«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لغز البنت التي انتحرت حزنا علي وفاة العقاد!
نشر في أخبار الأدب يوم 06 - 04 - 2013

كثيرا ما يوحشني أستاذي وصديقي أنيس منصور.. تعودت أن تكون بيننا مكالمات تليفونية بين الحين والحين. كلما افتقدته وشعرت بالحنين الي جلساته الجميلة وأحاديث ذكرياته الطويلة.
ولعل أنيس منصور هو آخر عمالقة "المتحدثين" في مصر. ان حديثه يجعل المستمع اليه يطير في سماوات الفكر والأدب. وكثيرا ما كانت لنا جلسات طويلة حول أحاديث ذكرياته. لكني كنت دائما ما أحاول أن أجعل أنيس منصور يحدثني عن عملاق الأدب عباس محمود العقاد. الذي كان أنيس منصور أقرب حواريه. يشهد علي ذلك كتابه الرائع "في صالون العقاد كانت لنا أيام". والذي حكي فيه الكثير والكثير عن حياة وفكر وأسرار العقاد. ولعل الأجيال الحالية لا تعلم الكثير عن العقاد. سوي عن مؤلفاته العديدة وأشهرها "العبقريات" لكن حياة العقاد ستظل دائما مادة غزيرة عميقة ومثيرة أيضا للباحثين.
ومن أكثر الأسرار إثارة قصة خبر انتحار فتاة يوم موت العقاد. واسمها كان بدرية رشاد المراسي. وقد خرجت الصحف في اليوم التالي لوفاة العقاد. وهي تحمل خبر انتحار بدرية الذي أوقع الناس أيامها في حيرة! واجتهد الصحفيون في البحث عن حقيقة الخبر ومن هي تلك الفتاة. بل وتساءل بعضهم هل كان العقاد متزوجا زواجا عرفيا. وهل أنجب ابنة غير شرعية هي تلك الفتاة التي قد تكون انتحرت حزنا علي وفاته.
وأيامها كتب الصحفي الشهير محمد نصر مشيرا الي أن بعض الصحف المصرية نشرت خبرا يقول أن السيدة فوزية مصطفي القدسي تقدمت ببلاغ الي نيابة مصر الجديدة. تطلب فيه الحجر علي تركة العقاد. وفاء لدين قدره ألفان وخمسمائة وأربعون جنيها ومكتبته وبيته في أسوان. بحجة أنه تزوج من أمها بعقد عرفي منذ خمسين عاما. وأن الفتاة التي انتحرت حزنا عليه يوم وفاته هي ابنته. وأنها كانت تقيم في منزله بمصر الجديدة في فترات من العام. ثم تصحبه الي المصيف بالاسكندرية.
وظل الصحفي محمد نصر ثلاثة شهور بعد وفاة العقاد يبحث وراء هذا السر. وعن حقيقة انتحار الفتاة بدرية رشاد المراسي وعن حقيقة زواج العقاد. وسأل أقارب العقاد وأقرب تلاميذه الي قلبه والذين عاصروه.
وفي النهاية تمكن الصحفي الشاطر من الالتقاء بأهل الفتاة المنتحرة. وتوصل الي عدة حقائق وراء هذا اللغز أولها أن العقاد تبني التلميذة بدرية فعلا. وهي في الشهر الثامن من عمرها. وأنها كانت تناديه باسم "بابا" وكان يسعده أن يسمع هذا النداء منها.
واكتشف الصحفي المجتهد أن العقاد لم يكن يبخل علي هذا الفتاة بأي طلب مهما غلا ثمنه. وأن علاقة صداقة وطيدة كانت تربط العقاد بأسرة الفتاة منذ زمن.
لكن أغرب ما في القصة أن أحدا من أسرة العقاد لم يكن يعرف هذا السر. ولا يجرؤ علي سؤاله عمن تكون بدرية أو "فريال" كما كان يحب أن يناديها. ولماذا تتردد عليه وتخرج حاملة الهدايا وعلب الأطعمة الجافة.
