أخذ نفسا عميقا من سيجارته نفخها بقوة في الهواء لتحيطه غلالة من الدخان .. تذكر شيئا نسي أن يقوله لزوجته الغيور أثناء مشاجرة اشتعلت بينهما وهذا الأمر عادي بالنسبة لهما ، فالمشاجرات بينهما لا تخمد أبدا ..اتهمته هي بالخيانة وعدم تحمل المسئولية .. شكك هو في تصرفاتها وفي المكالمات الهاتفية التي تأتي إليها حتي الخطابات التي تصل إليها .. فتح الباب بينما كانت تجلس في غرفة النوم مطرقة ساهمة وراح يقول : - هناك شيء آخر يا ست هانم . أنا لست مسئولا عن تقديم تقرير يومي عن تصرفاتي .. هل سألتك يوما أين تذهبين ؟ .. هل تلصصت علي مكالماتك بين الحين والآخر ؟ .. هل فتحت درجك الخاص وفتشت بين أوراقك ؟ .. هل سألتك يوما عن مصدر الخطابات التي تصلك ؟ باغتها بكل هذه الأسئلة التي لم تكن تتوقعها ، نظرت له في حدة وأطرقت دون أن ترد .. صفع باب المكتب وراءه بشدة .. ظهر عليها الانزعاج لجملته الأخيرة وتساءلت فيما بينها وبين نفسها .. تري هل يقصد شيئا بكلماته هذه ؟ هل عثر حقا علي الخطابات التي بدرجها لا تعتقد ذلك ، فلو كان يعلم عنها شيئا لما توقفت المشاجرة عند هذا الحد .. امتدت يدها بسرعة إلي أحد الأدراج أخرجت حقيبة من الجلد فتحتها أمسكت بلفافة من الخطابات وهي تتلفت حولها لتتأكد أنه مازال في غرفته . فتحت باب الشقة وراحت تمزق الخطابات وتلقيها في سلة القمامة ، ثم أغلقت الباب بسرعة كانت هناك عينان تراقبان عن كثب اشتركت مع أذنين تلصصتا لتلملم خيوط المشاجرة من بدايتها ، وها هو مفتاح المشاجرة يلقي علي بعد خطوات منها .. فتحت حسنية باب شقتها المواجه لشقة الأستاذ صبحي وأسرعت إلي صندوق القمامة وقبل أن تصل يدها إليه سمعت صوتا يتحرك صاعدا علي الدرج هرعت إلي شقتها وأغلقت الباب بينما عينها ملتصقة بالعين السحرية .. كان زكريا الزبال جاء ليحمل قمامة العمارة ، نظر زكريا نحو الباب الذي أغلق علي عجل وراح يهز رأسه في سخرية بينما يده تفرغ ما في السلة داخل جواله وراح يلقيه فوق ظهره ومضي نازلا وهو ينادي : الزبالة .. انطلق زكريا بعربته المتهالكة كعمره وكأنها تتواري خلف الزمن لا يظهر منها إلا أطلال تذكره بالماضي القديم .. تمتلئ بأكياس القمامة واضعا قدميه فوقها كأنه يضرب الدنيا بحذائه البالي لا يعبأ بالآخرين ، فقد تعود ألا يجري وراء شيء ولا يشغل باله بأحد . فكل الأشياء ترتمي تحت قدميه .. تعلم زكريا الكثير خلال سني مهنته . تعلم أن يقرأ ما يدور بخلد أصحاب هذه القمامة . عندما وصل زكريا إلي الخرابة التي يلقي فيها بقمامة الآخرين راح يفك الجوال بحرص خشية أن تفوح من داخله حكاية من الحكايات وقد ارتسمت علي شفتيه تلك الابتسامة الساخرة الباهتة التي لا تعبأ بشيء ، فليس هناك شيء مهم .. وليس هناك حاجة لأن يكتب علي كل كيس رقم شقته واسم صاحبه ، فكل كيس ينضح بما فيه ، وحياة الناس ما هي إلا جوال يحوي قمامتهم . أمسك زكريا بكيس .. فتحه وهو يهز رأسه ويحرك إصبعه نحوه . المهندس عماد .. أعزب يعيش وحيدا في شقة طويلة عريضة ورثها عن أبويه .. عرفه من كم زجاجات الويسكي والشمبانيا الفارغة وعلب الطعام الجاهزة فهو لا يستطيع أن يعد لنفسه كوب ماء .. ولا يتورع عن إلقاء بعض الملابس التي اتسخت حتي لا يحمل نفسه عناء تنظيفها .. إنسان بوهيمي .. حياته هي اللحظة التي يعيشها . يشبه تماما زجاجاته الفارغة .. ألقي زكريا بكيس القمامة بعيدا وسط الخرابة وتناول آخر .. نعم .. إنه هو تلك لفافة الخطابات وبعض الصور التي مزقتها زوجته حتي لا تصل يده إليها . يالها من خائنة .. تلك الأظرف ونفس الورقات لمحها زكريا في كيس المهندس عماد .. فهو أخطبوط كبير .. مع أنه صديق حميم لزوجها صبحي .. ها هي جمالات أرملة المحامي حامد فرغلي أجل .. كان له باع طويل في المحاماة .. رحل وتركها وحيدة متشحة بالسواد تاركا لها خمسة أبناء تزوجوا جميعا ولا يفكر أحدهم في أن يطرق باب شقتها ليسأل عليها .. اللهم إلا إذا وقع أحد منهم في ضائقة مالية .. كيس قمامتها ينطق بالحزن كل ما يلقي فيه متشح بالسواد مثلها. أما الأستاذ سعيد مرعي الذي يسكن في الطابق السفلي فهو موظف بالسكة الحديد .. لديه ثلاث بنات يعشن حياة الكفاف لا تجد في سلتهم ما ينم عن ترف أو أكلة دسمة .. أفرغ زكريا محتويات العربة من القمامة وراح ينطلق بها بعيدا يهتز رأسه مع هزات رأس الحمار الذي يجره .. يتسع فمه ليرسم ابتسامة أخذت تزيد شيئا فشيئا حتي صارت ضحكة عالية ترددت في الخلاء واشتركت مع نهيق حماره وهو يحمد الله علي أنه إنسان بلا قمامة ..