"الأزهر" يرفض و"الأوقاف" تتغول على صلاحياته " .."برلمان الانقلاب " يقر قانون تنظيم الفتوى بعد فتوى الدكتور "إمام    وزير الزراعة: تحسن ملحوظ فى إنتاجية القمح بنسبة زيادة تتراوح بين 7% و10%    البنك الإسلامي للتنمية والبنك الآسيوي للتنمية يتعهدان بتقديم ملياري دولار لمشاريع التنمية المشتركة    تركيا والولايات المتحدة تعربان عن استعدادهما لتسهيل عملية السلام في أوكرانيا    ماكرون يهنئ ميرتس بمناسبة انتخابه مستشارا جديدا لألمانيا    "أهلي 2009" يفوز على زد بخماسية في ختام دوري الجمهورية لكرة القدم النسائية    لامين يامال يقود تشكيل برشلونة أمام إنتر ميلان في دوري أبطال أوروبا    "ثقافة الفيوم" تشارك في فعاليات مشروع "صقر 149" بمعسكر إيواء المحافظة    نص دعاء نية الحج عند الإحرام.. للقارن والمفرد والمتمتع    إنهاء خصومة ثأرية بين عائلتين بالفيوم (صور)    في اليوم العالمي للربو 2025.. كيف تسيطر على النوبة؟    بولندا تتهم روسيا بالتدخل في حملة الانتخابات الرئاسية    محافظ دمياط: إطلاق حزمة من الإجراءات لإحياء حرفة النحت على الخشب    وفد البنك الدولى ومنظمة الصحة العالمية في زيارة لمنشآت صحية بأسيوط    محافظ الغربية يجرى جولة بمدينة طنطا سيرا على الأقدام    من منتدى «اسمع واتكلم».. ضياء رشوان: فلسطين قضية الأمة والانتماء العربى لها حقيقى لا يُنكر    مدير المركز القومي للترجمة تبحث سبل تعزيز التعاون مع القائم بأعمال سفير الهند بالقاهرة    نجوم الفن وصناع السينما يشاركون في افتتاح سمبوزيوم «المرأة والحياة» بأسوان    أحدث ظهور ل ابنة نور الشريف    ظافر العابدين ينضم لأبطال فيلم السلم والثعبان 2    استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني لحماية المرأة    «النهارده كام هجري؟».. تعرف على تاريخ اليوم في التقويم الهجري والميلادي    أمين الفتوى: الزواج قد يكون «حرامًا» لبعض الرجال أو النساء    الكرملين: بوتين سيزور الصين في أغسطس المقبل    حالة الطقس غدا الأربعاء 7-5-2025 في محافظة الفيوم    ولي العهد يتلقى رسالة خطية من رئيس الحكومة المؤقتة في بنجلاديش    البابا تواضروس الثاني يزور البرلمان الصربي: "نحن نبني جسور المحبة بين الشعوب"    النائب العام يشارك في فعاليات قمة حوكمة التقنيات الناشئة بالإمارات    بعد اغتصاب مراهق لكلب.. عالم أزهري يوضح حكم إتيان البهيمة    رافينيا يرشح محمد صلاح للفوز بالكرة الذهبية    جدول امتحانات الصف الثاني الثانوي 2025 في محافظة البحيرة الترم الثاني 2025    تأجيل محاكمة 7 متهمين في خلية "مدينة نصر" الإرهابية ل 16 يونيو    منها إنشاء مراكز بيع outlet.. «مدبولي» يستعرض إجراءات تيسير دخول الماركات العالمية إلى الأسواق المصرية    رئيس "شباب النواب": استضافة مصر لبطولة الفروسية تعكس مكانة مصر كوجهة رياضية عالمية    رئيس شركة فيزا يعرض مقترحًا لزيادة تدفق العملات الأجنبية لمصر -تفاصيل    ضبط مصنعات لحوم غير صالحة للاستهلاك الآدمى فى حملة بسوهاج    موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى 2025 في مصر والدول العربية    مشروبات صحية يُنصح بتناولها لمرضى السرطان    الأهلي يحيي الذكرى ال 23 لرحيل صالح سليم: الأب الروحي..