تنسيق الثانوية العامة 2025 ..شروط التنسيق الداخلي لكلية الآداب جامعة عين شمس    فلكيًا.. موعد إجازة المولد النبوي 2025 في مصر و10 أيام عطلة للموظفين في أغسطس    رسميًا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 1 أغسطس 2025    5 أجهزة كهربائية تتسبب في زيادة استهلاك الكهرباء خلال الصيف.. تعرف عليها    أمازون تسجل نتائج قوية في الربع الثاني وتتوقع مبيعات متواصلة رغم الرسوم    إس إن أوتوموتيف تستحوذ على 3 وكالات للسيارات الصينية في مصر    حظر الأسلحة وتدابير إضافية.. الحكومة السلوفينية تصفع إسرائيل بقرارات نارية (تفاصيل)    ترامب: لا أرى نتائج في غزة.. وما يحدث مفجع وعار    الاتحاد الأوروبى يتوقع "التزامات جمركية" من الولايات المتحدة اليوم الجمعة    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. مستندات المؤامرة.. الإخوان حصلوا على تصريح من دولة الاحتلال للتظاهر ضد مصر.. ومشرعون ديمقراطيون: شركات أمنية أمريكية متورطة فى قتل أهل غزة    مجلس أمناء الحوار الوطنى: "إخوان تل أبيب" متحالفون مع الاحتلال    حماس تدعو لتصعيد الحراك العالمي ضد إبادة وتجويع غزة    كتائب القسام: تدمير دبابة ميركافا لجيش الاحتلال شمال جباليا    عرضان يهددان نجم الأهلي بالرحيل.. إعلامي يكشف التفاصيل    لوهافر عن التعاقد مع نجم الأهلي: «نعاني من أزمة مالية»    محمد إسماعيل يتألق والجزيرى يسجل.. كواليس ودية الزمالك وغزل المحلة    النصر يطير إلى البرتغال بقيادة رونالدو وفيليكس    الدوري الإسباني يرفض تأجيل مباراة ريال مدريد أوساسونا    المصري يفوز على هلال الرياضي التونسي وديًا    انخفاض درجات الحرارة ورياح.. بيان هام من الأرصاد يكشف طقس الساعات المقبلة    عملت في منزل عصام الحضري.. 14 معلومة عن البلوجر «أم مكة» بعد القبض عليها    بعد التصالح وسداد المبالغ المالية.. إخلاء سبيل المتهمين في قضية فساد وزارة التموين    حبس المتهم بطعن زوجته داخل المحكمة بسبب قضية خلع في الإسكندرية    ضياء رشوان: إسرائيل ترتكب جرائم حرب والمتظاهرون ضد مصر جزء من مخطط خبيث    عمرو مهدي: أحببت تجسيد شخصية ألب أرسلان رغم كونها ضيف شرف فى "الحشاشين"    عضو اللجنة العليا بالمهرجان القومي للمسرح يهاجم محيي إسماعيل: احترمناك فأسأت    محيي إسماعيل: تكريم المهرجان القومي للمسرح معجبنيش.. لازم أخذ فلوس وجائزة تشبه الأوسكار    مي فاروق تطرح "أنا اللي مشيت" على "يوتيوب" (فيديو)    تكريم أوائل الشهادات العامة والأزهرية والفنية في بني سويف تقديرا لتفوقهم    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    الزمالك يهزم غزل المحلة 2-1 استعدادًا لانطلاقة بطولة الدوري    اصطدام قطار برصيف محطة السنطة وتوقف حركة القطارات    موندو ديبورتيفو: نيكولاس جاكسون مرشح للانتقال إلى برشلونة    مجلس الشيوخ 2025.. "الوطنية للانتخابات": الاقتراع في دول النزاعات كالسودان سيبدأ من التاسعة صباحا وحتى السادسة مساء    «إيجاس» توقع مع «إيني» و«بي بي» اتفاقية حفر بئر استكشافي بالبحر المتوسط    مجلس الوزراء : السندات المصرية فى الأسواق الدولية تحقق أداء جيدا    فتح باب التقدم للوظائف الإشرافية بتعليم المنيا    رئيس جامعة بنها يصدر عددًا من القرارات والتكليفات الجديدة    أحمد كريمة يحسم الجدل: "القايمة" ليست حرامًا.. والخطأ في تحويلها إلى سجن للزوج    فوائد شرب القرفة قبل النوم.. عادات بسيطة لصحة أفضل    متى يتناول الرضيع شوربة الخضار؟    تكريم ذوي الهمم بالصلعا في سوهاج.. مصحف ناطق و3 رحلات عمرة (صور)    حركة فتح ل"إكسترا نيوز": ندرك دور مصر المركزى فى المنطقة وليس فقط تجاه القضية الفلسطينية    أمين الفتوى يوضح أسباب إهمال الطفل للصلاة وسبل العلاج    الداخلية: مصرع عنصر إجرامي شديد الخطورة خلال مداهمة أمنية بالطالبية    الإفتاء توضح كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر    الشيخ خالد الجندى: من يرحم زوجته أو زوجها فى الحر الشديد له أجر عظيم عند الله    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير الخارجية الفرنسي: منظومة مساعدات مؤسسة غزة الإنسانية مخزية    ممر شرفى لوداع لوكيل وزارة الصحة بالشرقية السابق    رئيس جامعة بنها يشهد المؤتمر الطلابي الثالث لكلية الطب البشرى    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة قصيرة جداً
آه.. يابلد!
