يدهشنا نحن العرب هذا القتل الذي تسرب إلي ميادين المجتمع المصري المسالم الحضاري الطيب، سواء في موقعة الجمل، أو في إستاد بورسعيد أو في الإسكندرية أو أمام ماسبيرو، أو أمام مبني اتحادية الرئاسة أو في محمد محمود أو في غيرها من المواقع .. ستقول لي: ها هي لبنان خاضت حرباً أهلية مدمرة استمرت 15 سنة، وها هي سوريا اليوم، وحدِّث ولا حرج، ومن دون الدخول في التفاصيل، أقول لك إن مصر التي »يدخلونها بسلام آمنين« تختلف عن كل الآخرين، فإن شعبها منذ كان..هم »أشداء علي الأعداء الغرباء، رحماء بينهم"، فهذا الشعب العظيم الذي حطّم بأسنانه جسور خط بارليف المنيعة، وفجر ثورة قال الشعب الأمريكي في (تايم سكوير) نيويورك إنه يتعلم منها كيف يثور علي الرأسماليين المتوحشين في (وول ستريت)، هذا الشعب أعرفه حق المعرفة عندما كنت أدرس في جامعة الإسكندرية، أنه مسالم حتي في مزاحه ولهوه ولعبه، ودعني أذكر لك أننا نحن الشوام القساة حتي في مزاحنا، إذ يمزح واحدنا مع رفيقه بضربه علي قفاه، وهو يقول له: كيفك (إزيّك) يا صديقي؟ فالضرب عندنا عملية طبيعية، ولهذا كان لي صديق مصري عزيز، في جامعة الإسكندرية عام 0791، كنا نأكل ونشرب معاً مثل الإخوة ، وذات يوم قابلته في أرض الكلية، فعرقلت رجله، مازحاً بدفاشتي »سليمة النيّة« طبعاً، وقلت له إزيك يا جميل، ولكنه رغم عدم وقوعه، إلا أنه تجاهلني، وفي اليوم التالي لم يُصبِّح عليّ، واستمر هذا الجفاء ثلاثة أيام، حتي واجهته باستفساري حول جفائه مني، فقال: »لأنك (كعبلتني) قبل ثلاثة أيام«..قلت له : »إنني أمزح معك« فقال إن الهزار بالكلام وليس باليد.. فاعتذرت له. ومن يومها حرّمت أن أمد يدي علي زميل أو صديق..صرت أمزح ب»الحديث الناعم« الذي ذكره نزار قباني.. لا أقول هذا لأسليك، ولكنني شاهدت شرطة مبارك في الثمانينات يضربون المواطنين المسالمين في الشوارع ب(الشلّوت) القاسي جداً علي منتصف مؤخراتهم، فاشمأزيت من تلك المناظر التي تكررت مشاهداتي لها في أكثر من موقع..وفي منطقة السيدة زينب كنت أزور دار الهلال، فأشاهد الشرطي الشبعان، يسير في الشارع وهو يجر مواطناً غلباناً، يشبكه بيده بكلبشة السوري، (أبو كلبشة).. كان هذا علي مرأي ومسمع المجتمع، الذي كان يتألم ويُخزِّن طاقة العنف والرفض معاً، فانفجر لحظة التشبع التام بعنف مضاد.. ناهيك عن أفلام السينما والمسلسلات التي راحت تُسوِّق العنف والقتل وحارة الباطنية، والمقطم، وألعاب كاراتيه وعصابات ليست من طباع الشعب المصري الطيب المسالم، وراح البطل في المسلسل يحضر حقائب مليئة بالدولارات، وعند الطعام يشلخ الفرخة نصفين، فيلتهم نصفها بمضغتين، ثم يقضي علي ما تبقي بنهشتين.. هذه المناظر التي تَشبّع المجتمع المصري بمشاهدتها وتخزينها، والتي اختلفت عن أفلام عبد الحليم حافظ الذي كان يقابل حبيبته بقميص بلا أردان، فيغطيه بجاكيته ليستر فقره.. تلك الأفلام الجميلة الرقيقة انتهت، وحل محلها مجرمو العنف، فشرب المجتمع هذه التصرفات، وشاهد هذه السيارات الليموزين المذهلة، بينما فقراؤهم لا يجدون عربية »علي عوض« الكاروه.. هذا التباين الطبقي، والعنف الحكومي، والثقافة الرأسمالية المتوحشة، والانفتاح علي القنوات »الفضائحية«، هو الذي غير المجتمع المصري، وجعله يتجه نحو تنفيذ العنف، ابتداء من من موقعة الجمل، وأرجو أن يكون انتهاء بعنف باتحادية الرئاسة. وهنا مطلوب من الحكومة الرشيدة أن تعيد الطيبة إلي ثقافة وسلوك هذا المجتمع، إعلامياً بالسينما والتلفزيون وخطب المساجد، وأن تخفف من التباين بين الطبقات، وأن تدعم الطبقة المتوسطة، وأن تنهي مأساة المخدرات، وتحاصر التدخين، وأن تُشغِّل العاطلين عن العمل، فلا يتفرغوا للعنف.