لن ننساك يا مايسترو    تأجيل محاكمة نقاش قتل زوجته فى العمرانية بسبب 120 جنيها لجلسة 2 يونيو    بعد رحيله عن الأهلي.. تقارير: عرض إماراتي يغازل مارسيل كولر    نائب وزير الصحة: تحسين الخصائص السكانية ركيزة أساسية في الخطة العاجلة لتحقيق التنمية الشاملة    المخرج جون وونج سون يزور مقر مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي بالقاهرة    ضبط محل يبيع أجهزة ريسيفر غير مصرح بتداولها في الشرقية    جامعة كفر الشيخ تنظّم ندوة للتوعية بخطورة التنمر وأثره على الفرد والمجتمع    "الخارجية" تتابع موقف السفينة التي تقل بحارة مصريين قبالة السواحل الإماراتية    الجيش الإسرائيلي يصدر إنذارا بإخلاء منطقة مطار صنعاء الدولي بشكل فوري    جزاءات رادعة للعاملين بمستشفى أبوكبير المركزي    وكيل الأزهر: على الشباب معرفة طبيعة العدو الصهيوني العدوانية والعنصرية والتوسعية والاستعمارية    مجلس مدينة الحسنة يواصل إزالة الآثار الناجمة عن السيول بوسط سيناء    ادعوله بالرحمة.. وصول جثمان الفنان نعيم عيسى مسجد المنارة بالإسكندرية.. مباشر    "هذه أحكام كرة القدم".. لاعب الزمالك يوجه رسالة مؤثرة للجماهير    باكستان تتهم الهند بوقف تدفق مياه نهر تشيناب    مدرب كريستال بالاس: هذا ما يجب علينا تقبله    وزير الثقافة يطلق مشروع "أهلا وسهلا بالطلبة" بتخفيض 50% للمسارح والمتاحف    «الداخلية»: ضبط شخص عرض سيارة غير قابلة للترخيص للبيع عبر «فيس بوك»    حالة الطقس اليوم الثلاثاء 6 مايو في مصر    إلغاء الرحلات الجوية بعد استهداف مطار بورتسودان بمسيرات للدعم السريع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكري محمود درويش: وطن في شاعر فگر بغيرك..!
نشر في أخبار الأدب يوم 13 - 07 - 2013

"فكر بغيرك"..... تخايلني دائما هذه القصيدة لمحمود درويش، تخايلني في الصحو وفي المنام.. تساءلني في الليل عما فعلته في الصباح.. تستجوبني في الصمت وعند الكلام.. تجعلني أقدم كشف حساب لنفسي عما فعلته نفسي، عما قالته يدي ليدي عند المصافحة وعند الخصام!، ما أبصرته وما أخفاه عن الكحل جفني، وما قالته عيني لعيني ساعة الدمع وعند الملام! قصيدة تعلق نجاة الكل بما يبذله الفرد "أنا هو أنت/ ونحن أنا"، قصيدة تلزم كل إنسان بطائره في عنقه لتجعل المرء مسئولا عن إنسانيته مسئولا عن وجوده ووجود الآخرين وتعلن أن الحرية التزام وإذا قال الآخر: "نفسي.. نفسي" فلنقل نحن: "الآخرين.. الآخرين".
"فكر بغيرك" هي في رأيي قصيدة لكل العصور، قصيدة لكل ساعة وكل دقيقة يتأملها المرء فيتحمل خصاصته من أجل الآخرين، تعلي من شأن الإيثار علي الأثرة، تجسد روح الإنسان وقدرته علي المقاومة وتعزز مسئوليته تجاه نفسه وتجاه الآخرين.
"فكر بغيرك" هي الجوهر الحقيقي لشخصية الشاعر محمود درويش الذي تحول من شاعر إلي وطن ومن رحلة البحث في لسان العرب عن كلمة "بيت" إلي كل بيوتات العرب خيمة ندق أوتادها في أعماق قلوبنا، وقيمة نتلمسها كلما غابت المعاني في ظلمة العتمان، وكلمة شاعرة إذا ذبلت في أعيننا أوراق الكلمات.