لكن محمد طاهر الجبلاوي والذي كان عضوا في لجنة الشعر بمجلس الآداب والفنون. والذي رافق العقاد أكثر من أربعين سنة. وأصبح من أحفظ الناس علي أسراره وقام بتأليف كتاب "في صحبة العقاد" كشف المزيد من الأسرار حول اللغز.
وقال الجبلاوي: أنا عشت مع العقاد أربعين عاما. كنت أعرف كل أسراره. وحسب معلوماتي الشخصية وما كان يصارحني به أقول أنه كان يريد أن يرد الجميل عندما تبني بدرية المراسي. وأن هذا سر لا يعرفه كثيرون. حتي ولا اخوته. وأنا أتذكر أن العقاد سنة 1935 كان يمر بضائقة مالية. بعد أن خرج الوفد من حكم البلاد. وتوالت حكومات الأقلية. مثل حكومة محمد محمود التي كان العقاد يهاجمها.
وعندما أعلن محمد محمود أنه سيحكم البلاد بيد من حديد. كتب العقاد عدة مقالات تحت عنوان "يد من حديد في ذراع من جريد". وأثارت هذه المقالات الحكومة. لكن العقاد استمر في الهجوم حتي علي الحكومات التي جاءت بعد ذلك. فكانت هذه الحكومات تغلق كل صحيفة يكتب فيها! وعندما أعلن حزب الوفد فصل العقاد وقطع مرتبه. وحظرت الحكومة الناشرين علي ألا ينشروا له أي كتاب. حتي أن كتابه "سعد زغلول" عندما انتهي من تأليفه. لم يجد ناشرا يقبل وهنا وأمام الظرف الدقيق الذي كان يمر به. عرضت السيدة الفاضلة أم بدرية علي العقاد مساعدته. ورهنت مصاغها بمبلغ 400 جنيه أعطتها للعقاد.
وبعد عام وكان العقاد قد طبع كتابه "سعد زغلول" علي نفقته. وأعلن أنه سوف يبيعه بنظام الكوبنات. وعندما سمع طلعت حرب الاقتصادي الأول في مصر وقتها بذلك. أمر بشراء 5 آلاف نسخة من الكتاب. وفتح له اعتمادا بمبلغ 500 جنيه لم يصرف منها العقاد في حياته إلا مرتين. وقام العقاد برد المبلغ للسيدة الفاضلة بل اشتري لها سوارين من الذهب ردا للجميل. وتوطدت العلاقة أكثر مع أسرة المقدسي وبعد فترة من الزمن ووفاة الزوجة حضر لزيارتهم. وعندما اكتشف أن الزمن قد جار عليهم. وأنهم في ضائقة وقد كثر أولادهم.
قال لرب الأسرة محمد رشاد المراسي: يا سيد رشاد.. أي خدمة تحتاجها اعتبر بيتي بيتك. وطفلتك الصغيرة التي تركتها المرحومة زوجتك اعتبر كأنها ابنتي. وأنا سأنفق عليها وأتكفل بمصاريفها وتعليمها. هكذا تبني العقاد الطفلة الصغيرة بدرية. وكبرت بدرية وأصبحت في الصف الثالث الثانوي. وكانت تتردد علي بيت العقاد. ويلبي لها كل طلباتها. ويدفع مصاريفها. ويرسل لها الهدايا من أسوان واسكندرية عندما يكون بعيدا عن القاهرة. وكان يأخذها معه أحيانا الي المصيف.
بل أنه كان يراجع معها دروسها ويشرحها لها. واذا مرضت يعرضها علي الأطباء. وقد روت شقيقتها فوزية قصة موتها المثيرة..
فقالت: كنت في مستشفي دار الشفاء مع طفلي المريض عندما حدثتني بدرية بالتليفون. وأبلغتني بخبر وفاة الأستاذ العقاد فأسرعت وأخذتها معي الي بيت العقاد وعندما دخلنا وجدناه قد فارق الحياة. فأخذت بدرية تصرخ وتبكي في حالة هيستيرية. وكان في حجرته تلميذه خليفة التونسي. وعندما سمع أحمد شقيق المرحوم العقاد بدرية وهي تصرخ.