نشر في أخبار الأدب يوم 01 - 03 - 2013

انتهي من أداء صلاة الفجر. جلس إلي مكتبه بعد غياب شهر في رحلة في ضيافة الرحمن. كانت كل الأشياء في حجرة مكتبه تبدو باهتة.. رفوف الكتب من الأرض إلي سقف الحجرة، كأنها الجواهر واللأليء، في متحف الفن الإنساني، لكنها تختلف عن الجواهر المادية. لأنها أروع ما أبدعه الإنسان من ترجمة الأحاسيس والمشاعر واستقرت عيناه علي مجموعات الكتب الدينية الكثيرة... ولكنه طمأن نفسه.. أنه مازال في العمر بقية.. ليتذود من خلاصة من سبقوه في كشف سبل هذه الحياة الرخيصة. العفنة التي يتكالب عليها معظم الناس.. كما تتكالب الكلاب علي قطعة عظم عفنة..
كان في تلك الرحلة.. يشعر بالسعادة تغمر كل وجدانه وأحاسيسه وهو يطوف حول البيت العتيق حافي القدمين عاري الجسد الا من غلالة تستر عورته ويطوف.. ويطوف.. ويطوف..
مترنما بكلمات الاستغفار.. والحمد.. والشكر.. والدعاء ناسيا كل ما مر به من صراعات ودوامات في تلك اللعبة التي يسمونها.. الحياة.. وقد تلاشت السنوات الأربعون من ذاكرته.. وكأنها طيف.. أو حلم مر بخاطره..
ولفت نظره مجموعة الخطابات التي وصلته أثناء غيابه وأمسك بها.. يتصفح الأظرف الخارجية.. واستقرت عيناه علي ظرف أصفر.. لابد أنه آت من جبهة حكومية.. أو الضرائب.. ففتحه.. ووجد استمارة بها أرقام.. وخطاب مرفق بخط رديء.. يخطره بأنه قد تم الحجز عليه لعدم سداده الضرائب علي ايراده من أحاديث الاذاعة منذ سبع سنوات.. وغرامات تأخير.. فانتابته الدهشة.. كيف يحدث هذا.. وانه قد سبق عليه الحجز.. وسدد تلك المبالغ.. وأنه قد سدد ما عليه قبل أن يسافر إلي الأراضي المقدسة.. ولذلك قرر أن يكون أول عمل يؤديه في ذلك اليوم هو الذهاب إلي الضرائب.. ليري ما حدث.. وما حقيقة الأمر..
واستقل سيارته.. وعاد إلي رحلة العذاب اليومية التي استراح منها أكثر من شهر.. وانطلق بالسيارة بين مئات السيارات ويغوص في حفر الطريق ويصعد إلي أكوام الحجارة التي تزين جانبي الطريق.. إلي أن وصل إلي مقر الضرائب.. وعبثا يحاول أن يجد مكانا ليترك السيارة.. وبعد أن طاف بجميع الأزقة اضطر إلي أن يتركها بجوار احدي السيارات..
