.كان لابد أن يحدث ما حدث، وتنقلب الدنيا رأسا علي عقب، وتسقط كافة الاقنعة، والجاكتات المرصعة بالنياشين، والسراويل، حتي ورقة التين السميكة التي كانت تغطي عورة القيادة سقطت، وسقط صوت أحمد سعيد، هذا الصوت الذي يذكرنا - دوماً - بالنعيق، رغم أنه يصرخ بالانتصار والخلود والقوة، وكذلك تحولت كل الأصوات إلي استدعاء قوة وهمية، وكل التحليلات إلي نوع من التضليل، وكأن الشعب المصري مجرد ميكروفون يريدون له أن يردد هذه الخرافات، كان لابد أن يحدث ما حدث، وبمباركة من الكتاب والأدباء والفنانين، فليس القادة والعسكريون والساسة والخطباء والمذيعون وحدهم مسئولون عما حدث، بل أيضا الكتاب والشعراء الذين تاهوا - في لحظة حماس - مع السلطة، ومع الزعيم، وارتدوا ثوب الحرب، وحلموا بشعار صنع خصيصاً لتلك اللحظة، يقول الشعار: »يا بوخالد يا حبيب بكرة هنوصل تل أبيب«، وتكتب أمينة رزق الفنانة »أتمني أن أكون أول ممثلة تمثل في تل أبيب بعد عودتها لأصحابها الشرعيين.. وربنا ينصر رئيسنا والقادة الذين معه«.. كل منأاجاد في عشية كارثة يونيو 76، في عدد خصصته مجلة المسرح عن المعركة القادمة، وراح الأدباء والفنانون يكيلون أحلامهم وهواجسهم وأشعارهم، هذه الأحلام التي فاقت كل تصور، وفاقت أي تحليل، ولم تفكر في لحظة واحدة في هذا التملص الذي مسخ الجميع، طبعا أنا لا أدين، بل أرصد لحظة حساسة مر بها الجميع، لحظة انفعالية جرفت كل هؤلاء، كيف أدين صلاح جاهين الذي كتب في صباح الخير: »حانت الساعة التي يفرض فيها العرب ارادتهم علي كل متغطرس، وكل معتد أثيم«.واليوم يعلم السادة من أصحاب القبعات العالية، أن في هذه المنطقة ناسا.. وان لهذه البلاد أصحابا يحسب لهم ألف حساب، وكيف أدين الصادق والأمين فؤاد حداد عندما يصرخ: »علي طول الحدود واقف/ هنا وقفة صلاح الدين/ وأنا بملايين عرب زاحف/ وباليوم اللي عمره سنين/ وأنا باسم الشرف والدين/ وأنا باسم السلام زاحف/ في كل رصاصة أغنية/ ولا ف قلبي ولا عينيه/ إلا فلسطين«، وحول صلاح جاهين وفؤاد حداد كتب مفيد فوزي: »اكتب لكم من الحدود وثقة لا حد لها في القيادة التي ترسم ابعاد المعركة.. تبدو في وضوح علي وجوه كل من قابلت«.. وكتب مصطفي محمود: »الجنود الذين حاربوا وليس في رؤوسهم إلا الغنائم والأسلاب، فهم فئران التاريخ الذين نهبوا ثم فروا من جميع الجهات.. أني أقرأ الغد وكأنه كتاب مفتوح.. ان النصر الأكيد لنا.. والهزيمة والموت لهم جميعا« وعلي أرض سيناء في المهرجان القومي الذي اقيم في العريش 22 مايو 7691 صرخ الشاعر القومي محمود حسن اسماعيل يهاجم اسرائيل وشعبها وتاريخها: مشردون أبدا.. وتائهون أبدا.. مهما طلبتم لخطاكم سكنا، مهما نهبتم في سراكم وطنا، فالأرض تحت رجسكم دمار وصمت قبر، همسة جبار وحين ينقضي لديه الثار ستصبحون بددا.. محيرون ابدا وضائعون أبدا.. أنا لا أغفل اللحظة، ولا أتناسي محاولات رفع الروح المعنوية، ولكنني