بدت الفكرة بسيطة عندما طرحها أحد الجالسين علي المقهي، وذلك عندما قال بشكل مفاجئ "أخشي علي أطفالي من المعرفة، وأتمني لو أستطيع ألا أعلمهم"، اندهشنا لأن الكلام صادر عن رجل عمل بتدريس الفلسفة لسنوات طويلة قبل أن يتركها هكذا فجأة ودون سبب واضح "مفهوم" حتي لأقرب الناس إليه. وبعد مغادرته لجلستنا لم نستطع أن نمنع أنفسنا عن التداعي والتجادل حول الجملة التي قالها أستاذ الفلسفة. تحدثت عن الكفر بالمعرفة وقيمتها ودورها وأنها في مجتمع مثل مجتمعنا عبء أكثر منها ميزة، وكيف أنها تستهلك من عمر الإنسان وعقله وبصره وأمواله وعلاقاته بالعالم.. تأخذ الكثير ولا تعطي سوي القليل. وكنا نهز رءوسنا ونتمتم، فكثير مما يحيط بنا يؤكد ذلك. وتتابعت التعليقات عن قصة "أوديب" وعلاقتها الوطيدة بما قاله، وكيف أن المعرفة كانت الفخ الذي أوقع "بأوديب" المسكين وقضي عليه هكذا ببساطة عندما تطابقت ذروة انتصاره بانكساره ليبدو كل ما عرف خاليًا من المعني والقيمة. في لحظة وبعد طول بحث عرف "أوديب " أنه قاتل أبيه، وأنه قد تزوج أمه، وهنا توقف" أوديب" ليتأمل الموقف: أبوه تخلص منه حتي لا تتحقق النبوءة ويقتل بيد ابنه، ولكن الطفل لم يمت ويربيه أحد الرعاة وبعد سنين يقتل شيخًا هو أبوه ويتزوج أمه، وفي تلك اللحظة قرر أن يفقأ عينيه. ولا أعرف ماذا حدث لحظتها لتتوقف عن الكلام، ربما قاطعك أحد الأشخاص الحريصين علي الإدلاء بآرائهم المهمة ولا أعرف مهمة لماذا ولمن فتحول الكلام إلي موضوعات أخري لم انتبه لها فلقد انشغلت بسؤال واحد: لماذا فقأ "أوديب" عينيه؟ أو لماذا كان فقء "أوديب" لعينيه بمثابة رد فعل لوصوله إلي معرفة طالما بحث عنها؟ ولم أسأل.. ولم نلتق بعدها طوال أسابيع، ربما دون سبب أو لمعرفة منقوصة أو مغلوطة وصلت إليك ولم تجهد نفسك كالعادة في التأكد منها، وهكذا استقر داخلك أنني تآمرت عليك فقررت ألا تراني. ألا تراني هكذا جاء قرارك مثل فقء "أوديب" لعينيه. وبعدها تقابلنا، أعني رأيتني، أعني رأيتك، لكنك لم تكن كما السابق هكذا رأيتك وربما تكون رأيتني قد تغيرت عن السابق. لكنني لحظة لامس إصبعي كتلة صغيرة جامدة أسفل جلد بطنك، شعرت أنك فقأت عيني.. ولم أرك بعدها لأنك فعلتها ببساطة مدهشة ومت بالسرطان الذي طاردته كثيراً - ولا أعرف الآن هل لتنفي غيابه عن جسدك أم لتتأكد من وجوده بجسدك النحيل- طاردته كثيراً، وفي اللحظة التي عرفت بوجوده قررت أن تفقأ عينيك وتستسلم للموت في أحد أركان مستشفي حكومي. وهنا قد يتنهد أحد العارفين ببواطن الأمور والمهمين بلا سبب واضح وهو يهز رأسه ويقول "المعرفة القاتلة"، لكن تعرف رغم الأداء المسرحي أشعر الآن أن في كلامه أثرًا من حقيقة.. حتي ولو كانت حقيقة مبالغًا فيها أو مسرحية. سأعود الآن إلي "أوديب" وسأجعله بمثابة الخلفية لحكاية أخري تبدو أبسط بكثير، وهي الحكاية الأكثر شهرة في الحياة.. حكاية الزوج والزوجة والعشيق. تلك الحكاية التي تبدأ بالشك والتقصي والمراقبة، وانتهاء باكتشاف ما كان مختبئًا أو باديًا ولا نستطيع أن نراه، ولأنني أنشغل دائمًا بما يمكن أن يفكر أو يشعر به الناس، انشغلت بما يمكن أن يفكر ويشعر به هذا الزوج المخدوع طوال رحلة بحثه عن أدلة، وهل كان يبحث عن أدلة نفي أو إثبات لخيانة زوجته، وما الشعور الذي اجتاحه عندما تكشف أمامه كل شيء، ليري زوجته