قائلة: بابا.. بابا!
هددها بالطرد وابلاغ البوليس عندما وجدها تقول هذا الكلام وعندما عدنا الي البيت كانت بدرية لا تزال في حالة صدمة. كانت تحب العقاد مثل والدها تماما. بل كان أكثر انسان تحبه في الدنيا. وتركتها لأعود الي المستشفي لأدفع الحساب ثم أعود اليها من جديد. لكنها انتهزت فرصة غيابي وابتلعت عدة أقراص من دواء للمعدة. وعندما شعرت بالتعب أبلغتني جارة كنت قد أوصيتها بمتابعتها.
وقالت لي: البنت تعبانة. وفي الحال نقلناها الي المستشفي لاجراء عملية غسيل معدة لها. وحاول الأطباء اسعافها فلم يفلحوا..
وفارقت روحها الحياة!
تأملات ثورية
.. في عالم الفنون التشكيلية (2)
أحب أن أشير - في التأمل التالي - إلي مسألة الوعي عند الفنان، وثقافة الفنان. في البداية، يكون الفن التشكيلي هواية للرسم ترضي شيئا في صاحبها، وهي تبدأ عادة بالمحاكاة للأشياء والموجودات، ولا بأس من أن تكون هذه هي صورة المسألة علي صعيد التعلم والهواية والتدريب والتمرين واكتساب الخبرات التقنية والحرفية.. الخ ولكن كل هذا و حده لن يصنع فنانا، لابد للفنان بعد كل هذا أن يكون صاحب رؤية، وصاحب موقف في الكون والأشياء والوجود، وليس مجرد حرفي ماهر، أو رسام بارع.. ولعل من يذهبون منا الي أوروبا في أي وقت، ربما يستلفت نظرهم هؤلاء الفنانون أو الرسامون بالمئات علي الأرصفة في باريس أو لندن أو في غيرهما من العواصم والمدن الأوروبية، والذين يعرضون عليك أن يرسموا صورتك في ثوان وبمنتهي البراعة وبثمن زهيد، وهم يفعلون هذا فعلا، ولكنهم لم - ولن - يدرجوا أبدا في عداد الفنانين.. لماذا؟.. رغم وجود الحرفية العالية، والمهارة الهائلة، والخبرة الممتازة في الرسم وتقنياته.. لماذا لا يحسب هؤلاء من الفنانين، والاجابة ببساطة.. لأنهم لا يملكون (رؤية).. لا يقدمون كشفا.. لا يبدعون جديدا.. انهم - في أحسن الأحوال - ينسخون الكون والأشياء من حولهم، وقد بزتهم الكاميرا في لعب هذا الدور.
في مرحلة من مراحل حياة فنان القرن الكبير بيكاسو، كان يشرف علي تدريب بعض هواة الفن وكان ثمة متمرن في استديو بيكاسو، وضع أمامه برتقالة كبيرة ودأب علي رسمها حتي ظن أنه بلغ من ذلك غاية البراعة، ولكنه فوجيء ببيكاسو يرفض رسمته البارعة للبرتقالة ويطالبه بإعادة الرسم.. المرة تلو المرة.. والفتي يرسم البرتقالة، ويدقق أكثر في كل تفصيلة صغيرة قد تكون غابت عنه، حتي ظن انه لم يعد ثمة مزيد لمستزيد.. وعرضها علي أستاذه بيكاسو الذي رفضها للمرة العاشرة، وعندها غضب الفتي الرسام ورفض أن يعاود الكرة حتي يعرف سبب الرفض.. فكان رد بيكاسو: هل تظن أنك رسمت البرتقالة؟ فقال الفتي مستفزا: نعم أظن ذلك، فقال بيكاسو: هل تظن انك نقلت شكل البرتقالة، ولكنك لم ترسمها.. أنت لم "تصورها".. أنت لم تقدم (رؤية) للبرتقالة.. رؤية فنية حقيقية، فرد الفتي: وماذا عليّ أن أفعل حتي أقدم رؤية فنية حقيقية للبرتقالة؟ فقال بيكاسو: عليك أن تعرف أن هذه البرتقالة تأتي من بلدة في فلسطين اسمها يافا، وأن تعرف أن فلسطين الآن محتلة من قبل أناس طردوا أصحاب البلاد الأصليين، وانهم مارسوا ضدهم شتي أنواع الاضطهاد والارهاب والعنصرية، وأن البرتقالة في الفلكلور الفلسطيني المعاصر ليست تلك البرتقالة الجميلة التي تراها أنت الآن، وتأكلها مستمتعا، وترسمها متغزلا.. وإنما هي الوطن المغتصب، والمذابح، والبيدر المحترق، والتشرد، واللاجئين.. الي آخره.. إذا عرفت كل ذلك.. فلابد أن ترسم البرتقالة بشكل آخر تماما!.
