بعد أن قامت بمهامها الصباحية المقدسة : من إيقاظ الأطفال،ومساعدتهم في ارتداء ملابس المدرسة،وإعداد وجبة الإفطار. إستعدت بدورها للنزول إلي العمل،وبسرعة تقف أمام المرآة لتمشط شعرها..تتسع حدقتي عينيها وكأنها تنظر إلي الفراغ ..إلي العدم،ثم قضبت جبينها واضطرب فؤادها.تعقد المفاجأة لسانها »تلجمه«..تحرك بأناملها شعرها يمينا ويسارا..لاتصدق ،تنسحب من امام المرآة ،تندفع نحو الحمام ..تقوم بغمر شعرها بالماء،تصب عليه الماء صبا،تتدافع الأفكار السيئة داخل رأسها ،تستنكرها جميعا..ترفضها جميعا.ترتاح أكثر إلي هذا الخاطر الطيب الجميل:ربما علق بشعرها (بودره) سرعان ما ستزول .تعود إلي موضع المرآة مترددة ..قلقة ..تنشف عن شعرها الماء بحركات سريعة وعصبية ،تنظر ..تحدق مرة أخري ،ترجع البصر كرتين ،فينقلب البصر إليها خاسئا وهو حسير،خليط غريب من الخوف والانقباض تعيشه في تلك اللحظة.لايخرجها من هذا الإحساس الثقيل إلا معاودة الخاطر الطيب ليشكك هذه المرة في المرآة العتيقة،تستسلم لهذا الخاطر برهة ..تبحث عن المرآة الصغيرة القاطنة بجوار محفظتها داخل حقيبة يدها، تنظر علي سطحها الأكثر لمعانا وبريقا،فلم يعد هناك مجال للشك،هي ذاك الشعرة البيضاء في نفس المكان ،عند مفرق مقدمة الرأس.تتساءل في صمت من أين جاءت؟!وكيف؟!ولماذا لم ترها من قبل؟!تتداعي الأفكار أمامها تشدها إلي الماضي القريب جدا جدا،لم تكن تعرف من قبل رؤية هذه الشعرة الحديث عن الماضي. تتذكر- فجأة ذ كيف كانت تحافظ علي تاجها الكستنائي اللون من كل ما يحيط به من: هواء،وأشعة الشمس،ومن أنواع الشامبوهات والكريمات الرخيصة،ومن أغطية الرأس ومن عيون الناس.كان هو محور حياتها ومدعاة لفخرهاواعتزازها.تتذكر-ولأول مرة- حرصها الدائم علي صحته وجماله؛كيف كانت تستخدم أمشاطا مصنوعة من الخشب لتبعد عنه التقصف،كيف كانت تبعد عنه »البنس« المعدنية،وتستخدم »البنس«البلاستيكية ،وبأعداد قليلة جدا،حرصها عند الخلود للنوم أن تصففه بطريقة »البوكلات«. كيف كانت لا تجهده بمكواة أو صبغة..وكيف كانت تختار »التسريحات« البسيطة؛قتتركه مسدالا حينا،وحينا تصنع من خصلاته المنسابة علي الظهر والوجه جدائل. كانت ضفيرتها-في المرحلة الثانوية- والتي تأخذ شكل ديل الحصان الأطول والأجمل بين قريناتها في المدرسة. والآن،تردها تلك الذكريات المتدفقة إلي هول اللحظة الآنية،هي لاتريد أن تري هذه الشعرة مرة أخري،ولكن كيف؟!كيف تخفي هذا الكابوس؟!تفكر في أن تحضر مقصا وتتخلص منها ،فتتذكر كلام أمها الراحلة:أن هذه الحيلة تزيد من عدد تلك الشعرات،فسرعان ما ينتشر (يطقطق)الشعر كله..يا بنتي ..الشعر أراضي!!!لم تكن تفهم معني ذلك،ولكنها الآن فقط فهمته.تزداد قلقا..تفكر في حيلة أخري ،تغير من طريقة تصفيفه ،بإرجاعه كله للخلف.تترقب شعرتها البيضاء كل لحظة،ثم كل ساعة،ثم كل يوم،يزداد عدد الشعرات البيضاء كل لحظة، كل ساعة،كل يوم. أصبح الأبيض يزاحم اللون الكستنائي ،ويكاد يطرده ،تحن إليه،فتلجأ إلي ما كانت ترفضه في الماضي ،الشعر الرمادي يتخلص سريعا من صبغته،يلفظها باستعلاء،وإباء،وشمم. وأخيرا ترفع الراية البيضاء،وتبحث عن الرضا،بل تتجاوزه للبحث عن جمال هذا الضيف الأبيض الجميل؛فتجده يزيدها وقارا ونضجا. وعندما تجذبها ابنتها الصغيرة من جلبابها البيتي مستفسرة:لماذا تصرين ياأمي علي استخدام هذه الحنة البيضاء في شعرك؟! ابتسمت ،وتنهدت قائلة:إن ريشة الزمن ياابنتي لا تحمل غير هذا اللون الملائكي.