لا أحدَ يقول أن هنا جميلُ، ولا أحد يقول حتي أن هنا سهلُ أيضا كل ما هنالك أن هنا قاطعُ وحاسم ولو أنكَ انتبهت لمساراتِ الشوارعِ المصفوفةِ كلَها فإن المدينة لا يمكن أن تؤذيك توني مارسون، رواية جاز أراد أن يعرفَ تحديداً كم الساعةُ الآن فهو مذ دخلَ القاهرةَ لايثق في ساعات الميادين ولا المحطات ولا حتي في ساعة يده التي خلعها ودخل دكانَ الساعاتِ في وسطِ البلدْ إلي حيث كلُ ساعةٍ تشيرُ لوقتٍ ما. "أهي الخامسةُ تماماً؟" لم يكن متأكداً. قد تكون وخمسةُ وعشرون دقيقة، أو وعشرةُ بل قد تكون إلا عشرةُ وعشرون ثانية. التيقنُ مطلوبْ. ما جدوي العالم بلا حقيقةٍ راسخةْ؟ الزمنُ كالموتِ يقطعْ. قد لا تكون الخامسةُ ضوءُ الغسقِ يُضل قد تكون السادسةُ إلا الربعْ. ومر الزمنُ عليه بطيئاً فكلت عيناه وبردت كفاه ونَحِلّا ووآتته الظنونُ من كلِ ناحيةْ. ماذا لو أن الساعاتِ جميعَها مخطئةْ؟ وأن الزمنَ غير معلومٍ بطبيعتهْ. ثم أين الوقت؟ أين الوقت؟ إنه هناك في الشمسِ والقمرِ والنجومْ. ............ ها أنا أتٍ إليكِ يا قاهرةَ راضياً أن تطحنينيَّ تماماً بل أنْ أكونَ غبارَ الطحينْ. تاركاً كل َشيءٍ خلفَ ظهري أنسابُ بين الشوارعِ نحيلاً كخيطَ دخانٍ بلا أسمٍ بلا دينٍ بلا أهلٍ ولابيتٍ ولا مالٍ تسلمني الشوارعُ لبعضِها ولا أَصِلْ. وها أنا الآن أخلعُ حذائي وملابسي ولا أريدُ الوصول راضياً بالمشي والموتِ وبالقضاءِ والقدر. ...... السياراتُ كثيرة تمشي كالصراصير وتتجمعُ كالصراصير لكنها أشد من الصراصير فطنة فهي تعلم أن الأحمرَ لونُ الوقوف والأصفرَ لونُ التأهبِ والأخضرَ لونُ المسير. يقفون فجأة ويسيرون فجأة كأن الفجأةَ هي قانونُ الوجود. وعلي الطرقاتِ السريعةِ ينطلقون كالقضاءِ الأعمي حتي سائقوها يجهلُون أين تكون محطتُهم الأخيرة. تتحول إذ ما عبر الواحدُ طريقاً دون أن تكون شارةَ العبور لثيران تنطحُ من جاء دورٌه. ومع ذلك تدخل في كل ساعة سيارةُ جديدة يكون مستقرَها ومجراها بالقاهرةْ. فإلي أينَ تروحُ السياراتُ القديمةُ والتي تعرضتْ لحادثِ. إنها هناك في المكبسِ تتعرضُ لضغطٍ شديدْ يهرس ُكلَ قائمٍ فيهَا مكانَ الكشافاتِ والكاسيتِ والمقاعدْ وتجويفَها الداخلي يضغطها لتصيرَ بلا هيئةٍ مجردَ كتلٍ معدنيةٍ مكعبةْ تُلقي في أفرانِ الصلبْ وتُصب علي شاكلةِ مساميرٍ وألواحٍ وقوائمٍ لتكونَ فيما بعدْ معداتٍ وثلاجاتٍ وبوتاجازاتٍ وسياراتْ. أيتُها السياراتُ رفقاً بعابري الطريقْ ذوي الهياكلِ العظميةِ قاطعي المسارْ إنهم يجهلون ألمَ الارتطامِ بكتلةٍ معدنيةٍ مسرعةْ المتعجليَّن دائماً الذينَ لا يطيقُونَ أنتظارَ الإذنِ بالعبورْ الذين يظنُون أنَ خطوتَهم أسرعُ من عقربِ الساعاتْ إنهم لا يعلمون أنهُ لا أحدَ يملكُ الوقتْ. " مات الوقتُ بالقاهرة مات الصبحُ والظهرُ والعصرُ والمغربُ والعشاءْ وصار اليومُ إظلاماً وإصباحْ" صاح الذي خرج لتوه من دكان الساعات وهو يعبرُ شارعَ طلعتِ حرب ........ ما الذي كانتْ تفكرُ فيه المرأةُ الكومبارس و البنتُ التي كانتْ معهَا وهما تمشيان في شارع طلعت حرب أمامَ الكاميرا خفيفتان كأنهَما في مكان غير القاهرة تطوحُ كلُ واحدةٍ يدها وتنظرُ للثانيةْ وتبتسمان كأنهما نغمةُ أبديةُ إنطلقتْ كأن الحياةَ هي الآنَ وفقط. " لكم كانتْ حياتي ستكونُ جميلةً لو أنني ظللتُ معهُ الرهيفُ الطيب الشغوفُ ذو اليدِ الباردةِ النحيلةْ كيف تركتُه خفيفَ الصدر أو كنتُ أبغي الإنسحاقَ أنا الهشةُ مثلَ زجاجِ المصابيحْ حين اندسَّتُ وسطَ زجاجاتٍ دواء غليظة ملونة ضغطتني حتي تهشمتُ ليتني