لا أدري، هل استطاعت هذه القصة أن تقول لنا ماذا قصدته (بالرؤية) الواجبة للفنان، ومع أنه من الصعب أيضا تعريف الرؤية الواجبة للفنان، إلا أنها ببساطة هي هذا المزيج العضوي المتناسج من الثقافة (والثقافة ليست المعلومات كثرت أو قلت) وإنما الثقافة الحقة هي موقف ورأي، أقول إن الرؤية هي الثقافة بهذا المعني+ وجهة نظر محددة في الكون والأشياء والناس والمذاهب والنظم.. وهذه (الرؤية) لدي الفنان الحقيقي، تكون مع التقدم بشكل عام، مع المستقبل، مع الحق والخير والجمال، ضد الظلم والشر والقبح.. لم - ولن - يوجد في تاريخ البشر فنان عظيم واحد لا رؤية له ولا موقف من عالمه ولحظته وعصره وأحداثه، ولكن ليس معني هذا أن تنعكس الأحداث أو المواقف الصحيحة حتي انعكاسا ميكانيكيا في العمل الفني، ليس معني أن أكون فنانا منفعلا بقضية فلسطين، أن أرسم الصهيوني صغير الحجم والعربي كبير الحجم يطأه بأقدامه.. أو أن أرسم خيام اللاجئين، وطفلة تبكي، وأما عجوزا ممزقة الثياب، مثل هذا التناول قد يليق بتلاميذ المدارس، وهواة الفن الصغار، أما الفنان صاحب الرؤية، فقد يرسم برتقالة فقط - كما قال بيكاسو - ويدل بها علي القضية كلها.. ولكن السؤال هنا.. كيف يرسمها؟.. وبأي معني؟.. ومن أي زاوية..وكيف يقيم معمار لوحته؟ التي قد تدل علي قضية فلسطين تمام الدلالة حتي بدون برتقالة علي الاطلاق.. هذا هو الفن الصحيح، والمعني المقصود من الرؤية.. ومن الوعي بالحدث وبالوطن وقضاياه علي الوطن وقضاياه أن يحضرا في العمل الفني التشكيلي بقانون الفن الجيد، وبقانون الرؤية المتفتحة، وهي قوانين - بالمناسبة - غير مكتوبة، ولا أملك لها وصفة خاصة، لأنها بنت الحس المرهف، والثقافة الواعية المستنيرة المحيطة بعصرها وبظروفها وبفنها، وبدور هذا الفن غير الخطابي وغير الزاعق وغير الدعائي.. فالفن الحقيقي ضد الخطابة والصياح والدعاية.. أقول هذا في نفس الوقت الذي اعترف فيه - بأنه لا يوجد فنان حقيقي يعيش في برج عاجي بمعزل عن قضايا عصره وإشكاليات واقعه وهموم وطنه.. وان الفنان الذي يولي ظهره لكل هذا فنان متخلف عن عصره ووطنه ولخطته ولكن السؤال هو.. كيف تتم المعادلة؟.. وكيف يتحقق الابداع عبر هذه الاشتراطات ومن خلالها؟.. أن أبدع دون أن أكون غائبا عن عصري وقضايا وطني .. وفي نفس الوقت أن أحمل عصري وقضايا وطني الي فني .. ولكن بلا صراخ أو خطابية أو مباشرة فجة.