"فكر بغيرك"
وأنت تعد فطورك، فكر بغيرك
لاتنس قوت الحمام
وأنت تخوض حروبك، فكر بغيرك
لاتنس من يطلبون السلام
وأنت تسدد فاتورة الماء، فكر بغيرك
من يرضعون الغمام
وأنت تعود إلي البيت، بيتك، فكر بغيرك
لاتنس شعب الخيام
وأنت تنام وتحصي الكواكب، فكر بغيرك
ثمة من لم يجد حيزا للمنام
وأنت تحرر نفسك بالاستعارات، فكر بغيرك
من فقدوا حقهم في الكلام
وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكر بنفسك
قل: ليتني شمعة في الظلام
......
وحتي هذه المرة الوحيدة التي اختار الشاعر محمود درويش أن يقول فيها "فكر بنفسك" فقد عاجلها بنفس تلك الرغبة في الإيثار والتعاطف ".. قل: ليتني شمعة في الظلام".
لقد ترك محمود درويش هذه الشمعة المضيئة دائما في نفوسنا وبين جوانحنا نمد أيدينا إليها فنستمد من حرارتها دفء ومن نورها نورا علي نور.. إنها تلك الشمعة التي لابد أن نتبرك بنارها، ونقبل جمرها دون أن تتحرق لنا يد ولا شفاه فإنها الشعلة التي لن تخمد جذوتها، لأنها حب يضيء عتمات النفوس وتنبيء أن ما للإنسان علي ظهر الأرض إلا أخاه الإنسان.
المكان هو العاطفة:
من دواوينه الأولي إلي دواوينه الأخيرة، من "أوراق الزيتون" و"عاشق من فلسطين مرورا بديوانيه "آخر الليل" و"العصافير تموت في الجليل" وحتي "ورد أقل" و"حالة حصار" و"هذا انتحار العاشق" وحتي نصل إلي دواوينه الأخيرة "لماذا تركت الحصان وحيدا؟" و"كزهر اللوز أو أبعد" نجد رحلة شعرية عريضة ظل فيها الشاعر الفلسطيني محمود درويش باحثا عن البيت.. الوطن.، لقد طاف شاعرنا العالم فلم يجد بيتا يشبه بيته في قرية "البروة" ورفضت إسرائيل عودته إليها حيا وميتا فكتب علي شاهد قبره اسم قريته التي لم يعد إليها ونقش مقولته الخالدة علي شاهد الرخام:
"علي هذه الأرض
سيدة الأرض
ما يستحق الحياة"
وبذلك يكون شاعرنا قد حفر اسم هذه القرية الخالدة "البروة" في ذاكرة العالم مؤكدا أن إرادة الشعوب في التحرر لا يمكن أن تغلب، وإذا أرادت الشعوب حريتها فلابد أن يستجيب القدر.
"بلاد علي أهبة الفجر
عما قليل
تنام الكواكب في لغة الشعر
عما قليل
نودع هذا الطريق الطويل
ونسأل من أين نبدأ؟"
لقد ظل سؤال البدء هو سؤال الختام في حياة محمود درويش وشعره.. السؤال عن البلاد والبيت والأمل فيهما اصطنع الشاعر علي عينيه بيتا خالدا في اللغة عندما لم يجد الطريق إلي بيته في "البروة"... وكان هذا السؤال وذلك البحث هو سؤاله الوجودي وبحثه الشعري عن بيته الصبوة والمشتهي فلقد تحول حادث السطو علي بلاده وقريته وبيته إلي مشهد مؤلم نقشته الذاكرة فيطالعنا في كل قصيدة بل وفي كل كلمة فيقول درويش في ديوانه "كزهر اللوز أو أبعد": "كان جناحي صغيرا علي الريح عامئذ كنت أحسب أن المكان يعرف/ بالأمهات ورائحة المريمية لا أحد/ قال لي إن هذا المكان يسمي بلادا/ وأن وراء البلاد حدودا، وأن وراء الحدود مكانا يسمي شتاتا ومنفي/ لنا. لم أكن بعد في حاجة للهوية/ لكنهم.. هؤلاء الذين يجيئوننا فوق/ دبابات ينقلون المكان علي الشاحنات/ إلي جهة خاطفة/ المكان هو العاطفة".