بقيتُ معه الرقيقُ القويُ كزجاجِ الأمبولْ وليت البنتَ كانتْ ابنتُه ليته الآنَ قد عادَ من عملِه و يقرأُ ما كتبتُه له في الورقةِ الصغيرةْ "نحن ذاهبتان لشراءِ الورودِ ياحبيبي". لكن الحياةَ عادتْ بدونِه عند إيقافِ التصوير وانطفأت عينُ المرأة لتبدو كأي امرأة متعبة تقف وسط شارع طلعت حرب بجوارها البنتُ نافرة البنتُ التي تصدقُ أنها الأحلي والأشهي وتريدُ أن ينظرَ إليها الجميع وتخاف إن اقتربَ منها أحدْ بها رغبةُ تعرفُ كيفَ تكبتُها وهي أن تتجردَ من ثيابها وتمشي في الطين تعارك الأولاد. هي الآن جهمة تهزُ قدمها في انتظارِ إعادةِ المشهدْ. ثم ثانيةً تنطلقان خفيفتيَّن كأنهماَ في مكانٍ غيرِ القاهرة تطوحُ كلُ واحدةٍ يدَها وتنظرُ للأخري وتبتسمان. " يا لرقةِ هذه الوجهِ حينَ يبتسم ليتَها كانتْ أُمي ليتَها ترضي أن تنسيَ حزنَها وتأتي معي إلي الأحراشِ كي نمشي في الطينِ عاريتيَّن نعاركُ الرجالْ". ........ متعبوُن منْ هُمْ بالقاهرة حتي وإن ارتديَ الواحدُ منهم ملابس أنيقةْ. سواءَ كان يمشي مسرعاً أو بطيئاً مقبلاً أم مدبراً سواء كان بلحيةٍ أو بدونْ باشَ الوجهِ أو جهماً الكلُ متعبٌ تعبَ الذي لا يعرفُ للحياةِ جدوي. وينادي المنادي بولاق بولاق وراق وراق رمسيس رمسيس فينفر الكل كلُ إلي مناديه جارّين أثقالَهم ناسيَّن أسئلتَهم لا يعرفون شيئاً سوي الركوبِ والعودةِ إلي البيت. لو تنظرُ لهم من أعلي تجدهم في رواحِهم وإيابِهم كالنيل أو هم أقرب في دواماتِه وتموجاتِه واندفاعاته في كلِ مجري بعنفِ قلبِه وخمولِ أطرافِه. لايعرفون النومَ تسمع أصواتِهم في سكونِ الكون كهمهمة أو كهدير لا تعرفُ من أينَ يصدرُ. .......... صوتُها حادُ ضيقُ الطبقةِ قصيرُ النفس سرعانَ ما يستحيلُ أجش كلما شتمتْ أحدَهم كأن صوتَها يزجرُ الواقفَ أمامها لو همَّ أن يردَ عليها. صوتُها المفعمُ بالقسوةِ والأسي الصادرُ من جسدٍ مدكوكٍ كطبلٍ تجويفُه ضيق الذي لم يستكن لتنهيدة ولم تجلجله ضحكةُ صافية هو بمثابةِ مخلبُ لها تشهرهَ في وجهِ من تشاء. امرأةُ تعرفُ أن الواقفَ أمامَها يعرفُ أنها تأكلُ من ثديِها ولاتخجل ولقبحِ وجهها كان الرجالُ يدقون طبلَها الضيقَ دقاتٍ سريعةً متتالية ثم يمسكون يغادرونها كأنها مجردُ طبلٍ أحدثَ ضجيجاً وسكتْ ما مسدهُ الضاربُ عليّهِ قبل ضربه فما رق جلده و أحدث لحناً. كرهتْهم وكرهتْ ثديَها وجسدَها المدكوكَ كالطبل وصارتْ تسوقُ إليهم طبولاً كالفتياتِ وفتياتٍ كالطبول واعتاد الحسدُ أكلَ كبدِها كلما أجادوا الدق وسمعت ألحاناً تخرج من الغرف المغلقة حتي نحِلَ عودُها وجف جلدُ طبلِها وما عادتْ تصلح إلا لرجال يائسيّن تستلذ شتمَهم كأن قضيباً ينبت لجسدها كلما شتمت أحدهم عندها يجشُ صوتُها ويطغي علي خريرِ الصرفِ في دورة المياه علي صوتِ ثلاجةِ البيت وصوتِ الجيرانِ وأجهزتِهم يخرجُ من النافذةِ لينتشرَ في الشارعِ مسموعاً لايعوقُ وضوحَه إلا صوتُ ماكينةِ في دكانِ خياط وصوتُ عالٍ لشخص يمازحُ في الهاتفِ صاحبَه وصاحبُه علي الجهة الثانية ينتظرُ المترو في أُذنِه صوتُها يمتزجُ بصوت ماكينةِ الخياطِ بضحكِ صاحبِه بصوتِ قرآنٍ يخرجُ من هاتفٍ محمول بأغنيةٍ يرددُها رجلُ يقفُ وحيداً بكلمات كالتمتمات ثم يأتي صريرُ مكابحِ المترو كاسحاً صوت َكلِ شيء. ........ كسن الخلاط إذ يجذب قطعَ الثمارِ الصلبة في ضجيجٍ هكذا تحيلُ القاهرةُ من فيها إلي عصير. تقطعُ وتطحنُ وفي نعومةٍ تخفق المخلوط. وحدها البذورُ وكتلُ الأليافِ تظلُ في القاع لا مقطوعةً ولا مخفوقة متماسكة لأن طبيعتَها كذلك .