أما في هذا التأمل، فأحب أن أقف قليلا عند مسألة التراث في الفن التشكيلي، وهؤلاء الذين يستوحون التراث رافضين الانقياد الي السقوط في أحضان النموذج الغربي، والتعيش الهزيل علي منجزاته، بل ينقبون في تراث أمتهم الفني بحثا عن الوصل الصحيح للخيط من حيث انقطع.. بعض هؤلاء يقع في محظور آخر نحب أن نشير اليه لا يكون الفنان تراثيا بمجرد رسم القلة، والمكحلة، والخيمة، والحصان أو الحمار، وسفن الصيد القديمة، وبيوت الطين الفلاحية.. والزير.. الخ، هذا تراث في (الواقع) حقا، ولكنه ليس تراثا (في اللوحة).. ويتساوي من يرسم موضوعا كهذا عن بيت طيني قديم، ومن يرسم - مثلا - مبني التليفزيون في ماسبيرو.. كل المسألة أن ذاك رسم مبني قديم، وهذا رسم مبني حديث، ولكن، لن يكون الأول تراثيا لرسمه البيت القديم، ولا يكون الثاني معاصرا لرسمه مبني التليفزيون، بل إنني أحب أن أبالغ قليلا في مد هذا المثل علي استقامته، ربما وصلنا معا الي ما نعنيه بالتراث والمعاصرة في الفن التشكيلي أقول.. ربما استطاع الفنان الذي يرسم مبني التليفزيون أن يكون تراثيا جدا رغم حداثة موضوعه (أو مضمونه بمعني أدق) وربما كان الفنان الذي رسم البيت الطيني معاصرا جدا رغم قدم موضوعه (أو مضمونه) فالموضوع (أو المضمون) في الفن التشكيلي ليس هو الذي يحدد هوية العمل.. أو ليس هو الذي يحدد تراثيته أو معاصرته.. إذن.. ماذا نعني بالتراث والمعاصرة في الفن؟..
.. التراث الفني لأمة من الأمم، معطيات مائلة ومتجسدة ومبلورة لمجموعة من القيم الاجتماعية والفنية والرؤيوية، والتي مازالت تفعل فعلها بشكل أو بآخر في أي أمة ذات تراث فني معين، وليس مجرد أشكال قديمة مفزغة من المعني والدلالة.. مثال.. ليس عبثا أن الفن المصري القديم، خصوصا في مجسماته لم يكن يترك فراغا - اطلاقا - بين أجزاء الجسد، فلا فراغ بين الأيدي والابطين، بل اليدان ملتصقتان تماما بجانبي الجسم. حتي عندما تتقدم قدم عن قدم أخري.. يشغل الفنان/ المثال الفراغ الناتج عن ذلك بنحت لامم لا يترك فراغا، وهو يسند الظهر علي دعامة طويلة تحفظ للجسم كله انشداده ورسوخه علي الزمن والرأس منتحب وهو يضع ذقنا مستعارة لتمسك ما بين الرأس والصدر لأن الرأس أضعف مناطق المنحوتة، وهو عرضة لفعل عوامل الزمن قبل غيره وبمقارنة الفن المصري بالاغريقي مثلا، نلاحظ أن منحوتات الأغارقة كانت في معظمها تمثل أوضاعا مفعمة بالحركة والحياة والحيوية الديناميكية، معاكسة - علي طول الخط - لأوضاع الثبات والرزانة والاستقرار التي اتخذها النحات المصري القديم.
