1 عادي. يحدث هذا الأمر دائماً وليست المرّة الأولي. يفشل فيلم جيد علي الرغم من أنه كان جيّداً؛ مكتوباً بشكل ممتاز وتنفيذه كان متقناً فيما أبطاله كانوا فوق مستوي التوقع، لكنه لقي فشلاً واسعاً. ربما زمن عرضه كان في توقيت يتعارض مع التوقيت المفترض، التلامذة في انشغالهم باختباراتهم المدرسية والناس مشغولة في أعيادها، أو لمناسبة رمضان مثلا حيث لا يذهب البني آدم إلي السينما. عادي، يحدث الأمر ولا شيء باليد. تتشابه القصة هنا. كان اليأس قد وصل. أو هي تلك اللحظة التي تلمسنا بقوة ونعتقد فيها أنه لم يعد منطقياً أن نفعل خطوة أخري. من الجيد أن يكون الواحد منّا عاقلاً وموضوعياً كي لا يفقد مزيداً من الوقت والخطوات. بالنسبة لي، كان هذا ضرورياً ومفيداً في آن. لقد فعل الشباب ما فعلوا وجزاهم الوطن خيراً، فعلوا ثورة ووضعوها علي الطريق وسارت بقوة. راح المئات منهم إلي الموت وما تزال صورهم مُعلّقة إلي اليوم في محيط اساحة التغيير»، المكان الذي شهد إعلان ثورتهم، وما تزال تلك الصورة تذكرنا بهم. انتهي نظام علي عبد الله صالح وأخذنا جائزة نوبل للسلام وهو أمر جيّد للغاية. أتي رئيس جديد من نفس النظام السابق ومع ذلك فرحنا. ما كان يهمنا أولاً هو إسقاط علي عبد الله صالح كمرحلة وشخص وهنا سقطنا. كان الحقد المريض مسيطراً وبقوة. لم نكن نعرف أننا سقطنا معه عندما استرحنا لهذه الفكرة ورضينا بها؛ استبدال النظام من داخل النظام لتظهر ثورتنا لاحقاً معطوبة وواقعة في مضيق لا يمكن لها أن تخرج منه ثانية. دخلت السعودية االشقيقةب في السياق ومعها أمريكا، وبعدها دخل كل كبار العالم ليتم تأطير ما فعلناه من ثورة ب احل سياسيب. ودخل القدامي، خرجوا من جحورهم، تقدّم الإخوان، إخوان اليمن، وأكلوا الثورة، هذه الثورة التي أعلنوا باسمها الجهاد وصاروا متربعين علي مركز الصدارة فيها. الثورة لم تعد مستمرة. 2 هنا، كان اليأس قد وصل. لم يعد في القلب طاقة لنفعل الأمر مجدداً. لقد حاولنا وانتهي الأمر. من الجيّد أن نقوم بتكريس العمر الباقي من حياتنا لفعل أشياء أخري سهلة وممكنة. ثم من أين سنأتي بالمؤثرات الخارجية التي كانت وقتها من الأسباب الكبيرة التي دفعتنا لفعل ثورة! ما كان وقتها في تونسوالقاهرة مع بقاء هذه الأخيرة الأكثر تأثيراً فينا؛ والأسباب بالنسبة لأهل اليمن كثيرة. وكانت استراحتنا، رجعنا إلي بيوتنا ونحن نفكر ماذا سوف نعمل بأيامنا القادمة. عادت فتاوي التكفير مجدداً فقد عادت اليمن إلي الدين الإسلامي. حتي تلك الاستراحة لم يتركوها لنا ونحن نلقي أنفسنا مطاردين من محاكمة إلي أخري ومن تضامن إلي آخر وراء الشباب الذين يساقون إلي هناك بتهمة الكفر والرّدة. ولم يكن الأمر سهلاً ونحن نري ذات الأمر يحصل في مصر الكبيرة. ما يحدث في مصر يحدث بالضرورة