د.خالد فهمى كلىة الآداب هل ثمة شعرية للدمار! صحيح أن مصطلح الدمار الشامل وليد لمعجمية الحرب والعسكرية، والنظام العالمي في حركته المراوغة لكسر إرادة من يريد من الدول والأنظمة، وهو يحوي في مفهومه جرثومة التدمير الهائل المروع الذي يدمر ويخرب الحياة في جنباتها المتنوعة.ولم أجد إلا في النادر من ينقله إلي ميادين معرفية أخري، علي ما جاء في بعض الكتابات المعاصرة التي تستعمله لوصف فعل الآلة الإعلامية في المرحلة الراهنة في بعض ما أصدره من كتب. والعجيب أن قراءة تاريخ العلاقة بين اللغة والاستعمار ربما يقود إلي القول بأن ثمة استعمالا للغة بما هي سلاح دمار شامل ، يستثمره المستعمرون- بكسر الميم- علي امتداد التاريخ لتخريب عقول المستعمرين بفتح الميم. وتاريخ الشعرية في العصر الحديث يبرهن علي أنه غير بريء في بعض المناطق، استعملته أجهزة المخابرات، ووظفته لخدمة أغراضها في عدد كبير من البلدان العربية بشهادة كثير من المؤرخين والمفكرين علي ما فصلت القول فيه سوندرز! لقد دفعت أجهزة المخابرات أموالا طائلة لعازفين أو زمارين استأجرتهم زمانا طويلا ليعزفوا ألحانا خاصة ، فكان هؤلاء العازفون والزمارون قطعا من السلاح الشامل تستهدف تشويه العقول و الوجدانات وتجريفها، وتخريبها. لقد أصبح عندنا شعرية للدمار بهذا المفهوم ، نطقت بها أصوات كثيرة وما تزال. قربان لإله الحرب في مارس سنة 2013م صدر للشاعر حسن طلب ديوان هو (ربان لإله الحرب من كربلاء إلي قانا إلي القدس) عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في (128) صفحة وقد نبه الشاعر إلي أن قصائد الديوان كتبت في الفترة الممتدة من 2003م إلي سنة 2008م ، والوعي الشعري يفرض علينا أن نقرر أن شيئا ما لا يقع في الديوان إلا جاء محكوما بقصد وإرادة ، باعتبار أن الشعر إرادة ووعي. والديوان يفرض علي قارئه أحكاما بعينها، ولاسيما أن الشاعر حسن طلب يملك أدواته، وهو واحد من الأصوات الشعرية الحقيقية التي تملك القدرة، والشاعرية ، وباستطاعته أن يمتع متلقيه ، بما يملكه من قدرات فنية. وأنا مضطر إلي استراتيجية بعينها قبل التدليل علي أن هذا الديوان مثال لشعرية الدمار، أرجو أن يتحملني القارئ فيها قليلا. وهذه الاستراتيجية تتلخص في التمهيد بين يدي الملاحظ النقدية بعدد من نصوص اللسانيات أو علم اللغة المعاصر، بما هو المرجعية المركزية لبرامج النقد المعاصرة جميعا: أولا- يقول لويس جان كالفي في كتابه حرب اللغات والسياسات اللغوية : ص284 إن الغزو بالنحو يعقب غزوا بالسلاح! ثانيا- ويقول كذلك ص 227 كل تعديل في الدلالة سوف يعدل الإحساس بالعالم. ثالثا- ويقول كذلك ص 286 هناك لسانيون في خدمة الاستعمار من أمثال كينيث بايك ودافيد كريستال، ومن ثم أقول إن هناك شعراء في خدمة الدمار! رابعا- ويقول باسكال بيك في كتابه أجمل قصة عن اللغة : ص9 إن الإشارة اللغوية هي بامتياز ثمرة التعرف إلي الهوية. خامسا- ويقول كلود حجاج في كتابه إنسان الكلام: مساهمة لسانية في العلوم الإنسانية ص 265 إن ضبط اللسان وإصلاح معجمه نشاطان سياسيان. سادسا- ويقول كذلك ص 292 إننا نستطيع في الألسنة قراءة تاريخ الحرية والاستعباد! ومرة