وبدراسة كل من الثقافتين والحضارتين يتكشف لنا أن الفن الاغريقي أساسا كان فنا دنيويا لا يفكر في خلود، ولا تشغل باله الحياه الأخري .. بينما المصري القديم كان يعتقد اعتقادا جازما في البعث والثواب والعقاب، وأن تمثال المتوفي هذا عند حلول لخطة الحساب أو البعث، ستحل روحه فيه من جديد، ومن ثم فلا يجب أن يكون ثمة شيء ناقص من التمثال عند حلول (الكا) أو الروح به، ومن هذه النظرة جاءت فلسفة بناء المنحوتة المشخصة بهذا الشكل المفرط في حرصه علي التماسك والصلابة والمتانة، حتي وصل لنا معظمها بالفعل علي حاله، بعكس معظم ما أنتجه الاغريق من منحوتات تكسرت أذرعها وأرجلها ورءوسها، لأنهم كانوا يمثلون الحياة.. رامي القرص أو الجلة.. رامي الرمح.. فينوس.. الخ، ولذلك بقي النحت الفرعوني كما هو تقريبا.. بينما حدث العكس لحد كبير مع النحت الاغريقي. المهم.. ما يعنينا من هذا كله، أن التراث في النهاية ليس هو أن أصنع الصورة أو المنحوتة علي شاكلة القدامي، وإنما أن استوحي في عملي المعاصر قيما جوهرية في تراثي الفني تبدت فيه.. كقيم الصلابة والرسوخ والاستقامة مثلا في الفن المصري القديم.. ولا يعني أن استهدي التراث، أن أقلده، أو حتي استعير بعض وحداته الزخرفية أو الشكلية لأضعها أو لأطعم بها لوحتي المعاصرة، فهذا نوع من الترقيع ، أو القص واللصق، وإنما التأثر الأعمق بتراثي يكمن في فهمي للقيم الابداعية الجوهرية فيه، والدالة في نفس الوقت علي خصوصية شعب معين، وطبيعة وعيه الخاص بالكون.. ولنضرب مثلا آخر بالفن الاسلامي..
بعض الأخوة الفنانين الذين يستوحون تراث الفن الاسلامي، أو التراث الزخرفي تحديدا في الفن الاسلامي والمسمي (الأرابيسك) يتوقفون إزاء التنويعات الهائلة والبديعة، وربما اللانهائية لهذه الزخرفات، والتي نراها في أسقف المساجد وجدرانها، وفي العمارة الاسلامية عموما، والمقرنصات والمحاريب والمنابر والمشربيات.. الخ، ونراهم يستوحون أشكالها في ترصيع أعمالهم الفنية المعاصرة، أو يستعيرون بعض الوحدات في أجزاء من أعمالهم.. أو.. الخ، ولكن من منهم وضع يده علي معني هذا التكرار اللانهائي للوحدات الزخرفية، والتي تنبع دائما من نقطة واحدة، أو بؤرة واحدة، أو مركز واحد.. هو المطلق.. أو الله.
هذه الحقيقة الجوهرية عند الفنان المسلم فيما هو يبدع عمله الفني، هي القيمة التي علينا أن نفهمها من تراثنا الفني العربي الاسلامي فيما نحن نستوحيه ونستهديه، وليس مجرد النقل المغمض العينين لهذه الموتيفة أو تلك من الموتيفات اللانهائية لفن الأرابيسك العربي.

