوا مرة ثانية لرفض الأحكام اللينة والهينة لقادة الطيران،كان الشعب كله مذهولا،ولا يوجد بيت في مصر لم يتأثر بهذه الكارثة،وكانت قصائد الشعراء حزينة ونادبة وفيها أسي شديد،وكنا جميعا مدهوشين،وغير قادرين علي التعبير الصحيح،إلا هذا الشاعر الذي انفجر فجأة في وجه الحياة السياسية والثقافية والشعبية،فعلا انفجر،إذ أنه لم يكن معروفا علي المستوي السياسي ولا الثقافي،هو الشاعر أحمد فؤاد نجم الذي كتب قصيدته الشهيرة الحادة والجارحة "البلاغ"، والتي يبدأها: (خبطنا تحت بطاطنا يامحلا رجعة ضباطنا من خط النار يا أهل مصر المحمية بالحرامية الفول كتير والطعمية والبر عمار ح تقولي "سينا" وما "سيناشي" ماتدوشناشي ماستميت أتوبيس ماشي شاحنين أنفار إيه يعني شعب في ليل ذله ضايع كله دا كفاية بس أما تقوله: إحنا الثوار!) واعتبرها المثقفون آنذاك هي صوتهم الغائب والكامن والذي كان شاردا في الجبل المصري العتيد،وعند هذه الانفجارة الشعرية اللافتة، انفجرت سلسلة مفرقعات نقدية وفكرية علي نفس الدرجة والمستوي،وكتب محمود أمين العالم ورجاء النقاش وفؤاد زكريا وكمال النجمي وعبد الرحمن الخميسي وكامل زهيري واستاذ الموسيقي فرج العنتري وغيرهم،ولم تكن انفجارة الشاعر وحيدة،بل صاحبتها انفجارة أخري هي صوت وألحان رجل ضرير هو الشيخ إمام،وضما إليهما الفنان الفطري وضابط الإيقاع"الطبال" محمد علي،أي تشكلت وبدأت تنمو أهم ظاهرة فنية سياسية ومتمردة في ذلك الوقت،وصارت هذه الظاهرة هي الشرارة الأكثر اشتعالا في كل المحافل الطلابية والشعبية والجماهيرية،وكان من الطبيعي أن تشاهد هذا الثلاثي الفني السياسي في أي مؤتمر سياسي طلابي،أو حفل فني،وكان أحمد نجم يبدأ أولا بإلقاء قصائده علي دندنات عود الشيخ إمام،الذي فور أن ينتهي نجم من إلقاء قصائده،حتي تتعالي كلماته مرة أخري متصاعدة من حنجرة الشيخ الضرير،وكثيرا ماكان الجمهور يطلب أغنيات محددة،ويختلف الجميع حول الاستقرار علي أغنية محددة، ولكن الشيخ إمام كان يحسم ويختار وينشد،وكان الجميع يسمع ويستمتع ويردد وينتشي،وتسود حالات ثورية فريدة،وكان دوما الشيخ إمام ينهي حفلته بأغنية "جيفارا مات"، التي تنهتهي بكلمات صارخة ومحرضة تقول : (ياتجهزوا جيش الخلااااااااص ياتقولوا ع العالم خلاص) ويظل يرددها بتنويعات مختلفة،ويردد الجمهور الذي يصبح كورسا جماعيا خلفه،وكان للشيخ إمام حركة مشهورة يحدثها في نهاية كل حفل،وهي أنه يرفع عوده إلي أعلي،مع علو الهتاف والترديد،وبالطبع كان ذلك مقلقا لأمن الجامعة،وكان تهريب أو تمرير الشيخ إمام يستلزم كتيبة مقاتلة من الطلاب حتي يخرج الثلاثي الفني المتمرد في أمن وسلام. لكن أين كان نجم قبل هذا التاريخ ؟،ولماذا تأخر كل هذه الفترة حتي يكون بيننا ؟،لاحظوا أن بدايته هذه كان أبو النجوم اقترب من الأربعين من عمره،فهو من مواليد 22 مايو1929،أي كان عمره ثمانية وثلاثين عاما،إذن ما الذي عطله كل هذه الفترة،ليبدأ حيث ينتهي الشعراء،ويستعدون لإصدار أعمالهم الكاملة،ويجلسون علي منصات عامرة بالميكروفونات ليتحدثوا عن تجاربهم،وفي هذا العمر يكون الشاعر من هؤلاء بدأ يجني ما زرعت يداه،لكن هذا الشاعر لم يجن سوي الليالي الطويلة التي قضاها في السجون والمعتقلات، أو قضاها متخفيا من البوليس. في مذكراته "الفاجومي" يحكي قصة حياته كاملة،دون أن يزوقها،أو يطليها بعدد من البطولات الوهمية،فهو لا يحتاج إلي ذلك، فنجده مثلا يصف نفسه بالأحمق،وهذا لطولة لسانه،وهو الذي ذاق مرارة اليتم مبكرا،ومات أبوه المعجباني وضابط البوليس،وليس في جيبه سوي ثلاثة جنيهات،هي كل ثروته التي تركها ل "جرمأ" من العيال،أي كوم لحم كما نقول في لغتنا الدارجة،وأرسلت الأم ابنها الشقي وطويل اللسان إلي ملجأالأيتام في الزقازيق،ومن المصادفات العجيبة،كان يصاحبه فتي آخر انكتب له مستقبل حافل فيما بعد،هو الفتي عبد الحليم شبانة من قرية "الحلوات"،والذي اشتهر بعبد الحليم حافظ،وكأن الاثنين سارا في اتجاهين متعاكسين ومتناقضين،احمد فؤاد نجم سار في طريق الفقر،والثاني سار في طريق المجد والغني، رغم أنهما كانا يجتمعان معا في غرفة الموسيقي التابعة للملجأ، ويحفظان