منذ أن أثرت موضوع المكانة والشهرة في الأسبوع الماضي، وضربت مثالا بكاتبنا الكبير محمد البساطي، تمهيدا للكتابة عن روايته الأخيرة الجميلة (غرف للإيجار)، يلح عليّ سؤال: هل ثمة علاقة بين الشهرة والعالم الذي يكتب عنه الكاتب؟ وهل يمكن أن يجني تبني الكاتب لقضايا المهمشين عليه، فيحرمه من الشهرة الواسعة؟ فمحمد البساطي ومعه في هذا من أبناء جيلنا إبراهيم أصلان ويحي الطاهر عبدالله الذي رحل مبكرا مولع بالتقاط تفاصيل الهامش المرهفة، وتتبع شخصياته، ومنح إمكانياته التعبيرية لهم كي ينهضون أمامنا بكل رهافتهم وهشاشتهم وقد اكتشفنا مدي ثراء إنسانيتهم، وكي يتكشف صمتهم، وكلماتهم الشحيحة العيية عن التعبير، عن كنوز تعبيرية مترعة بالدلالات. كما أنه من أكثر كتاب جيله عزوفا عن تناول القضايا السياسية المباشرة في أعماله الإبداعية، برغم وعيه العميق كما هو حال أصلان ويحيي بحمولات عالمه السياسية، وإضمار السياسة دوما في قيعان العمل العميقة. ولكنه منطق مغاير في التعامل مع السياسة لذلك الذي يتعامل به معها كتاب آخرون مجيدون أيضا من نفس الجيل مثل بهاء طاهر أو صنع الله إبراهيم أو رضوي عاشور. فمن يقرأ روايته الأخيرة (غرف للإيجار) لا يجد فيها أي إشارة إلي السياسة وقائعا أو أحداثا، مع أن كاتبها أحد العناصر الفاعلة في حركة «مثقفون من أجل التغيير» ويتصدر اسمه بيانات الشجب والإدانة لكل ما يحتاج شجبا وإدانه في عصر الهوان العربي ذاك، وآخرها ما جري لقافلة الحرية والصمت العربي الكريه. لكن روايته تبدو وكأنها تدور في مجرة كونية أخري، لايأبه سكانها لما يدور في هذا الواقع العرضي من أحداث، توشك في منظور الفكر الإبداعي عنده أن تكون عرضية هي الأخري. فما يهم النص هو الكشف عما هو إنساني وعميق، بل طرح هذا الإنساني في مواجهة الفساد والتردي والهوان. لكنك إذا ما دققت النظر في التفاصيل الصغيرة، ستجد أن لنصوصه ذاكرتها التاريخية التي تنبئ عن زمن كتابتها. فما يواجهه عثمان، آخر مستأجري غرف الشقة الثلاث في القسم الأول من الرواية، مع زوجته هانم، هو النتيجة الطبيعية للفساد المستشري كالهواء في كل موقع. فعجز السكة الحديد عن توفير السكن الميري لعمال فلنكاتها إقرأ بنيتها التحتية وتركهم يتشردون في عربات الشحن الجاري تكهينها، ليس مفصولا عن طلبية المسامير الفاسدة، والمسؤولة ربما عن حوادث القطارات الرهيبة، في زمن أصبحت علامة له، وعن مناخ التواطؤ والخوف الذي يجعل أمين المخزن المسؤول، وقد عاد له عثمان بمخلة مليئة بالمسامير الفاسدة، يرفض عمل محضر بالواقعة: «محضر لمين؟ دول ممكن يتهموني إن أنا اللي غيرت المسامير، والمدير كان رئيس لجنة الاستلام» (ص97). إذن نحن بإزاء كتابة سردية مراوغة تضمر أكثر مما تظهر، وكأنها تقول لك أن هذا هو عالم من يدفعون ثمن هذا الفساد المستشري مع الهواء في كل موقع، وتجسده لك ناصعا علّه يستحثك علي رفضه وتغييره. تضمره، لأنها تحرص علي أن يكون ما تظهره مشوقا وأخاذا وجميلا، يمسك بتلابيب القارئ، فلا يتركه حتي يفرغ من النص الذي يثير لديه من التوقعات والأسئلة أكثر مما يشبع منها. عله يعاود القراءة من جديد كي يكتشف ما تضمره هذه البنية السردية المراوغة. فما تركته مفتوحا لايقل أهمية بأي حال عما أكملته. قصة مقتنص فناجين القرفة من فاطمة وهداياه الملونة. قصة العلاقة الحميمة بينها وبين عطيات، أو قصة الرسم الفاضح في غرفة عثمان وما يفعله بهانم، أو قصة المغني الجوّال العجوز الذي التقيناه في المستودع الذي يرتاده بدوي، قبل أن نكتشف أنه عاد «مدهولا» ونام في غرفة هانم. أو ما سيؤول إليه مصير حفيدته «فريدة» التي تركها أمانة لراوي القسم الثاني الذي يقدم غرف السطح، ولايقل فرادة وثراءا عن قسم الرواية الأول. لكن لهذا كله حديث يطول، ولا يحتمله مثل هذا العمود القصير. فما تقدمه لنا هذه الرواية الجميلة يمكن دعوته ببنية الحيوات الناقصة، أو البنية السردية للحيوات المفتوحة التي تتطلب من القارئ أن يتأملها بنوع من التلقي الفعّال، كي يكمل بنفسه ما عزف الكاتب عن إكماله من حبكات. وكي يكتشف مدي ثراء حيوات المهمشين التي تبدو وكأنها عاطلة من الحياة نفسها. فبدون قراءة هذه البنية المفتوحة يفوتك الكثير مما تكتبه هذه الرواية الجميلة. فالشريحة الاجتماعية التي يكتب عنها البساطي في هذه الرواية، وهي شريحة ينضوي تحتها نصف المجتمع المصري الراهن علي الأقل، هي شريحة من يعيشون علي خط الفقر ويحومون دوما بالقرب منه، يرتفعون فوقه تاره، ليسقطوا تحته أخري. وكان من الطبيعي أن تظل حيواتهم ناقصة في هذا العالم الردئ، وأن يبتدع البساطي تلك البنية الشيقة التي يكشف محتواها عن الثمن الباهظ الذي يدفعه أغلب المصريين لما يستشري في عالمهم من قهر وفساد. وأن تبقي هذه البينة مفتوحة علي أمل تغيير طال انتظاره. Katibmisri @ yahoo. co. uk