والتقي بمأمورة الضرائب الحسناء.. فقد تحولت المأمورية إلي مأمورية نساء وآنسات.. فالاعتماد علي المرأة في جلب الأموال مثل الكباريهات... والكازينوهات خير وسيلة سريعة للحصول علي الأموال..
ودار الحوار بين المأمورة وصاحبنا:
-كيف يتم الحجز دون اخطاري؟
-لقد أخطرناك بخطاب مسجل.
-أين هو؟
-هذه هي صورته.
-ولكنني لم أتسلمه لأنني كنت ضيفا من ضيوف الرحمن.
-لا شأن لنا.
-ولكنني سددت هذه المبالغ منذ سبع سنوات.. فكيف يتم الحجز بعد ذلك؟
-آه ان هذا المبلغ الأخير.. بواقي تلك السنة.
-بواقي.. المثل يقول اليهودي لما يفلس يبحث في دفاتره القديمة..
-انه مبلغ بسيط.. ويجب ان تدفعه.. وعليه أيضا.. غرامة تأخير.
وحاولت أن تخرج لعبة الآلة الحاسبة من درج المكتب ولكن بطنها المنتفخة.. حيث يتكور فيها جنين في طريقه الي دنيا اللعبة.. منعتها فقامت متضايفة..
-لقد اتعبتني يا استاذ..
-انني اسدد ما علي من ضرائب.. ولا أمانع فيها.. ولكن غرامة التأخير هذه.. ما شأني بها.
-قانون يا استاذ!
-أي قانون هذا.. هل أنا نهيت مائتي مليون جنيه مثل بعضهم.. وهربت إلي الخارج.. مجهول العنوان. انني أسدد بالتزام ما علي من التزامات..
-عظيم ادفع ما عليك.
-انني لا أمانع.. ولكن هذه الغرامة غرامة التأخير انها إتاوة..
-لا يا أستاذ.. انها قانون.
-قانون الإتاوات.. ان الراقصة في كباريهات شارع الهرم.. تلتقط بين ثدييها مئات الجنيهات.. ولا ضرائب عليها وضحكت المأمورة الحسناء..
-انها نقطة..
وضحكت باقي المأمورات الحسناوات الموجودات في الحجرة. فقد انحشرت الحجرة الضيقة وعلي المكاتب عشرات الدوسيهات والملفات.. في انتظار ايذاء البسطاء من الناس وانزال الصواعق عليهم..
-ان الناس البسطاء الذين تتمرنون في ايذائهم هم الذين يدفعون الضريبة.. أما ملوك المافيا.. والحشيش والتهريب.. وملوك الانفتاح وأصحاب السيارات ذات الثمانين ألف جنيه.. لا يمكن ان تحصلوا منهم علي الضرائب.
وانخرست المأمورة وارتسمت ابتسامات بلهاء علي شفاه باقي المأمورات الجميلات..
-هذا ليس اختصاصنا.. انها اختصاص مأمورية مكافحة التهرب من الضرائب.. المهم ان تدفع.. آه.. لقد نسيت..
-نسيت ماذا؟
-لابد أن تدفع قيمة الخطابات التي سوف نرسلها إلي الجهات والبنوك التي وقعنا عليك الحجز فيها.
-بنوك.. انني لا اضع اموالي في بنوك مصرية.
-أين تضعها؟
-في بنوك اسرائيل.
-سنحجز عليها.
-ليس بينك وبينها اتفاقية.. يا أختاه... لو كان معي نقود تستحق وضعها في البنوك.. لما جئت اليك.
-لا شأن لنا.
-لكن شأنك هو ارهاق الآخرين.. فوق ارهاقهم في الحياة.
-هل ستدفع؟
-سأبحث الآن مع نفسي.. الا يوجد شخص آخر أو رئيس.
-ولا وزير المالية.. اننا نطبق القانون.
-كما فعلت الدبة.
-ما هذا يا أستاذ؟
-هل تعرفين قصة الدبة التي أرادت أن تحمي صاحبها من ذبابة.. فهشمت رأسه بحجر.. ان اسلوبكم هذا في عصر الجباية هذا.. يجعل الشرفاء يتحولون الي سلبيين.. وسيدفع مولودك الثمن بعد ذلك..