المقامات والتواشيح والأدوار والطقاطيق، وحسب صلاح عيسي كانا يعشقان الطرب،إذن كانا صديقين وزميلين،ولكن الأقدار اختلفت،والاختيارات تنوعت،للدرجة التي تحتضن السلطة واحدا،ولكنها تلفظ الآخر،وهذا لا ينفي أن عبد الحليم كان فنانا وطنيا من طراز فريد،ولكنه استطاع أن يوحد موهبته مع تطلعات الثورة،فغني لها وأنشد أجمل أغانيه في قائدها،اما الثاني فهجا هذه الثورة وقائدها،لدرجة أن هذا القائد جمال عبد الناصر،عندما اعتقل نجم في منتصف 1968، حدث أن التقي نايف حواتمة قائد الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين،وعلي استحياء طلب حواتمة من عبد الناصر أن يفرج عن ثلاثة معتقلين،وهم أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام وصلاح عيسي،ولكن عبد الناصر رد عليه في تجهم،وقال له: (ماتتعبش نفسك،التلاتة دول مش ه يطلعوا م المعتقل طول ما أنا عايش!) وبالفعل لم يخرج أبوالنجوم ورفيقاه إلا في مايو 1971 ليمارس حياته السياسية والاجتماعية،ويتزوج من الكاتبة الصحفية الكبيرة صافيناز كاظم،وهذا قد أثار تساؤلات كثيرة،أولها كيف يتزوج الشاعر الصعلوك المتمرد،من الكاتبة المثقفة خريجة الجامعة الأمريكية،والصحفية اللامعة ؟،وساعتئذ أطلق الكاتب الراحل الكبير مقولته المدهشة وقال : "كأن شكوكو تزوج من سهير القلماوي"،ورغم ذلك عاش العاشقان حياة مثيرة،وأنجبا نوارة التي سارت علي نهجهما،ورغم أن نجما أفرج عنه في عهد السادات،إلا أنه لم يحمل ضغينة لجمال عبد الناصر وكتب فيه قصيدة رثاء من أجمل ماكتب،ولكن العهود السياسية التالية لم تحتف بنجم كمايليق بشاعر كبير،وتبادل نجم والسلطات جميعا كافة أنواع التراشق،هو كان يهاجمها ويكشف عوارها،وهي كانت بالتالي تسجنه وتعتقله من أجل أن يصمت مثل آخرين،أو يجنح ناحية السلام كما جنح آخرون،ولكنه اختار الطريق الأصوب بالنسبة له،والطريق الأكثر عندا،فلم ينتم للجنة الشعر،ولم يقرأ شعره في المحافل الرسمية المصرية مطلقا،ولم يعتل منصة الأوبرا المصرية كما اعتلاها شعراء مصابون بالعقم الفني، ولكن نجما كان الأكثر تأثيرا والأكثر شعبية بين الناس.. هذه الحياة التي عاشها نجم قبل 5 يونيو،والتي أودت به إلي السجن الجنائي في قضية تزوير،حيث كان صعلوكا،فلم يجد العمل المستقر المريح،الذي يدر عليه أمولا وفيرة لتنفيذه من الجوع والفقر، ولكن كان أبو النجوم يكتب الشعر في السجن،مما نال إعجاب ضباط السجن،فينشر له المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب ديوانه الأول "من الحياة والسجن"،وتقدمه للمرة الأولي الدكتورة سهير القلماوي، محتفية به،ومثنية علي أشعاره الطازجة والبكر والمختلفة،ثم يفرج عنه في عام 1962 ليلتقي بعدها بالشيخ إمام ومحمد علي ليصنع الثلاثة هذا الثلاثي الذي أشعل مصر من أقصاها إلي أقصاها،ولم تكن هناك قضية سياسية إلا وكان الثلاثة القاسم المشترك في هذه القضية،ويحكي صلاح عيسي عن النائب البرلماني "زكريا لطفي جمعة" الذي وقف في البرلمان،وراح يحرض النواب علي هذا الشاعر "البذئ"،الذي يطلق سخافاته وبذاءاته في مجتمع ينعم بالاستقرار،وللأسف أن هذا النائب،هو نجل الزعيم والمفكر الوطني محمد لطفي جمعة. ودون أن نطيل كثيرا،نختار هنا قصيدة رئيسية من أشعاره التي كتبها أبو النجوم قبل 5 يونيو،وهي في ديوانه الثالث "حكاية الأهلي والزمالك" المجهول والذي لم ينشر في أعماله الكاملة،وقد قام نجم بتقديمه بنفسه،مرجعا فضل حماسه لكتابتها إلي الإذاعي الشهير فهمي عمر،الذي كان نجم يزوره في الإذاعة،قبل أن تقرر الإذاعة استكتاب نجم لبعض البرامج،وفي هذا الديوان يطرح نجم أبرز الملامح التي تميز ظاهرة الجماهير الكروية،وفي هذه القصيدة التي نختارها،يدور حوار حماسي بين أشهر مشجعي الفريقين في ذلك الزمان،ويكشف كافة الآراء والإفيهات التي كانت سائدة في ذلك الوقت،وهذا مالم نجده في أي مرجع آخر،وأزعم أن حذف هذه الأشعار من المتن النجومي،لهو خسارة كبيرة وفادحة،لأن ذلك يخفي جانبا من شعرية أحمد فؤاد نجم، ويحرمنا من التعرف علي الحياة الاجتماعية والفنية فة تلك المرحلة لشاعر كبير مثل أحمد فؤاد نجم،والآن إلي القصيدة.