طريق الحبيب:
مع الضاد كان يمشي باحثا عن بيته وعن أبيات غيره من الشعراء الذين عذبتهم المنافي وشقت علي نفوسهم غربة الذات الشاعرة، وقد كان أقرب الشعراء إلي نفسه في تلك الرحلة بدر شاكر السياب الشاعر العراقي في بحثه عن قريته "چيكور" وكان أحب البيوت إلي قلبه بيت أمل زتعل الشاعر المصري فكتب محمود درويش معانقا الشعراء الغرباء فيقول في قصيدته.
"أتذكر السياب":
"أتذكر السياب، يصرخ في الخليج سدي/ "عراق"، عراق، ليس سوي العراق ولايرد سوي الصدي. أتذكر السياب في هذا الفضاء السومري تغلبت أنثي علي/ عقم السديم/ فأورثتنا الأرض والمنفي معا".
وكتب درويش عن بيت الجنوبي.. عن بيت الشاعر المصري أمل دنقل فيقول في قصيدة بعنوان: "بيت من الشعر.. بيت الجنوبي".
"ألجنوبي يحفظ دروب الصعاليك عن/ ظهر قلب، ويشبههم في سليقتهم/ وارتحال المدي. لا "هناك" له/ لا "هنا" لاعناوين للفوضوي/ ولا مشجب للكلام، يقول النظام احتكام الصدي للصدي، وأنا صوت/ نفسي المشاع: أنا هو أنت ونحن أنا/ وينام علي درج الفجر: هذا هو/ البيت، بيت من الشعر، بيت الجنوبي/ لكنه صارم في نظام قصيدته.
صانع/ بارع ينقذ الوزن من صخب العاصفة".
وفي مختتم القصيدة يسكن الشاعران بيت شعر فهذا هو البيت الذي اختاره الجنوبي كما اختاره محمود درويش ليكون بيت المجاز للغريبين فيقول درويش:
"قال في آخر الليل" خذني إلي البيت/ بيت المجاز الأخير/ فإني غريب هنا ياغريب ولاشيء يفرحني قرب بيت الحبيب/ ولاشيء يجرحني في "طريق الحبيب" البعيدة/
قلت: وماذا عن الروح؟
قال: ستجلس قرب حياتي
فلا شيء يثبت أني ميت
ولا شيء يثبت أني حي
ستحيا، كما هي
حائرة آسفة".
ابن النيل:
عاش درويش مع أسرته كلاجئين في قرية اسمها "دير الأسد في الشمال من فلسطين وجدوا صعوبة بالغة في الحصول علي بطاقات إقامة فعندما أجري تسجيل للسكان كانوا غائبين وكانت صفتهم في القانون الإسرائيلي"الحاضرون- الغائبون" أي حاضرون بلا أوراق، ثم يقيم الشاعر إقامة جبرية في حيفا حيث منع طوال سنوات عشر من مغادرتها ومن العام 1967 إلي عام 1970 كان ممنوعا من مغادرة منزله، وكان من حق الشرطة أن تأتي لتتحقق من وجوده وكان يعتقل في كل سنة ويدخل دون محاكمة ثم اضطر إلي الخروج، وكان أول بيت سكنه درويش بعد خروجه من فلسطين في موسكو إذ درس كطالب في معهد العلوم الاجتماعية ويقول درويش عن هذا البيت: "لم يكن لي هناك بيت بالمعني الحقيقي كان غرفة في مبني جامع"، ومن موسكو ارتحل الشاعر إلي القاهرة فبقي بها عامين هما 1971، 1972 ويقول درويش عن هذه الفترة: "الدخول إلي القاهرة كان من أهم الأحداث في حياتي الشخصية.