وخرج صاحبنا.. والمرارة تعصر قلبه.. وغمامة قاتمة تعشش فوق عينيه.. وقد أحس بغليان دمه داخل رأسه.. وذهب إلي سيارته.. فوجد عليها طابع مخالفة لأن السيارة تقف في الممنوع.. وبصق علي الأرض.. واطلق ما في صدره من ضيق في تلك الكلمات.. »آه يابلد«.
وفي مكتبه جلس يحاول ان يلملم نفسه المبعثرة في دوامة ماديات الضرائب والوقوف في الاشارات.. وترك سيارته مرة اخري في الممنوع.. فالجو حار والشمس تحرق البقية الباقية من الأعصاب.. ودق الجرس.. جاءه الفراش.
-أين الآنسة ميرفت؟
-ذهبت هي وزميلاتها لمواساة مدام فاطمة زميلتهم..
-لماذا؟
-كادت تموت في عملية الولادة بالمستشفي.
-لا حول ولا قوة إلا بالله.
-وربنا ستر.. وتم انقاذها.. ولكن المولود مات..
-ما الذي يحدث.. لاشيء سعيد!!
ودق جرس التليفون.
-آلو..
-أين كنت؟
-ياه.. أين أنت..؟
-طلبتك أكثر من مرة.. وقالوا لي أنك مسافر إلي بيت الله.
-الحمد لله.. الحمد لله.. ماذا وراؤك؟
-كانت هناك بعض المشاكل.. ولم أجد من استنجد به الا انني.. ولكنك سافرت..
-ماذا حدث؟
-زوجي كاد يضيع منا.
-ماذا حدث..؟
-ضاقت الحياة بنا.. بعد ان عدنا من الخارج.. ومعنا بعض الأموال.. افتتح مشروعا لبيع الأثاث.. واعطي التجار البضاعة.. ومرت الأشهر ولم يدفع أحد شيئا.. وفي حوار حاد مع أحد التجار سقط زوجي مغشيا عليه..
-لا حول ولا قوة إلا بالله.. وماذا بعد؟
-نقلناه الي المستشفي.. واصيب بحالة شلل..
-ماذا حدث للناس.. لقد تحولوا الي وحوش في غابة..
-وأكثر.
-انها لعنة من الله علي الناس.. لأنهم ضلوا الطريق.
-قلت.. انك تعرف أخصائي.
-الأخصائي.. هو الله يا أختاه.
-لقد اصبت بالاكتئاب.
-كيف؟.. وانت راجع من مكان طاهر..
-وما قيمة ذلك.. وهناك الضرائب والأتاوات وعتاولة المافيا.. وعصابات ما يسمي بالانفتاح ينهشون في بعض.. ولا احد يعلقهم من رقابهم..
-ياه.. إنك.
-اعرف.. انني فقدت الرؤية.. لم استطع ان اتوازن مع نفسي.. انني انطح رأسي في جبال.. الواقع.
-وايمانك.
-لولا بقية من ايمان.. لتحولت إلي شيطان..
-انك لست في حالتك الطبيعية.
-هو كذلك.
-ارجو ان تعود إلي طبيعتك.. اننا في حاجة اليك... إلي اصرارك علي الصمود دائما.
-ان الأعاصير أقوي مما صادفني طوال حياتي.
-سأتصل بك فيما بعد.
-وهو كذلك.
دق جرس التليفون مرة اخري.
-خطيبة سيادتك يا افندم..
-شكرا.
-ألو.. هل انتهيت من أعمالك؟
-انني انتهيت من نفسي.. سأنزل اليك فورا..
ولملم الأوراق من فوق مكتبه وحمل حقيبته ونزل.. فوجد خطيبته تستقبله بابتسامة كعادتها ولكنه لم يستطع ان يبتسم.. وخرجا من المبني الي الشارع.. كانت السيارات تمرق من أمامهما.. وقالت:
-أين السيارة؟
-هناك بجوار كورنيش النيل.
