كان من المفروض أن نتابع عبر هذه النافذة المتواضعة جانبا من مسيرة الإبداع الإنساني في إطار ما لهذا الابداع من أبعاد تاريخية وآفاق مستقبلية وعمق فلسفي، لولا أن فاجأتنا أخبار الأدب الغراء في عددها السابق بملف رئيسي من اعداد الأستاذ أحمد الجمال يتعرض لفضيحة تاريخية في مدخل جامعة السوربون بفرنسا تتمثل في وجود تمثال شهير من ابداع النحات الفرنسي فردريك أوجست برتولدي يجسد من خلاله العالم الفرنسي المعروف «جون فرانسوا شامبليون» (1790- 1832) وهو متلئ لايخلو من زهو وقد وضع إحدي قدميه علي رأس - بائس - لفرعون مصري يرجح أنه للملك اخناتون. والمثير في الأمر أن وجود هذا التمثال ليس حدثاً جديداً أو اكتشافاً طارئاً، بل هو في وضعه هذا وفي مكانه بمدخل أشهر جامعات فرنسا منذ قرابة ال 40 عاماً وبالتحديد منذ عام 1875، وموضع الاثارة هنا أنه ما من مثقف أو مبدع مصري زار باريس الا ومر بالسوربوني- ان لم يكن قد درس او حاضر بها، من أمثال محمد صبري الشهير ب «السوربون» والدكتور طه حسين والدكتور محمد حسين هيكل ومثال مصر الراحل محمود مختار والمصور الراحل أحمد صبري والمصور محمد ناجي والحسين فوزي وأحمد راغب ومحمود البابلي والمثال عبدالفتاح رزق والشاعر أحمد عبدالمعطي حجزي وغيرهم وغيرهم.. إلا أن أيا من هؤلاء، بحسب علمي - لم يثر أمر هذا التمثال الفضيحة! والسؤال هنا: ما الذي يمكن أن يدفع مثالا فرنسيا كفردريك أوجست برتولدي إلي عمل تمثال كهذا ويجسد تحقيرا واضحاً لأحد ملوك مصر من الفراعنة دون ان يكون بينهما سابق معرفة أو شبهة خلاف، خصوصاً اذا علمنا أن الكثيرين من الفنانين الفرنسيين ممن رافقوا الحملة الفرنسية علي مصر (1798 -1801) قد تخلوا عن هذه الحملة حين رحلت عن مصر هوسها بالفن والحضارة المصرية ورغبة منهم في الحياة بمصر ممن عرفوا بعد ذلك بالمستشرقين؟! .. هل الأمر اذن مجرد نزوة، هل هو عنصرية ، هل هو عقلية المستعيمر تجاه المسعتمر أيا كان، هل يدخل الامر في باب حرية الابداع؟!.. واذا كان فيلسوف مذهب وحد الوجود «سبينوزا» يري في كتابه «الاخلاق» الجزء الخامس- أن «المعرفة وحدها وليس الحرية هي ما تجعل للنفس البشرية سلطاناً علي الانفعالات وأن العقل وحده هو القوة التي يتصرف بها الانسان تصرفا يمكنه من كبح انفعالاته، فهل يعني هذا أن برتولدي تنقصه المعرفة او يفتقد العقل؟! التفسير الوحيد الذي أراه منطقياً. او لنقل الأقرب إلي المنطق هو اختلاف ثقافة العصر بالنسبة لبرتولدي الذي لم ير بأسا ان يضع العالم شامبليون قدمه فوق رأس أحد ملوك مصر من الفراعنة الذين كانت تتناثر آثارهم هنا وهناك دون حسيب أو رقيب، وعدم احترام او توقير آثارنا بالنسبة إلينا كمصريين حيث كنا ننظر إلي أثارنا من التماثيل والمومياوات علي أنها مجرد «دفائن» أو «مساخيط» اختصنا بها المولي لنلهو بها أو لتثير فينا نزعات التشاؤم والتفاؤل. هذا ماكان قبل 140 سنة.. فماذا نحن فاعلون الآن ؟!