في القاهرة ترسخ خروجي من فلسطين وعدم عودتي إليها ولم يكن القرار سهلا، كنت أصحو من النوم وكأنني غير متأكد من مكان وجودي أفتح الشباك وعندما أري النيل أتأكد من أنني في القاهرة، خامرتني هواجس ووساوس كثيرة، لكنني فتنت بكوني في مدينة عربية، أسماء شوارعها عربية، والناس فيها يتكلمون بالعربية، وأكثر من ذلك وجدت نفسي أسكن النصوص الأدبية التي كنت أقرأها وأعجب بها فأنا أحد أبناء الثقافة المصرية تقريبا والأدب المصري، التقيت بهؤلاء الكتاب الذين كنت من قرائهم وكنت أعدهم من آبائي الروحيين ولكن من سوء حظي أنني لم ألتق طه حسين وكان في وسعي أن ألتقي به ولم يحدث اللقاء، وكذلك أم كلثوم ولم ألتق بها وحسرتي الكبري أنني لم ألتق هذه المطربة الكبيرة والتقيت كبار الكتاب مثل نجيب محفوظ ويوسف ادريس وتوفيق الحكيم والتقيت محمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ بل وعملت في نادي كتاب "الأهرام" وعينني محمد حسنين هيكل، وكان مكتبي في الطابق السادس وهناك كان مكتب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وبنت الشاطيء، وفي القاهرة صادقت الشعراء الذين أحبهم صلاح عبدالصبور وحجازي وأمل دنقل.
وفي ديوانه "لاتعتذر عما فعلت" يصف محمود درويش نفسه بأنه ابن النيل في قصيدة جميلة بعنوان:
في مصر
"في مصر، لاتتشابه الساعات كل دقيقة ذكري تجددها طيور النيل كنت هناك، كان الكائن البشري يبتكر الإله/ الشمس. لا أحد يسمي نفسه أحدا. أنا ابن النيل- هذا الأسم يكفيني"
ومنذ اللحظة الأولي تسمي/ نفسك "ابن النيل" كي تتجنب العدم/ الثقيل" ومن القاهرة إلي بيروت سافر درويش فأمضي فيها عشر سنوات من عام 1972- 1982 حتي اندلعت الحرب الأهلية ثم احتل الإسرائيليون بيروت وحدثت مجزرة صبرا وشاتيلا فخرج الشاعر إلي دمشق ومنها إلي تونس، ومن تونس إلي باريس حيث أقام الشاعر في باريس نحو عشر سنوات بشكل متقطع وكان بذلك قريبا من منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، وظل حلم بيته الموجع وحلم ثورته الفلسطينية يتطابقان معا فيكتب الشاعر قصيدته "شكرا لتونس":
أقول لها: سأمكث عند تونس بين منزلتين: لابيتي هنا بيتي، ولا منفاي كالمنفي. وها أنذا أودعها فيجرحني هواء البحر.. مسك الليل يجرحني، وعقد الياسمين علي كلام الناس يجرحني ويجرحني التأمل في الطريق اللولبي إلي ضواحي الأندلس".
وفي الإشارة إلي الأندلس هنا رمز إلي الحلم المفقود، حلم البيت والمجد والعودة.ويظل شعر درويش مفعما بالأسي منتميا إلي ميراث العاشقين وأحلامهم باللقيا ووصفهم للفراق فتراه يقول في ديوانه "كزهر اللوز أو أبعد":
"أمشي الهويني علي نفسي ويتبعني ظلي وأتبعه، لاشيء يرجعني لاشيء يرجعه.
كأنني واحد مني يودعني
مستعجلا غده: لاتنتظر أحدا لاتنتظرني، ولكن لا أودعه كأنه الشعر: فوق التل تخدعني سحابة غزلت حولي هويتها وأورثتني مدارا لا أضيعه".
..ألا يغزل هذا الشعر في نفوسنا صوت وأسماء الحنين منذ هتف الشاعر الحصري القيرواني:
"ياليل الصب متي غده أقيام الساعة موعده
رقد السمار فأرقه أسف للبين يردده"
ألم يكن هو الحنين نفسه لأمير الشعراء أحمد شوقي عندما عارض هذا الحنين بحنين؟ ثم يأتي درويش فيضيف أكثر من اسم لأسماء الحنين فلم يعد هنا تشوق حبيب للقاء حبيب ولا موعد صب ولكنه أصبح لقاء المرء بذاته واتساقه معها بل وجوده والتئام كيانه "أمشي الهويني علي نفسي ويتبعني/ ظلي وأتبعه لاشيء يرجعني/ لاشيء يرجعه".
هكذا وصف درويش رحلته الشعرية في البحث عن وطن.. مفكرا بغيره.. موقدا شمعة في الظلام.. إليه.. إلي عاشق من فلسطين.. إلي ابن النيل: كل الحب.. وكل أسماء الحنين.