وقف مدة.. وهو يحمل الحقيبة في يد وفي اليد الأخري مجموعة من الأوراق والصحف.. ومرت السيارات إلي أن وجد الطريق شبه خال.. فحاول العبور.. ولكنه فوجيء بعربة نقل آتية نحوه مسرعة وتقدم إلي الأمام مسرعا فرأي السيارة تقترب نحوه فتراجع.. واختل توازنه وسقط علي الأرض وتبعثرت الأوراق وكادت السيارة تمر فوقه واخطأته ببضع سنتيمترات.. وحاول ان يقف.. ولكن ذراعه الأيسر لم يسعفه علي الوقوف فقد تغطي بالدماء التي تنزف بسرعة.. وهرع إليه بعض المارة.. وساعدوه علي الوقوف.. فوقف مذهولا اذ كان مع الموت وجها لوجه منذ ثوان. التقت عيناه بمنظر خطيبته وهي واقفة كقطعة من الحجر وقد وضعت يديها فوق وجهها الشاحب.. والتقطت أذناه عبارات مختلفة من المارة »الحمد لله.. ربنا ستر« »كتب لك عمر جديد«.. »سواقين مجانين«.. »السواق هرب«.. »سيارة النقل بلا نمر«.. »آه يا الله«.. »الحمد لله«.. »انتبه وانت تعبر الشارع«.
وفي لحظات أصبح الشارع خاليا من السيارات.. واختفي المارة وحمل صاحبنا الحقيبة والأوراق وعبر الشارع وخلفه خطيبته صامته.. وقد فقدت النطق.. وذهب الي سيارته ووضع فوقها الحقيبة والأوراق.. وفتح الباب وأخرج علبة المناديل الورق ليمسح الدماء.. وأخرجت خطيبته منديلها لتضعه فوق الجرح.. لتوقف النزيف..
-لابد أن نذهب إلي أقرب مستشفي.
-لماذا؟ لاداعي!
- لابد أن نذهب إلي أقرب صيدلية.
وظلت تمسح الدماء بينما تعلقت عيناه بمياه النيل الكالحة. اللون ووقفت آلة التفكير لديه بحركات آلية.. دخل السيارة ومعه خطيبته.. وانطلق مع بقية السيارات الي صيدلية كانت قريبة وتم تطهير الجرح وتناول بعض الأدوية.. وقد انطلقت السيارة مرة اخري في طوابير العذاب في شارع مجري العيون ثم صاعدا الي جبل المقطم ليبحث عن شقة هناك للمرة الثالثة.
وسمع آذان صلاة العصر، فدخل الجامع الوحيد هناك هو وخطيبته ليستعيد نفسه.. ويشكر الله علي منحه القدرة علي الصبر. وفي الجامع. لم يجد ماء ليتوضأ فتيمم وأدي الصلاة وخرج ليبحث مرة اخري عن شقة الأحلام.. وذهب الي صديقه الذي وعده بالعثور علي شقة في المقطم.. أجمل مكان بالقاهرة للاستشفاء من جحيم القاهرة.. ولكنه لم يجده فقد سافر لبعض أعماله.. وانطلق بسيارته بين شوارع المقطم باحثا عن شقة.. الي ان وصل الي حافة المقطم حيث يطل منها علي القاهرة.. قابعة في السفح بآثارها.. وبظلال بيوتها.. حيث غطتها سحابات من الأدخنة الصاعدة من أفران الجير.. التي تملأ منطقة »عين الصيرة« جلس هو وخطيبته.. فوق احدي الصخور.. يتناولان بعض الشطائر والشمس تميل نحو الأفق.. لتنام خلف الأهرامات.. التي تبدو بعيدة.. وجلس يأكل همه وغيظه وخطيبته تحاول ان تخفف عنه.
-لن يضيع الله جهدنا في البحث عبثا..
-لماذا ندخل الله في كل شيء.. وما يحدث لنا من صنع الإنسان.
-أنك تؤمن بالله.
-لا حول ولا قوة الا بالله.. ولكن ما نحن فيه.. ليس من صنع الله.. انه لايعذب الناس..
-لاتيأس..
-أنا لست يائسا.. ولكنني انفجر من الداخل.. انظري هناك.. تحت.. هذه مقابر البساتين.. ان الأحياء يزاحمون الأموات في قبورهم ولا نجد انا وانت مكانا لكي نمارس حياتنا الطبيعية.
