عبدالستار سلىم الفن الشعبيّ - بشتي ألوانه - هو فن أصيل عريق ، اكتسب الأصالة من صدق العاطفة، والعراقة من إلهام الفطرة.. والحق أنه لن يضير الفن أو يغض من قيمتهتأن يترنم به أولئك الفنانون الهائمون طلباً للمنح أو العطاء - كما يقول صاحب كتاب ( ألوان من الفن الشعبي) - وعجيب كل العجب أن ننظر إلي أولئك الفنانين الهائمين تفي فنهم نظرة تالمهانة والابتذال، ففي كل فن من معارض القول سر من أسرار البيان يصله بالنفوس، ويستفز الوجدانات بالانفعال ، وليس ذلك بمقصور علي الفصحي وحدها، وإنما هو كذلك في الكلام الملحون ، وفي طرائق التعبير به.. والفنانون الذين يحترفون ذلك الفن الهائم هم طوائف، ولكل طائفة خصائصها في المظهر، وطرائقها في الأداء، فمنهم المداحون الذين يوقّعون مدائحهم علي نقرات الدفّ، ومنهم المنشدون الذين يرتلون أناشيدهم وقصائدهم علي منعطفات الطرق، ومنهم الذين يغنون علي الأرغول، ومنهم الفنانون الهائمون بفنهم في رحاب الله، الذين يسمونهم ( أهل الوجد ) ويعنون بهم طائفة الدراويش السالكين الطريق- وهم يتجمعون في محافل الأوراد، وفي حلقات الذكر - والذين يجلسون في الهزيع الأخير من الليل تيتطارحون الأغاني في الهيام بالذات والجلالة، وإنك إذ تسمعهم وهم يتطارحون أشعارهم وأناشيدهم وأدوارهم ارتجالاً، لتعجب لهذه المواهب الفنية التي طُمست، ولم تهئ لها الظروف أن تنفتح علي نطاق واسع - وكثير من الدراويش والمنجذبين أميون لا يعرفون القراءة والكتابة - يقول أحدهم : ( سفينة التّقي إذا جاها الطياب حلّت في بحر داوي لا هي غرْ قت ولا اتبلّت ) فيجيبه آخر منساقاً مع المعني والاتجاه : ( سفينة التقي لها في البحور علامات فَرَدُوا قلوعها تعلي شط البحور علامات ) وطريقتهم هذه تعرف »بالتخمير« ، لأنهم يكونون في حالة غيبوبة ووجْد وهيام وانسجام روحي يتعدي كل ما في العالم المحسوس، فهم أشبه ما يكونون بالمخمور الذين أفقدتهم الخمر الحسّ.. وهم يتخذون من الفن طريقاً إلي الحياة الروحية الخاصة مستخدمين في ذلك ألفاظ اللذات الحسية ، ولكنهم يرمزون بذلك إلي المعاني الروحية، فهم يقصدون بالحب " الحب الإلهي " ، وبالوصل " الاتصال بالله " ،والمحبوبة عندهم هي " الذات " ، وكذلك الخمر عندهم هي " الخمر الإلهية "التي أشار إليها الصوفي الشاعر " ابن الفارض " بقوله : شربْنا تعلي ذكر الحبيب مُدامةً سكرْ نا بها من قبل أن يُخلق الكرْ مُ والصوفية - علي العموم - يقولون إن كل ما يصدر عنهم من آثارفنية -تسواء في الشعر أو في الغناء - إنما يصدر عنهم وهم في حالة غيبوبة، وعادةً فإن أهل الوجد (الدراويش) تفي التخمير يبدأ أحدهم ( فيدندن ) بكلمات يذكر فيها اسم الجلالة ، كأن يقول : اذكروها تذكر المطلوب ذكرها يشفي القلوب هي الجلالة اسم الله ويكون ذلك بمثابة افتتاح لنَوْبة »التخمير«، وإذا ما انتهي المنشد الأول، فلا يلبث أن ينبري آخر يجاوبه في نفس المعني والاتجاه ويأخذون تفي »التخمير«..!! توهم يقولون إن ابن الفارضب الشاعر الصوفي كان يغيب عن وعيه، ويظل في غيبوبة لمدة يومين أو ثلاثة بالمسجد ، حتي إذا ما أفاق من هذا الوجد الطويل ، نهض وأخذ عمود المسجد بيده، وراح يدور حوله وهو ينشد قصائده الرائعة ، حتي إنهم قالوا إن تائيته الكبري التي حار المفسرون في سبْر معانيها ، وتفسير إشاراتها كانت من آثار هذه الغيبوبة ، التي كانت تعتري الشاعر الصوفي الكبير..!!