أخري أرجو أن تعتمد هذه الفقرات المنقولة هنا عن بعض مراجع اللسانيات المعاصرة ، ولكنني أذكر بأنها استراتيجية ، أقصد من ورائها أن يعتمدها القارئ مرجعية عندما يستشعر شيئا من الإفراط في قراءة أدلة شعرية الدمار التي سألتقطتها من ديوان : قربان لإله الحرب! إن أول ما يظهر من فحص الديوان هو تشويه كامل لرموز الفكرة الإسلامية المادية وقد سبق هنا تقرير أن الإشارة اللغوية هي ثمرة الهوية بامتياز، وهو ما يقود إلي الإقرار بأن ازدراء العلاقة اللغوية (الهلال) وحياطته بسياق مهين، وذليل ، وغير متعاطف يعني في القراءة والتحليل ازدراء الهوية التي تمثلها وتعلن عنها ، لقد ظل الهلال علي امتداد الثقافة العربية المرتبطة بالإسلام مسكونا بالجليل ، والعلوي، والخصب ، والنور ، لكنه تحول عند حسن طلب إلي شيء آخر مهين ، ومزدري ، ومؤخر الرتبة ، ونصبه هدفا يرمي عن طريقه الأفكار التي طالما مثلها ، وكان رمزا عليها. يقول الشاعر : ص 38 ارسم هلالا من صناديق النفايات اصطنعه من القمامة... من فتات مخلفات عساكر الثكنات والمستوطنات! ومن المهم جدا تأمل المفردات المحيطة المكونة لصورة الهلال ، ودورانها حول القذارة بشكل مباشر. ويقول الشاعر: ص39 ارسم هلالا في الهواء لكي يطير إلي مشايخ مركز الإفتاء أو لموظفيه لينظروا العيدين فيه.. ويجعلوه تميمة جنسية لمن استطاع ويعلنوا إشباع من جاع! ارسم هلالا .. وأسمه: بضعا من الأبضاع أو فرجا حلالا! ارسم هلالا واحدا إن شئت أو مثني .. ثلاث إلي رباع! إنني مضطر هنا أن أقرر عن بوالو في فن الشعر ص 17 فقرة 75 تجنبوا الوضاعة أيا كان موضوعكمس وعند هذه النقطة تعيينا تتبدي استراتيجية توظيف الشعرية سلاح دمار شامل ، تتحول به جماليات الكتابة الشعرية المعتمدة علي تقنيات الإنشاء الطلبي ولاسيما تقنية الأمر، ثم تقنيات البيان ولاسيما الاستعارة ، ثم تقنيات التكافل النصي ،أو التناص عندما يعتمد نثر قوله تعالي : فأنحكوا ما طاب لكم من النساء مثني وثلاث ورباع، أقول تتحول به الجماليات إلي سلاح مادي يسعي نحو: كمال التشويه لرموز التاريخ الوطني في تجلياتها الإسلامية وهو كمال التشويه الذي تدرج من تشويه المؤسسة (مركز الإفتاء) ثم تشويه علمائها (المشايخ) ثم إهانة الرموز المركزية في الثقافة الوطنية عندما يصور الهلال (في صورة بضع والبضع هو فرج المرأة)ثم إلي اقتباس النص الحكيم وحياطته بما قد رأيت من ازدراء مهانة . إن القارئ يستطيع أن يلمح في هذه المقاطع الشعرية تاريخا كاملا من الازدراء والاستهانة والتحقير ، تستهدف التدمير ، والانتقاص من محدد مركزي مؤسس للشخصية المصرية. ب-اعتساف المعني وقد أدرك علماء اللغة المعاصرون الغربيون منهم قبل غيرهم أن اختيار مفردة ما من قوائم مفردات ولو كان الأمر في الشعر ليست لعبة بريئة بحال لعشاق صناع التراكيب والجمل وساعة يتحول الهلال إلي ما رأيت فإن ثمة حربا معلنة باسم الشعر ينبغي التنبه إليها وأذكر القارئ الكريم أن الإسلام في يوم ما حرم استعمال يثرب علما علي المدينةالمنورة لأنها تحولت شعارا للنفاق ، واللمز للمجتمع الإسلامي! ج- تهديد المواطنة إن اللسانيات الاجتماعية المعاصرة تقرر إن اللغة هي إحدي سبل صناعة المواطنة ، وساعة يعمد نفر من شعراء مذهب شعرية الدمار إلي العبث بالإشارات اللغوية المميزة لهوية بعينها ، وإحاطتها بعلامات ازدراء وإهانة واضحة ذفإن ثمة لعبا بالنار سيدمر في طريقه وطنا بأكمله.