جدارية
"هزمتك ياموت الفنون جميعها هزمتك ياموت الأغاني في بلاد الرافدين. مسلة المصري، مقبرة الفراعنة النقوش علي حجارة معبد هزمتك وانتصرت، وأفلت من كمائنك الخلود.
فاصنع بنا، واصنع بنفسك ما تريد"
نشيد الحياة
وكأنني قد مت قبل الآن أعرف هذه الرؤيا، وأعرف أنني أمضي إلي مالست أعرف، ربما مازلت حيا في مكان ما، وأعرف ما أريد
سأصير يوما ما أريد
سأصير يوما فكرة، لاسيف يحملها إلي الأرض اليباب ولا كتاب كأنها مطر علي جبل تصدع من تفتح عشبة.
لا القوة انتصرت
ولا العدل الشريد
سأصير يوما ما أريد
سأصير يوما طائرا، وأسل من عدمي وجودي، كلما احترق الجناحان اقتربت من الحقيقة، وانبعث من الرماد.. أنا حوار الحالمين، عزفت عن جسدي وعن نفسي لأكمل رحلتي الأولي إلي المعني فأحرقني وغاب.. أنا الغياب.. أنا السماوي الطريد.
سأصير يوما ما أريد".
الهدهد
لم نقترب من أرض نجمتنا البعيدة بعد. تأخذنا القصيدة من خرم ابرتنا لنغزل للفضاء عباءة الأفق الجديدة أسري، ولو قفزت سنابلنا عن الأسوار وانبثق السنونو من قيدنا المكسور، أسري ما نحب وما نريد وما نكون.. لكن فينا هدهدا يملي علي زيتونة المنفي بريده عادت إلينا من رسائلنا رسائلنا، لنكتب من جديد ما تكتب الأمطار من زهر بدائي علي صخر البعيد ويسافر السفر- الصدي منا إلينا. لم نكن حبقا لنرجع في الربيع إلي نوافذنا الصغيرة.. لم نكن ورقا لتأخذنا الرياح إلي سواحلنا. هنا وهناك خط واضح للتيه. كم سنة سنرفع للغموض العذب موتانا مرايا؟
كم مرة سنحمل الجرحي جبال الملح كي نجد الوصايا؟"
في رام الله
ويقول لي: "ربيت خشفا في الحديقة كنت أسقيه حليب الشاة ممزوجا بملعقة من العسل المخفف. كنت أعطيه سريري حين يمرض أيها الطفل اليتيم أنا أبوك وأمك، انهض كي تعلمني السكينة". لم يمت مثلي ومثلك. نام مثل قصيدة بيضاء. أولها كآخرها سراب لا أمس لي فيها سواك- أقول علمني سلام النفس! يضحك صاحبي ويقول: فلنفرح بحصتنا من الغد ههنا غدنا. ويفتح صاحبي قبر الغزال الأبيض: "انهض كي ينام أبوك، يا ابني، في سرير الأرض ثانية، ويخضر التراب"!
صدي
"في الصدي بئر
وفي البئر صدي
والمدي
يبدو رماديا حياديا
كما لو أن حربا لم تقع
أو وقعت أمس
وقد تأتي غدا...
في الصدي بئر
وفي البئر صدي
وأنا أبحث ما بينهما
عن مصدر الصوت
سدي!"
قاتل وبريء
هو الحب كالموج
تكرار غبطتنا بالقديم- الجديد سريع بطيء
بريء كظبي يسابق دراجة
وبذيء... كديك
جريء كذي حاجة
عصبي المزاج رديء
هاديء كخيال يرتب ألفاظه
مظلم، معتم... ويضيء
فارغ ومليء بأضداده
هو الحيوان/ الملاك
بقوة ألف حصان، وخفة طيف
وملتبس، شرس، سلس
كلما فر كر
ويحسن صنعا بنا.. ويسيء يفاجئنا حين ننسي عواطفنا ويجيء...
هو الفوضوي/ الأناني/ والسيد/ الواحد/ المتعدد نؤمن حينا، ونكفر حينا ولكنه لايبالي بنا
حين يصطادنا واحدا واحدة ثم يصرعنا بيد باردة إنه قاتل... وبريء!