أخشي أن هذه المحاولات تتحول إلي منفاخ يكدسنا بالأوهام فننسي الحقائق، والتاريخ مليء باللحظات الانفعالية، والمفترض أن الجميع يقفون صفا ًواحداً خلف القيادة، أعرف أن طائعين تابعين حلفاء لابد أن ينجرفوا في هذه الزفة المرتبكة، لكنني لا أفهم هؤلاء المبصرين الذين يسيرون خلف رايات ممزقة، وخلف قيادات - بالفعل - كانت منهكة، وأرهقتها الصراعات الداخلية الحقيقية، مهما كانت اللافتات البراقة، لذلك لم أفهم قصائد نجيب سرور الهاتفة، والمحرضة، والمنجرفة، نجيب سرور المتمرد علي كل شيء، علي العقيدة التقليدية، وعلي خشبة المسرح، وعلي النقد التقليدي، نجيب سرور الذي كان عفيا ووفيا ومخلصا، ومثقفا ومبصرا، والذي كتب »ياسين وبهية« مديناً لكل أشكال البطش والطغيان، مدينا لكل أنواع الكذب والبهتان وبالطبع لم استسغ هذه القصائد التي لم يضمنها نجيب سرور أيا من دواوينه التالية، أعرف أن اللحظة الانفعالية هي التي جرفت الجميع ليكتبوا ويهتفوا ويدينو أو يؤيدوا ومن الطرائف أن الناقد المسرحي، وكان سكرتيراً لتحرير مجلة المسرح - أنذاك - كتب قصيدة تحت عنوان »أمريكا.. بلد الحرية« يدين فيها أمريكا بضراوة فيقول: - أمريكا بتضرب ليه في فيتنام؟ - أمريكا بتتدخل ليه في حقوق الشعب العربي في شرم الشيخ؟ وزنوج أمريكا بينضربوا وينداسوا بالرجلين تحت التمثال؟ تمثال الحرية.. حرية راجل أبيض حالق دقنه ومتنشي بيرطن يتكلم عن حرية ضد استعباد الناس للناس الناقد فاروق عبدالوهاب، والذي خرج عن خطه النقدي الصارم، وقدم - آنذاك - دراسات نقدية فريدة، كتب - انفعالا - هذه القصيدة، ثم ذهب الي أمريكا، وهو يدرس الأدب العربي في جامعة شيكاغو، ويأتي القاهرة زائراً كل عام!! هذه اللحظة الانفعالية دفعت الشاعر الكبير عبدالرحمن الابنودي أن يكتب قصيدة - لم يضمنها في ديوان - تحت عنوان »أعرفها« يبشر بفلسطين القادمة والمحررة والتي يقول عنها: »بيت بيت أعرفها.. وشارع شارع.. بالمدرسة.. بالفدان.. بالطرحة.. بالنبتة.. بالجامع مع اني مخطيتش السلك.. ماشفتش فيها نور مطفي أو.... والع« هل هناك في الشخصية المصرية »عرق« تسامح كبير، هذا العرق الذي دفع شهدي عطية الشافعي وهو يترنح حتي الموت تحت هراوات الطغاة، يهتف بحياة جمال عبدالناصر، فاصلا بينه وبين جلاديه؟ هل هذا العرق الذي دفع مناضلا كبيرا مثل »فوزي حبشي« وقد مورست عليه أقسي وأقصي أنواع الوحشية، يخرج باكيا مودعا جمال عبدالناصر؟ هل عبدالناصر ذاته دفعنا صدقه واخلاصه ووطنيته لكي نتغاضي عن كل كوارث نظامه، ونحبه ونهتف بحياته؟ ربما.. كيف كنا نفكر عشية كارثة 5 يونيو 7691، وماذا كان يدار لنا في الخفاء والعلن، ولكننا كنا نغمض أعيننا غافلين أو عامدين، لا يوجد فرق، فالنتيجة واحدة، وما أشبه الأمس بالبارحة، ما أشبه التعلق بأوهام باطشة، وبأوهام ترتدي ثوب المسيح المخلص، اقرأوا قصائد نجيب سرور المتمرد لعلنا نتبصر، ونقرأ.