في اليمن كما أن الإخوان هنا هم إخوة للإخوان هناك. لديهم مرشد هناك ولدينا محمد بديع هنا، لديهم البلتاجي هناك ولدينا أكثر من بلتاجي هنا ولا يرتدون بزة إفرنجية ولا كرافتة. لديهم مرسي هناك ولدينا عبد المجيد الزنداني هنا. نحن إخوة في الإخوة! وللذكري هنا: محمد بديع اشتغل في اليمن من العام 1982 إلي العام 1986 وعمل مع إخوان اليمن علي تأسيس المعهد العالي للعلوم البيطرية كما كرّس مجهوداً إضافياً لدعم مدارس الدين اليمنية التي انتشرت مثل النار علي ثياب الثورة وأكلت كل شيء. كما كان معنا صلاح عبد المقصود واشتغل فترة غير قصيرة في إعلام إخوان اليمن السعيد. خيرت الشاطر شريك كبير في تجارة القيادي اليمني الشهير حميد الأحمر الذي كان آخر قيادي من الإخوان المسلمين يلتقي بالرئيس المعزول مرسي في القاهرة قبل أيام من 30 يونيو. وعليه اكتملت القصة من شتي أركانها، ظهرت مكتملة بشكل مرعب ومؤلم ويدفع للبكاء، ليس ذاك النوع من البكاء الذي يكون خفية ومن وراء الأعين ولكن بكاءً علنياً وصريحاً يقول بحجم الكارثة التي صرنا بداخلها. لا نفع هنا للغناء مجدداً كما فعلنا في ثورة يناير هاتفين بنبرات صادقة صارخة: يا مصر قومي وشدّي الحيل. لكن ظهر أن الذي بني مصر لم يكن حلواني بل ظهر أنه إخواني. وعليه لم يعد هذا الغناء ممكناً ونحن نري لقلب الأمة في نهاية كل مساء وهو يعلن ختام برامجه بفتاوي قناة مصر 25، والحافظ، وخميس، وما جاء علي سياقها. قناة السويس للبيع والأهرامات كذلك، وتماثيل الأقصر حرام. كل هذا كان كافياً كي نشعر بيأس من الدنيا والآخرة. أن نضع الأمل في جيوبنا الصغيرة ونمضي إلي مكان بعيد عن أي منطقة قد تقودنا إلي احتمال تفكير أن تعود الثورة إلي سياقها الطبيعي وأن تبدأ من النقطة الأولي مجدداً. لسنا أقوياء كي نقترف مثل هكذا احتمال عبطي وعبثي. 3 وهكذا استقبلنا أخبار»تمرد«. كنا نقول: لا يُضرب المؤمن الثائر من ذات الهزيمة مرتين. لقد انكوينا ولم يعد في جلودنا احتمال أو طاقة لتلقي لسعات جديدة. لم يعد لدينا من الأمل ما يكفي، هو شأن مصري ولا شأن لنا به، يكفي ما قد صرنا عليه من حياة لم تعد حياة وخالية من أبسط مقوماتها؛ الكهرباء مثلاً أو المياه أو الوظائف التي تم فصلنا منها. تبقي صنعاء والمدن الأخري في الظلام التام لأيام متتالية وأصبحت تجارة المحركات المولدة للكهرباء من أكثر التجارات رواجاً وتقدماً، وأغنياء الإخوان المسلمين هم الرابح الأكبر. صرنا نبحث عن الخبز والزاد وإليه مالاً إضافياً كي نتمكن من شراء تنكة بنزين يمكن لتلك المحركات أن تعمل بها وتأتي بالكهرباء كي نقدر علي متابعة أخبار العالم والكون، ألسنا من هذا الكون والعالم! هكذا كنا نخدع أنفسنا. و30 يونيو أيضاً. قلنا سنتابع فقط لكن بدون أمل، سنتابع فقط من باب