ونظرت اليه خطيبته.. نظرات مفعمة بالحب ولم تتكلم- ان الكلمات تنطلق من فمه كلطلقات مدفع رشاش.. وانطلقت الكلمات من فمه:
-يقولون ان نيرون الذي احرق روما مجنون.. ولكني اتمني الآن.. لو أري القاهرة وهي تحترق..
-ما ذنب الناس الطيبين الصابرين.
-لأنهم سكتوا علي الأشرار.. واستطابوا الحياة بجانبهم.. يرون كل الفساد ولايتحركون..
-وما ذنب البلد؟
-آه.. يا بلد.. ماذا جري لنا..؟
-وتحرق الأهرامات؟
-الأهرامات لن تحترق.. انها شامخة.. ترمز لسطوة فرعون.. وجبروت ان الناس منذ الأزل يحبون سطوة الفرعون.. واستكانوا لهذا.
-انت تغالط.. ليس هكذا كان الناس.. لقد قتلوا الفراعنة والمستغلين..
-عندما اصبحوا رجالا.. انظري الي القلعة قلعة محمد علي.. جاء من هناك.. وشيد تاريخا بالدم ومات.. وطوي التاريخ افراد اسرته.. وبقي رمز الجبروت.. في القلعة.. ونبيع مشاهدة الرمز للغرباء.. والسياح.
-لماذا كل هذه النظرة السوداء؟.. ارجوك.. استرح لحظة..
-ليتني استريح..
-هيا ننزل من هنا.
-بالعكس انني استريح هنا.. وأنا أري القاهرة.. تحت قدمي.. والبيوت كبيوت النمل.. والقبور ينيرها الأحياء بالتليفزيونات والكهرباء.. بانوراما غريبة يعجز أي عبقري عن اختراعها.
-ليس الحل في ان تحرق كل شيء!
-لكي يأتي أناس جدد.. يستحقون ان يعيشوا فوق تلك الأرض..
-انهم موجودون فعلا.
-أين؟
-انت مثلا.. وغيرك كثيرون.. تستطيعون ان توقفوا الأشرار.
وضحك.. ضحكة.. ضاعت في ذلك الفضاء الواسع.. امام بانوراما الغروب والشمس تلملم الوانها واشعتها من فوق القاهرة كلها.. ليرخي الظلام علالات شفافة رمادية عليها..
ولكن ان هذه الأماكن.. والآثار تحكي قصة حبنا وامامك جامع السلطان حسن والرفاعي وابن طولان.
-عظيم.. عظيم.. ان السلطان حسن بني جامعه ولم يدفن فيه.. لقد اغتاله الخواتم المماليك.. أما الحب.. الذي كنت احيا به.. واتنفس به اصبح ذكري!..
-كيف.. وانا بجانبك..؟
-ما انا فيه انساني نفسي!..
-انها فترة ودوامة لاتجعلها تجذبك الي القاع وانت احسن حالا من الكثيرين.
-المشكلة انني احس بالآخرين ولا استطيع ان احس بالسعادة ومن حولي يتألمون انظري.. انظري هناك..
-أين..؟
-لا.. ليس علي القاهرة.. ولكن بجانبنا.. هؤلاء الأحبة والعاشقين ما الذي يفعلونه.. بعد ذلك هه..
-لا أفهم.
مجرد عبث بالحب.. وحكايات حب فاشلة بسبب الاحباط.. انا مثلا.
-عظيم.
-العظمة لله يا حبي.. انا مثلا.. احس ان قصتنا سوف تختنق.. اذا لم نجد شقة.
-لاتقل هذا.
-انها الحقيقة المرة.. وموعد تنفيذ الإعدام في حبنا آت لاشك فيه.
-انك متعب.. هيا بنا نسير قليلا.. هيا..
ووقف صاحبنا.. وكأنه يرفع من فوق كاهليه اثقالا من الحديد.. كأنه في مسابقة لرفع الأثقال.. واحاطت وسطه بذراعها الأيمن.. وكأنها تمنعه من السقوط.. وظلت تدندن باغنية حبيبة الي نفسيهما.. وسمعا صوت آذان المغرب.. يدعوهما الي الاستحمام في بحر الرحمن.. بعيدا.. بيعدا.. عن الأتربة.. والغبار.. وغمر نور القمر ظلام المقطم، وشعشعت الأنوار في أفق القاهرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.