ما لنا أصبحنا كل ساعة في شأن؟ ما لمتغيراتنا طغت علي ثوابتنا ؟ ما كل هذا الاهتزاز والابتزاز؟ ما لمنظومة القيم انفرط عقدها انفراطا وتفريطا؟ ما للسواد تجبر علي البياض في العقول والقلوب والنفوس؟ ما كل هذا العماء .. وقد غشي العيون التي في طرفها شوق للتبصر والإبصار؟ لماذا كل هذا الإنشطار والتشظي والانتحار والانقسام والثأر والانتقام والحقد والضغينة والفتنة والبغضاء والأنانية والمناورات والمراوغات؟ ما لك أيها المجتمع ؟ ما الذي حدث لك يا أول مجتمع في الوجود نادي بالتوحيد؟ دستورك أيها المجتمع المصري.. دستورك أيها العبقري إنسانا وزمانا ومكانا.. دستورك أيها الوطن المصري.. دستورك أيها المواطن المصري.. أمن أجل الشوق الي دستور ناظم لحياتنا، أو يفترض ذلك - نمارس كل هذا الانتحار ونقف علي حافة السقوط إلي أعلي؟. نعم .. إن الشعوب المتحضرة تدفع الدماء والدموع ثمنا لدساتيرها.. هذه حقيقة تاريخية واجتماعية وحضارية. لكن جذور المأساة تكمن في غياب أو تغييب العقل السياسي الذي لا يزال يحمل ويتقبل فكرة الإمام العادل أو المستبد العادل وهي تماثل فكرة الليل المضيء، وتعادل المستحيل.. لماذا؟ لأن العدل والاستبداد لا يجتمعان، علي حد توصيف المفكر السوري د. محمد شحرور في أطروحته عن »الدولة والمجتمع« فمنذ الطبعة الأموية للتاريخ استولي »معاوية« علي الحكم بالقوة، وجعله وراثياً بالقهر، تم تهميش دور المسلمين، حتي يومنا هذا، في الأمور التي تتعلق بالسلطة السياسية. وما زالت الشعور العربية والإسلامية، حتي يومنا هذا، تعيش علي الهامش في الأمور التي تتعلق بانتقاء الحاكم وصلاحياته ومدة حكمه، وما زال الاستبداد السياسي هو المسيطر علي العقل العربي الحاكم والمعارض علي حد سواء. وخذ مثلا ..الإنسان العربي يشعر، مثلاً، عندما تتم مخالفة إشارة المرور ويشعر بإجحاف في قانون الجمارك، ويشعر بتعسف ضريبة الدخل، فيعبر عن سخطه، وهو محق في ذلك. لكنه لا يشعر مطلقاً بمخالفة دستورية حين تقع، هذا إن وجد دستور أصلاً ! لماذا؟؟ لأن القانون هو الذي ينظم حياة الناس اليومية، وهو ما يعادل الفقه الذي نظم الحياة اليومية للناس في عصور التدوين وما تلاها. فكان بمثابة اللائحة التنفيذية القانونية التي يعمل بموجبها القضاة في فض النزاعات والخصومات، وتنظيم علاقات الأفراد بعضهم مع بعض. لهذا، فالعقل القانوني عندنا لا يعاني من قصور، إنما العقل الدستوري هو الذي يعاني من القصور، لذا تبدو أزمة الديمقراطية مستعصية في العقل العربي السياسي قبل أن تكون مستعصية في المؤسسات فخلال هذه القرون الطويلة أصبح الاستبداد فلسفة تدخل ضمن شخصية الانسان العربي وقناعاته وممارساته ورسخ الفقه هذه القناعات بأن أعطاها الشرعية، وتم تأطيرها فقهيا من خلال طاعة أولي الأمر، بغض النظر كيف أصبحوا أولي الأمر، وفلسفيا من خلال العقيدة الجبرية، وظهر الاستبداد بكل مستوياته : عقائديا وفكريا ومعرفيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، وتجلت الظواهر الثلاث :»الفرعونية« و»الهامانية والقارونية« وظهرت المقولات الاستبدادية التي رسخها فقهاء السلطان. وأستحضر هنا مقولة المفكر عبد الرحمن الكواكبي في رائعته التي تخترق الزمان والمكان»طبائع الاستبداد»إذ يقول: »لقد ألفنا الأدب مع