ولاسيما حينما يظهر في السياق نفسه توظيف رمز آخر منحدر من المسيحية بطريقة مغايرة ، يتحفها التعاطف. يقول الشاعر:ص:44 ارسم صليبا أيها العربي.. يرتد الدخان علي المحيا منك: طيبا! ويقول: ص 45 ارسم صليبا قاتل عدوك بانهزام بني أبيك وخذ حذارك من ذويك فإن في فيك التميمة و الزبرجدة اليتيمة إن في يدهم المصير المرتجي والفجر والصبح العصيبا! والصليب في هذه المقاطع غير محاط بما يخدش جلاله عند من يعتقدون بملاله ، بل هو محاط بما يرقي برتبته الرمزية وهو ما بدا مناقضا للأجواء التي أحاطت برمزية الهلال. أضف إلي ذلك أن عدد الأسطر التي أحاطت بصورة الهلال امتدت وتكثفت لتخلق تكثيفا لملامح الازدراء في حين قلت الأسطر الشعرية التي تكفلت بتصوير الصليب ، في نوع تكثيف بالاكتناز، الصمت في باب الإجلال باعث علي زيادة الجلال! وتستمر هذه الملامح نفسها ، ازدراء في جانب الهلال، وعطفا في جانب الصليب في مقاطع (صدي الملحمة وتمائمها) ، حيث يظهر الهلال ذابلا مجروحا في قول الشاعر: ص69 ارسم هلالا ذابلا يحكي ترنح ظلك المجروح حين هفا ومالا ارسم هلالا وبعد ذلك مباشرة في التميمة التالية يظهر الصليب في صورة يسكنها بعض الجلال ، يقول ص 71 ارسم صليبا ارسم صليبا ثم ذر عليه من مسك التراب الحر ارسم صليبا عاليا فوق التلال أو الجبال وعند مقارنة المقطعين تتبدي استراتيجية من استراتيجيات شعرية الدمار التي تتهدد المواطنة في الصميم واللغة سلاح قد يفتك بالمواطنة كما هي الحال هنا. إن الغالبية يبدو هلالهم ذابلا مجروحا مائلا ، وغيرهم يبدو صليبهم ممسكا مطيبا عاليا فوق التلال أو الجبال. هذا نوع تدمير يخترق هوية شعب بأكمله، ويهين المكونات المؤسسية لوجوده الحي المعاين ويصل الأمر إلي أبعد حدوده عندما يتجلي الصليب في أبهي صوره ، يقول الشاعر ص 79: ارسم صليبا/ ارسم صليبا مشمسا/ أو مقمرا. بما يعني دوام تألقه علي امتداد الزمان ، وهو الامتداد الذي يصنعه استعمال الشمس (نهارا) والقمر (ليلا) فيستحيل منيرا أبدا ، عن طريق استثمار تقنية طباق الاستغراق. ويظهر الصليب مرة أخري منافحا حاميا مدافعا في تاريخه القديم علي الأقل ، يقول الشاعر: ص 79 ارسم وحاول أن تنافح عنه.. جرب أن تذب عن الذي في الأصل كان يذب عنك .. وقل استجب لي يا صليب وفي الوقت نفسه يبدو الهلال حتي ساعة يراوغ الشاعر فيظهره في جو متعاطف محاطا بقدر من التوتر ، يقول الشاعر: ارسمه جسيما وسط هالته وسيما لا سقيما كلما هبت عليه الريح زالا! إن الشعرية التي تتكشف معجما وتصويرا وفكرة في هذا الديوان تفجر طاقات بالرموز والعلامات بعقول أجيال كاملة. صحيح أن وجها من الألم علي مآلات العرب ربما يطل من خلف صفحات القصيدة هنا ، لكن القسوة المفرطة في التعامل مع الإشارات والعلامات توشك أن تغتال الجسد المريض ، ساعة تعلن أنها تريد أن تشفيه ، أو تبعث بالعافية في أوصاله. الأيديولوجيا والجماليات ! وقراءة الديوان تكشف عن تقدم الأيديولوجيا