حقوق الجيران لبعضها والدم المصري الذي سال علي تراب اليمن كثير وغالي ونحن لا ننسي أبداً. وعليه تابعنا. لقد صرنا عجزة ولدينا من الوقت الكثير كي نتابع، مجرد مشاهدين لا أكثر. فتعال يا 30 يونيو، تعالوا يا »تمرد«، تقدموا ونحن هنا نتابع، هذا ما لدينا وأقصي مانقدر عليه. لكن من كان يعتقد أن يحدث ما حدث! 4 باختصار. عادي. يحدث أن تنهض من نومك وأنت ما تزال محاطاً بحلم مبهج أو بطشِة أمل وقشعريرة تشبه تلك القشعريرة التي انتابت لذلك الصبي الصغير في فيلم »بحب السيما« وهو يركب علي دراجة هوائية يقودها والده (محمود حميدة). لا أعرف هنا سبب التشبيه لكن شعرت أن الأمر الأول يشبه الثاني. أو هي تلك القشعريرة التي حصلت لي وأنا استعيد يومياتي في ميدان التحرير، في القاهرة قبل عامين، عندما كنت أسمع لصوت حبية قلبي شادية وهو قادم من تلك الميكرفونات المرتفعة عند التقاطع المؤدي إلي محل دجاج كنتاكي الذي كان يقوم بتوزيع وجبات للثوّار في ميدان التحرير (ابتسامة).. كان ذلك الصوت، صوت شادية يرتفع منشداً: »ماشفش الامل في عيون الولاد وصبايا البلد... والعزم اتولد». لكن هذه المرّة كان الصوت في صنعاء. تحوّل الناس، الكثير من الناس إلي مصريين؛ وهذه عادة يمنية بامتياز. لقد امتلأت الميادين مرة أخري وعاد المشهد الأول وبعدد مضاعف بكثير، ومصر قامت وشدّت الحيل. نسينا وقتها كل شأن يمني محلي، صار الحديث عن انقطاع الكهرباء أو الماء أو أي شيء صار أمراً يقع في مستوي التفاهة ولا ينبغي التطرق إليه مطلقاً. اليمن تعود إلي مصريتها فيما إخوانها يعودون إلي الجذر الرئيسي والشبكة الأم والتنظيم الدولي. قال زعيمهم بلهجة صارخة :الإسلام قادم. حزب الإخوان أعلن في بيان شرس أن الانقلاب سوف يرتد علي أصحابه وسيكون النصر لمرسي. توكل كرمان، صاحبة نوبل للسلام فعلت بداية جيّدة ووقفت مع ثورة شباب تمرّد، لكن رد الفعل الإخواني اليمني كان قاسياً عليها وغير متوقعاً أبداً؛ أحدهم وصفها بالعاهرة وأنها تحب تقليد علياء المهدي. هجوم لا أخلاقي أجبرها أن تعمل علي تغيير اتجاهها تماماً وإلي الضفة الأخري. كتبت علي صفحتها كلاماً لا يُفهم منه إلا طبيعة ذلك الضغط الذي تعرضت له من حزبها الأصولي. لكن يا ليتها سكتت، كان هذا خير لها. 5 لكن ذهب الإخوان هناك ومازالوا هنا. كائنات أصولية يمنية هم أشقّاء لإخوتهم هناك. كائنات تتحدث كثيراً ولكن كل كلامها يبقي بلا معني. يجبروننا علي اعتبارهم كائنات زائدة تعمل علي تضييق حياتنا ولا يمنحوا فرصة للتفاهم حول إمكانية الوصول إلي نقاط التقاء مشتركة. كأنهم الأصل ونحن خارج الصورة ولهذا سيكون سقوطهم قريباً. لكن، نحن لن نقع في السقوط مرتين، لن نحقد ولن نعاقب أو نقصي. لن نكرر تجربة علي عبد الله صالح مرة أخري. 6 مصر عادت.. نعم عادت.