عارية تتأوه من اللذة بين أحضان رجل ولن أقول يعرفه. الآن أفكر فيك أنت يا صديقي، في رد فعلك عندما تسمع مني هذه الحكاية ونحن جالسان بأحد المقاهي، وكيف سيزداد شحوب وجهك وتشعر بدقة أو أكثر زائدة في صدرك. وسيشغل خلفية كلامنا ما سبق وقلناه عن التفكير العقيم لزوج يشك في سلوك زوجته لأنه كان علي علاقة جسدية بها قبل الزواج، أو ما قلناه عن الصديق المسكين الذي فاجأته البنت التي يحبها أنها خرجت من علاقة سابقة وقد فقدت عذريتها ( فهل تحمينا معرفتنا أم تنصب لنا فخاخًا تليق بنا نحن الذين تعلقنا في الهواء ففقدنا كثيرًا من غريزتنا الإنسانية ولم نصبح قديسين ؟!!). وأحكي لك عن تصنع الزوج للنوم "حالة مؤقتة للغياب"، وكيف أنه فكّر كثيرًا في طلب مراقبة تليفونه لكنه خشي من افتضاح أمره وحاول أن يوقظ غرائزه، وبدأ يتشمم ملابس زوجته بحثًا عن رائحة ذكورية لا تخصه وبدأ ينصت إليها أثناء نومها أو وهما يمارسان الجنس، منتظرًا هفوة يستطيع بواسطتها الوصول إلي شخصية ذلك العشيق، هذا الشخص الذي لا يعرف له هيئة بل لا يعرف هل هو موجود فعلاً أم مجرد شبح يطارده في نومه واليقظة. تقول: مسكين. وأقول لك: كلنا مساكين. فهل تستطيع أن تتخيل حياة هذا الرجل، وكيف حولها إلي جحيم.. جحيم حقيقي تحرق نيرانه كل شيء وتجعله بلا معني، حتي الأدلة التي أصبحت كل ما يشغل هذا الرجل الواقف علي حافة الجنون يرتعش مثل مقبل علي الانتحار. يسمع الآن صوتها وهي تقول: أنت من أحب، أنت الرجل الوحيد في حياتي، أنت حياتي ... ويذكر الآن تلك الدعابة التي كانا يتبادلانها بين الحين والآخر عن ذلك الفيلم الذي قامت بتمثيله "يسرا" مع "محمود ياسين" وكيف أن "يسرا " كانت تسأله كثيرًا: هل تحبني؟ هل ستظل مخلصًا لي؟ وتطلب منه أن يقسم علي ذلك، وكيف أنه فجأة وبالمصادفة تبين أنها خانته ولو مرة واحدة ولأي سبب ولمزيد من الحبك الدرامي خانته مع أقرب أصدقائه إليه، ونتج عن هذه الخيانة طفل وهو بالضرورة ليس للزوج "محمود ياسين" لأنه ببساطة زوج عقيم. وبينما كان الزوج يضحك مثلما كان يفعل كلما تذكرا هذا المشهد، برق في دماغه خاطر وتساءل: لماذا لا أكون أنا الآخر عقيمًا وطفلي الصغير هذا ليس بطفلي، وعندئذ همهم: سأذهب إلي الطبيب بعد أن أتأكد من خيانتها لي ( ولا أعرف لماذا لم يقرر الذهاب قبل التأكد من خيانتها؟). هل كان يستمتع بتقمص شخصية جامع الأدلة والباحث عن الحقيقة، هل كان يخشي اكتشاف أنه عقيم، هل كان يسعي لإطالة علاقتهما والاستمتاع بوجودها إلي جواره بريئة وجميلة كما أحبها ورآها منذ قابلها..؟! أذكر الآن آخر لقاء لنا بأحد مقاهي وسط البلد، حينها حدثتك عن الصعوبة التي أواجهها عند كتابة نهاية هذه القصة، فوفقاً لقصة "أوديب" يجب أن تكون النهاية مفرطة المأساوية، كأن يضبط الزوج زوجته في أحضان عشيقها فيطلق عليها النار ثم ينتحر أو يصاب بالجنون. ولو شئت مجاراة الحوادث التي تنشرها الصحف يومياً، فستأتي النهاية بمؤامرة بين الزوجة وعشيقها للتخلص من الزوج المسكين، وهنا من الممكن استخدام الطفل للإيحاء؛ فلو قتلاه فإن ذلك يوحي بأنه ابن للزوج القتيل، ولو تركاه فسيوحي ذلك بأنه ابن للعشيق القاتل..! وأذكر يومها أنك هززت رأسك وكان وجهك شاحباً كالعادة وقلت: ما رأيك في موت الزوج فجأة في حادث سيارة مثلًا أو أزمة قلبية أو بالسرطان..!!