أما عن المعاصرة.. ولعلنا تكلمنا عنها فيما سبق.. المهم انها ليست تقليد الغرب والنسج علي منواله، وإنما هي الحضور والوعي بلحظتنا الحضارية بكل مكتسباتها التقنية والفكرية والابداعية، ووعي منجز الآخرين وتفهمه واستيعابه، فأنا لا أدعو الي قطعية مع الآخر، وانما معاصرتي هي خصوصيتي، فالعربي الآن يحيا - من ناحية نتيجة الحائط - في نفس الزمن الذي يحيا فيه الأوروبي الآن.. ولكن شتان ما بين (زمني) العربي الخاص، و(زمنه) الغربي الخاص.. ما يعطيه خصوصيته وتميزه وقيمته ووجهه الحضاري، هو غير ما يعطيني خصوصيتي وتميزي وقيمتي ووجهي الحضاري، وعلاقته بالمستقبل لا تنطلق من نفس النقطة التي أحدد بها أنا علاقتي بالمستقبل، وكل هذه الخلافات والاختلافات تصنع - جوهريا - أو يجب أن تصنع، رؤي فنية متمايزة و مستقلة علي كل الأصعدة، ولا بأس ساعتها أن يحدث حوار بين الحضارات، كذلك الذي دعا - ومازال يدعو - اليه جارودي، وملخص فكرة جارودي.. أن لا شيء في الفن والابداع والأدب والشعر والثقافة لكل الأمم يلغي شيئا.. فإن كان العلم الجديد يجب العلم القديم ويحوله الي متحف التاريخ.. فإن الفن الجديد لا يجب الفن القديم، ولا يلغيه، فلازلنا نتذوق تراث الشعر العربي في جاهليته واسلامه وعصوره المختلفة بكل فرسانه و أعلامه ورجاله، جنبا الي جنب مع تذوقنا لشعراء الحداثة.. نتذوق مسرحيات ايسخيلوس وسوفوكليس ويوربيدس جنبا الي جنب مع مسرح ابسن وشو وبكيت وأدريس وونوس ونعمان عاشور وتوفيق الحكيم.
نستمتع بالفن الاغريقي والمصري القديم والأشوري مع استمتاعنا بفن عصر النهضة في أوروبا والفن الحديث.. الخ، لا شيء يلغي شيئا في الفن.. ومن ثم - والكلام لجارودي - ما أجمل أن تزهر حضارات الانسان علي الأرض بهذه التنويعات اللانهائية، التي تصنع سمات فارقة وخاصة لكل حضارة، وما أبشع أن يذوب التراث الحضاري والفني والثقافي لشعب من الشعوب المقهورة (سياسيا أو فكريا أو فنيا) في تراث الغازي أو القاهر علي أي مستوي من هذه المستويات.

أما التأمل الأخير، فيتعلق بتلك المسألة التي تساهم في إرباك الساحة الفنية لحد كبير، وأعني بها ما يكتب من كلام في نقد وتقييم الأعمال والفنانين والحركة التشكيلية برمتها من قبل أناس غير متخصصين، وهو كلام في معظمه مجامل وانطباعي ولا يمت للنقد العلمي الموضوعي بصلة ولا يفيد الفنان، ولا يفيد القاريء، ولا يفيد الحركة الفنية، بل يضربهم جميعا، ومعظم من يكتبون في الفن التشكيلي للأسف الشديد يكتبون موضوعات انشائية تعكس تذوقهم الخاص الذي نحترمه كل الاحترام أيا كان، ولكن هذا الذوق الخاص لا يقدم نقدا، ولا يقوم عملا تشكيليا ولكي تقوم للنقد التشكيلي الصحيح قائمة صحيحة، لابد من اجتثاث المرتزقة والطفيليين وأنصاف والهواة، ولابد من التكريس للغة نقدية تشكيلية تولي عناصر معمار اللوحة الأهمية الأولي في تناول العمل ورصده، من الخط واللون والمساحة والفراغ والاتزان والتصميم ومن ثم التكوين وأن يتوافر الناقد المثقف الحق (تشكيليا) والذي يعرف علي سبيل المثال لا تاريخ الفن الانساني فحسب، بل تاريخ أمته الفني فمن باب أولي.. والذي يملك القدرة علي ادراك الأعمال بل الحضارات التي قامت علي الحظ كعنصر بلاستيكي أمامي، وتلك التي قامت علي اللون، وتلك التي قامت علي المساحة.. الخ، وأن يدرك الفرق بين المنظور الأوروبي في مراحله المختلفة، وبين الغاء المنظور في أواخر عصر الرينسانس وبين الغائه في الفن الحديث.. وما هو الفرق.. وكيف عبرت حضارات أخري عن البعد الثالث في التصوير/ اللوحة بدون استخدام المنظور الأوروبي.. الي آخر ذلك.. ما أريد قوله باختصار.. هو.. أن ما نراه ونقرأه ونسمعه - في معظمه - ليس نقدا تشكيليا بحال!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.