صبحى فحماوى كثيراً ما قلت إن القراء شبعوا مقابلات مع الرؤساء والوزراء والمدراء، وإنني لو كنت إعلامياً مسؤولاً لعملت حوارات ومناقشات مع الناس البسطاء ، مثل عامل نظافة، وبائع خضار، ونجار، وسقاء ، ومصلح بوابير كاز، وملمع أحذية، وخادمة، ومع معوزين يقفون بالطابور في موعد إفطار رمضان علي موائد الرحمن. وأعتقد أن الروائي الجنوب إفريقي البسيط رغم عظمته، والذي حصل علي الجنسية الأسترالية عام 2006 ، يبدو أنه حقق لي هذه الأمنية، فهذه الرواية الغريبة من نوعها، كلها تدور حول إنسان (غلبان) اسمه مايكل.. ولد من أم تعمل خادمة في بيت عائلة، وهو ولد مشوه الوجه، لم تشعر أمه منذ اللحظة الأولي بالارتياح لهذا الوجه المشوّه ، فلم يتمكن من امتصاص ثديها، فأودعته في مؤسسة رعاية حكومية.. وعندما كبر عمل بستانياً في الحدائق العامة، ليكسب قوته في ظل ظروف معيشية صعبة للغاية، حيث صراع الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. ونظراً لتدهور حالة أمه الصحية، يقرر ترك العمل ، وحملها علي عربة صنعها من أخشاب وعجلين حصل عليهما من النفايات، ونقلها إلي الريف حيث مسقط رأسها، ليعيشا هناك بقية حياتها في بساطة ويسر خارج ضغط المدينة القاتل ، وهنا يكتشف أنه كي يرحل فعليه أن يحصل علي تصريح من الشرطة، فوعدوه به بعد ثلاثة أشهر ، فقرر مايكل أن يسير بأمه المريضة علي قدميه وهو يدفع عربتها في طريق بين الغابات، بعيداً عن أعين رجال الأمن ، فتجده يواجه الأمطار وقطاع الطرق وعذابات المرض والجوع(..وكانت صور الأطعمة تجتذبه أكثر مما تجتذبه صور النساء الجميلات، فعرض علي أمه »صورة« قطعة لحم كبيرة مشوية وحمراء) هذه المسيرة تنتهي بموت أمه علي الطريق، فيأخذ رماد جثتها من المستشفي، ويستمر في سيره نحو قرية أمه الموعودة، ومعه كيس رمادها. هذه الرواية التي صدرت عن دار الهلال المصرية عدد660 وترجمها عن الإنجليزية محمد يونس ، تدهشك في بساطة شخصيتها (مايكل) وعمق أحداثها التي تبدو سطحية، بهذا الشاب الفقير الشكل والمضمون ، وهو يصارع الحياة ، من حاجز مرور أمني، إلي مشاكل في كفاءة العربة المخلعة علي السير، إلي عذابات المطر والنوم تحت جسر، أو في عربة قطار (ورقد مايكل في عربة قطار مهجور ، وصندوق رماد أمه بين ذراعيه، فاحتضنه جاره الراقد متراصاً إلي جواره اتقاء للبرد الشديد . وقال مايكل: إنه يحسبني زوجته التي نام معها في السرير أمس!) وكوتسي هنا يضحكك علي مآسي الفقراء ، وهذه هي قمة السخرية من مجتمع عنصري قاتل لا يرحم. الذي يشدك هو أسلوب كوتسي البسيط والواضح، ودقة الوصف(حاول مايكل أن يستمع إلي الصمت المحيط به..لم يتناه إلي سمعه إلا صوت الحشرات، وطنين الذباب الذي لم يفارقه، وصوت نبضه..) وهذا الوصف الدقيق يجعلك تشعر وكأنك تدفع بالعربة جنباً إلي جنب مع مايكل، الذي ينوء تحت وطأة الفقر وضعف العقل، وبشاعة الشكل، ومسؤوليته تجاه والدته، وعدم القدرة علي الحصول علي القرش، والصراع الدامي في بلاده (فقال مايكل : هناك حرب وناس يموتون، وأنا لست في حرب مع أحد..ونستطيع أنا وأنت أن نحيا في سلام، إلي أن يتحقق السلام للجميع، فلسوف يأتي السلام ذات يوم ..لسوف يستسلم المعتدون قريباً ...) ويتساءل مايكل :(علام تدور الحرب في اعتقادك؟ هل تدور لسلب أموال الآخرين؟) الرواية تصور الحياة الإنسانية بكل عذاباتها ومكابداتها،(وشبك يديه وفك يديه وشبكها في عصبية عدة مرات... وفكر مايكل في وجود مكان للحرق في المستشفي، وتخيل النساء العجائز وهن يرسلن إلي الفرن واحدة تلو الأخري. والعيون التي تلسعها النار والشفاه والأيدي التي تلفحها نيران الفرن، والشعر الذي يحترق في النيران المتأججة، ثم يحترق كل شيء بعد ذلك، متحولاً إلي رماد...) وكثيراً ما يسأل نفسه : تري لماذا أتيت إلي هذه الدنيا علي هذا الحال؟