وسبقها للفني بمسافات واسعة ، ولاسيما في آخر قصائد الديوان) صدي رجع الصدي( لقد حاول الشاعر أن يتكئ علي خصائص صوت السين ، حيث التزم في مواطن بعينها من جسم القصيدة ، مستثمرا طاقاته الصفيرية التحذيرية بما فيها من دلالة الصراخ والصفير. وهذه القصيدة ليست جديدة فيما تفتح أبوابه علي المتلقي ، فمسألة الحيرة الإنسانية التي تقف أمام الفعل الإلهي علي الأرض في تجلياته التي تبدو متناقضة لبعض العقول مسألة قديمة . وهي مسألة مطروقة في تاريخ الشعر المعاصر ولاسيما عند التيارات الفكرية اليسارية والليبرالية والحداثية وما زال القارئ المعاصر يتذكر بعضا من سؤالات مأساة الحلاج من رفاق الحلاج التي صاغها شعرا صلاح عبد الصبور ، رحمه الله ذ في مأساة الحلاج . لقد كانت الكلمات التي طفرت علي لسان الشبلي هناك محكومة بسياقها الدرامي من شخصية تحيط بها أزمة نفسية أو لحظة وجد غلب فيه القلب علي اللسان ، ثم كانت العبارات المتوالية هناك مشفوعة بإجابة باعثة علي الإيمان: كان الشبلي يقول: لكني ألقي في وجهك/ بسؤال مثل سؤالك؟ قل: من صنع الموت؟ قل: من صنع العلة والداء؟ قل: من وسم المجذومين؟ والمصروعين قل: من سمل العميان؟ ثم جاء مرة أخري ليقرر أن باعثه علي ذلك هو أنه يريد أن يملأ نفس الحلاج السائل بالنور و اليقين ، فقال: يا حلاج الشر قديم في الكون كي يعرف ربي من ينجو ممن يتردي أما هنا فقد توجه الخطاب فأسند بشكل مباشر فعل الشر بالله يجعل الفكرة الذهنية طاغية تعالن بوجودها فتحيل القصيدة في ظل قلق في تصميم اللغة، توترها مقالة نثرية اعتنت بقدر من الموسيقية : يقول الشاعر : يارب: كم كلفتهم ما لا يطاق! ويقول : كيف إذن صمت / طوال هذا الوقت! ويقول : متي ستجيب يارب؟ لقد قصم السكوت الظهر! إن أمثال هذه الأسطر في تصميمها اللغوي تبعث علي ظهور مخاطر حقيقية مدمرة ، لقد كان يصح علي سبيل التخفيف من ملامح ما تخفيه من شكوك متزايدة أن تتذرع بما يسمي السؤالات المفتوحة علي ما جاء في حوار الشبلي عند صلاح عبد الصبور. إن تعانق ازدراء معجم الهلال وما أحط به من مكونات ، وصور من جانب ، وتعالي معجم الصليب وما أحاط به من مجد العذراء ومدحها من جانب ثان ، وإسناد كلفة ما لا يطاق إلي الرب مباشرة من جانب أخير ذ أمور من شأنها أن تفتح بابا مرعبا لما تمارسه بعض أصوات الحركة الشعرية المعاصرة من تدمير للعقل والوجدان مما يستدعي معه الحاجة الملحة إلي فحص استراتيجيات شعرية الدمار عبر آليات العبث بالمعجم ، وتهديد المواطنة ، وتشويه المحددات المركزية لبناء الهوية ، وطعن المعني وتجاوزه وتعديل الإحساس به ، توصلا إلي تعديل الإحساس بالعالم. إن تدمير الهوية بتدمير محدداتها اللسانية سيقود إلي نسف أمة بكاملها تمتد فتغطي بامتدادها العراق وسوريا ولبنان والقدس ومصر بلادا كثيرة مترامية الأطراف. وربما صح في النهاية أن أقرر بوحي من بوالو في كتابه : فن الشعر : إن القصيدة وليد ينشد الحياة والفرح، ومن أجل ذلك فهي تبغض أن يتطاول مهرج ثقيل ، فيضع الجليل في قالب السقيم! وقد ترك مفهوم الدمار الشامل أثره علي الديوان نفسه فسقط في حومة مجافاة الجمال والفن تحت عجلات تقديس أيديولوجيا غازية!