الكبير ولو داس رقابنا، وألفنا الثبات ثبات الأوتاد تحت المطارق، وألفنا الانقياد ولو إلي المهالك، وألفنا أن نعتبر التصاغر آدبا، والتذلل لطفا، والتملق فصاحة، واللكنة رزانة، وترك الحقوق سماحة، وقبول الإهانة تواضعا، والرضي بالظلم طاعة، ودعوة الاستحقاق غرورا، والبحث في العموميات فضولا، ومد النظر الي الغد أملا طويلا، والإقدام تهورا، والحمية حماقة، والشهامة شراسة، وحرية القول وقاحة، وحرية الفكر كفرا، وحب الوطن جنونا«. قبل أيام كنت في جلسة داخل أجواء القلعة وتحاورت مع المفكر الدكتور ابراهيم البحراوي، واستقطرت منه عبارة مكثفة فائقة الحساسية، ونحن نتجاذب أطراف الحوار عن اللحظة الراهنة الدامية، إذ قال لابد أن تتساوي القوتان الأكبر في المجتمع وأن يصل منسوبهما الي التوازي ليبدأ الحوارالجاد، هكذا يتحث المثقفون الحقيقيون ، وحين يتحدثون لا نسمع لهم، ويكتبون ويحللون .. فلا نكترث،! يدقون نواقيس الخطر فنصم وعينا، يطلقون التحذيرات والإشارات المبنية علي البينات .. فنضيعها دخانا في الهواء، ! يصرخون فنحصرهم في الآبار العتيقة، وتصير أفاكارهم ورؤاهم.. عاصفة في فنجان مقلوب!. أتذكر - واللحظة الراهنة عنيفة - كلمتين بينهما تضاد وتشابه إلا قليلا ، الأولي للعالم الدكتور فاروق الباز، والثانية لأنيس منصور في أيامه الأخيرة، وقد رأي السيناريو الذي يتلاحق منذ فبراير 2011 حتي الآن قال لي »...أخاف علي شباب الثورة من الفتنة، أخاف عليهم من أنفسهم أن يفتنوا بأنفسهم وهم شباب لم تفسدهم السلطة بعد، ثم إنهم كثيرون، جماعات وفرق، كما أن عددا من الأحزاب القديمة قد تسللت إليهم. والكل يتطلع إلي السلطة الجديدة سبيلا لتحقيق الآمال وإصلاح الحال والوفاء بما وعدوا وتعهدوا لمصر والعالم . والثوار - عادة - حماسيون جدا. وعندهم تخوف من أن تقفز عليهم قوي معادية تريد أن توقف عجلات التاريخ.ولذلك فالثوار يريدون أن يكونوا وحدهم وأن تكون قراراتهم نهارا جهارا.. ولأن الناس اعتادوا علي التضليل وعلي الكذب وعلي الغش، فالثوار يريدون أن يؤكدوا طول الوقت أنهم طراز مختلف، وهنا أخاف عليهم من الغرور ومن أن يفسدهم الناس كما أفسدوا غيرهم من قبل، والثورات لا ترتد إلي الخلف. لأنها قوة دافعة إلي الأمام. فلا خوف عليها إلا منها هي.. ثم من أعداء الشعب.. خصوم التجديد.. الحاقدين علي الشباب وأسلوبه الجديد وخياله البديع... اللاعبون في الساحة كثير..الاحزاب والجماعات الدينية والإخوان المسلمون، والسلفيون، والجمعيات المتعددة الأسماء، والشباب، وستشهد المرحلة ظاهرة االأحزاب الائتلافيةب وهي الحل لكل هذه الأصوات المتفرقة، فقد انتهي عهد الحزب الواحد والأوحد، علينا الإنتظار والترقب، والأفضل هو الذي يتم اختياره من الشعب».ارقبوا الآن المسافة الضيقة بين التصورات والتصديقات. وأما د.فاروق الباز فقال لي: عندما نقرأ تواريخ الثورات ، نجد مثل هذه التداعيات، وأشبهها لك جيولوجيا، فالثورة عبارة عن زلزال ، كتل بينها شقوق، تتحرك كتلة بفعل الضغط، فتتحرك بقية الكتل، حتي تتوازن، فكل كتلة تأخذ مكانا جديدا نتيجة الحركة، وما يحدث الآن وسيحدث مجرد أفعال توابع مجهدة، لا تدري ماذا تفعل، ولا إلي أين تتحرك ذات اليمين أو ذات الشمال، والكتلة الأسسية تحركت، وما يحدث في مصر الآن من قلق واضطرابات هي نسبة لا تمثل أي خطورة علي المجتمع مقارنة بالثورات التي حدثت في الدول الأخري، لكن الإلتئام يا دكتور فاروق يبدو أنه لا يريد أن يتم ، كأنه هو الآخر يمارس العصيان، فهل هذا لا يزال طبيعيا، في ظل هذا الواقع الذي تصعب قراءته قراءة كاشفة، فالضباب أكثر كثافة بل تزداد طبقاته إظلاما، أما من شعاع؟ أليس فينا رجل رشيد (بحق وحقيق) هل عدمنا الأمل في دوامة الألم؟. ألف هل .. وألف كيف.. وألف لماذا؟. لكن .. ما جدوي ثقافة الأسئلة؟ ونحن نؤهل أنفسنا لدخول حرب أهلية،وقانا الله شرها، نعم هي حرب أهلية، علي حد توصيف الإشارة التحذيرية التي أطلقها د، جابر عصفور قبل يومين ولما استوضحته أكد أنها قادمة لا محالة إذا استمرت الحالة بهذا الشكل المتأزم!. لماذا العجلة في أمرنا، لماذا الاستعجال غير المبرر، نضيع الأولويات ، ونهمش المضامين ، ونفتن أنفسنا بالشكليات، نؤخر ونقدم بلا تخطيط في الأطروحات، بل نتعمد تخليط الأوراق، وما نجنيه الآن هو من صنيع أيدينا، لا محكمات في أمورنا، كلها متشابهات، وانظر بلا تحديق في صياغة الكثير من عبارات ومفردات الدستور المنتظر- الذي يبدو وكأنه لم يخلق مثله في البلاد- تجدها عرضة للتأويلات والقراءات وكأنها ألغازا، أو هي كذلك، لأنها غير محددة المعاني، ولأن اللغة لا تنفصل عن الفكر، فتجد هناك المعاني»الثواني« التي تخلق الالتباس، وحين نعدم تحديد المصطلحات لا تستقيم أمورنا .. ولن.. وهو ما يحدث وسيظل يحدث. فأين أنتم يا أهل القانون والفقه الدستوري في بلادنا؟ يا من وضعتم العديد من دساتير دول المنطقة، وقد رأيتكم بعيني ، وأنا علي ذلكم من الشاهدين. نعم.. إن الإشكالية، أكبر من ذلك، إنها تكمن في غياب العقل الدستوري بالمعني الأوسع؟. تري هل تجف الأقلام وتطوي الصحف.. أتساءل والقلم ينزف هذه السطور قبيل غروب شمس الخامس من ديسمبر، التي ألقي في عينها حروفي البائسة واليابسة واليائسة من جراء تثبيت المشهد المصري الذي بدأ... خلاقا! ومر بتحولات شتي، سلبياتها أكثر من إيجابياتها، وها نحن نحصد شتاتها من جراء تفتيتها، وتشظي المجتمع والناس والدولة. ولعل في سؤال السائق البسيط، ابن البلد، دلالة قوية علي ذلك ومثله الملايين، إذ هو يبدي لي حيرته وتمزقه، مما يسمع ويشاهد ويقرأ:» أقول للدستور: نعم ، أم أقول: لا؟ دوخونا يا أستاذ..جماعة كده وجماعة كده. نعمل إيه، وكلهم بيتكلموا باسم الشعب، وكل واحد بيقول ان هو الصح، نصدق مين بالضبط«. وقد نقلت هذه الحيرة إلي الرأي العام من خلال حوارية فضائية، وفوجي المتحدثون بالسؤال الذي لم يتحسبوه..وها هو يطرح وبقوة.. في ميدان رمسيس ، رأيت - أمس- الباعة يبيعون الدستور بعشرة جنيهات للنسخة لواحدة، مع أن ثمنها جنيهان فقط؟ ما رأيكم ؟ وما الدلالة؟ ولماذا هذا الإقبال في الشارع؟ قل هو الوعي، قل هو الإدراك؟ قل هو ذكاء المواطن، الذي نسف كلمة التهميش من قاموسه وإلي الأبد، قل هو يتمثل ذلك الفلاح الفصيح في شكواه التاريخية الي الفرعون، قل هو المؤلف المجهول الذي غني مواله الشعبي الفلسفي الذي يكثف علاقته بكل حاكم لا يفهمه: أنا جمل صلب لكن علتي الجّمال غشيم مقاوح ولا يعرف هوي لْجمال إن قلت يا بين هو الحمل دا ينشال يقول خف الخطا وسير علي مهلك وكل عقدة ولها عند الكريم حلال(!).