الحياة حتي آخر قطرة
وإذا قيل لي ثانية: ستموت اليوم، فماذا تفعل؟ لن أحتاج إلي مهلة للرد: إذا غلبني الوسن نمت. وإذا كنت ظمآن شربت. وإذا كنت أكتب، فقد يعجبني ما أكتب، وأتجاهل السؤال، وإذا كنت أتناول طعام الغداء، أضفت إلي شريحة اللحم المشوية قليلا من الخردل والفلفل. وإذا كنت أحلق، فقد أجرح شحمة أذني. وإذا كنت أقبل صديقتي التهمت شفتيها كحبة تين. وإذا كنت أقرأ قفزت عن بعض الصفحات. وإذا كنت أقشر البصل ذرفت بعض الدموع وإذا كنت أمشي واصلت المشي بإيقاع أبطأ. وإذا كنت موجودا، كما أنا الآن فلن أفكر بالعدم. وإذا لم أكن موجودا فلن يعنيني الأمر، وإذا كنت أستمع إلي موسيقي موزارت، اقتربت من حيز الملائكة، وإذا كنت نائما بقيت نائما وحالما وهائما بالغاردينيا. وإذا كنت أضحك اختصرت ضحكتي إلي النصف احتراما للخبر. فماذا بوسعي أن أفعل؟ ماذا؟ بوسعي أن أفعل غير ذلك، حتي لو كنت أشجع من أحمق، وأقوي من هرقل؟".
كيف تتحدث إلي حبيبتك؟!
"انتظرها
ولاتتعجل، فإن أقبلت بعد موعدها.
فانتظرها
وإن أقبلت قبل موعدها
فانتظرها.
ولاتجفل الطير فوق جدائلها
وانتظرها،
لتجلس مرتاحة كالحديقة في أوج زينتها
وانتظرها،
لكي تتنفس هذا الهواء الغريب علي قلبها
وانتظرها،
لترفع عن ساقها ثوبها غيمة غيمة
وانتظرها
وخذها إلي شرفة لتري قمرا غارقا في الحليب
انتظرها،
وقدم لها الماء قبل النبيذ، ولا تتطلع إلي توأمي حجل نائمين علي صدرها
وانتطرها،
ومس علي مهل يدها عندما
تضع الكأس فوق الرخام
كأنك تحمل عنها الندي
وانتظرها،
تحدث إليها كما يتحدث ناي
إلي وتر خائف في الكمان
كأنكما شاهدان علي ما يعد غد لكما
وانتظرها
ولمع لها ليلها خاتما خاتما
وانتظرها
إلي أن يقول لك الليل:
لم يبق غيركما في الوجود
فخذها برفق إلي موتك المشتهي
وانتظرها".
أنا وجميل بثينة
"هو الحب ياصاحبي، موتنا المنتقي عابر يتزوج من عابر مطلقا.. لا نهاية لي، ولابداية لي.. لا بثينة لي أو أنا لبثينة. هذا هو الحب ياصاحبي. ليتني كنت أصغر مني بعشرين بابا لكان الهواء خفيفا عليَّ، وصورتها الجانبية في الليل أوضح من شامة فوق سرتها..
هل هممت بها، يا جميل، علي عكس ما قال عنك الرواة، وهمت بك؟
تزوجتها. وهززنا السماء فسالت حليبا علي خبزنا. كلما جئتها فتحت جسدي زهرة زهرة، وأراق غدي خمره قطرة قطرة في أباريقها
هل خلقت لها ياجميل
وتبقي لها؟
أمرت وعلمت. لا شأن لي بوجودي المراق كماء علي جلدها العنبي، ولاشأن لي بالخلود الذي سوف يتبعنا ككلاب الرعاة فما أنا إلا كما خلقتني بثينة هل تشرح الحب لي، يا جميل، لأحفظه فكرة فكرة.
أعرف الناس بالحب أكثرهم حيرة فاحترق، لا لتعرف نفسك، لكن لتشعل ليل بثينة أعلي من الليل، طار جميل.
وكسر عكازتيه، ومال علي أذني هامسا: إن رأيت بثينة في امرأة غيرها، فاجعل الموت، ياصاحبي صاحبا وتلألأ هنالك في اسم بثينة كالنون في القافية"!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.