رسميًا بعد انخفاضه.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 8-5-2025 بالبنوك    الخارجية الألمانية تنشر بيانا باللغة الروسية في الذكرى السنوية لنهاية الحرب العالمية الثانية    بث مباشر يلا كورة.. إمام يقود الأهلي لفوز مثير على المصري ويعتلي صدارة الدوري    «الصحة» تنظم مؤتمرًا علميًا لتشخيص وعلاج الربو الشعبي ومكافحة التدخين    رئيس أساقفة الكنيسة الأسقفية يهنئ الكنيسة الكاثوليكية بانتخاب البابا روبرت فرنسيس بريفوست    أخبار مصر اليوم.. بوتين يستقبل السيسي في الكرملين    محافظ سوهاج يبحث تطبيق الهوية البصرية على الكوبري الجديد بالكورنيش الغربي    هيبة: مصر أنفقت 550 مليار دولار على تحسين البنية التحتية خلال 10 سنوات| خاص    مستشار وزيرة التخطيط: 44% من القوى العاملة بحلول 2030 ستكون من الجيل التكنولوجيا الحديثة    محافظ سوهاج يتفقد مركز الكوثر الطبى ويوجه بخطة عاجلة لتشغيله    النواب يناقش تعديل قانون مهنة الصيدلة وتنظيم إصدار الفتوى الشرعية    ريتشارليسون يتصدر تشكيل توتنهام أمام بودو جليمت بنصف نهائي الدوري الأوروبي    محمد فوزى: التحركات المصرية القطرية الهامة تأتى فى ظل وضع إنسانى صعب بغزة    ترامب: انتخاب بابا للفاتيكان أمريكى للمرة الأولى شرف عظيم    "أوتشا": عنف المستوطنين بالضفة الغربية فى تزايد    انطلاق قوافل المراجعة النهائية المجانية لطلاب الشهادة الإعدادية بالأقصر (صور)    بعد قليل.. الأهلي والاتحاد.. نهائي كأس مصر لكرة السلة    نفس توقيت نهائي الكأس.. ديسابر يعلن ضم ماييلي لقائمة الكونغو الديمقراطية في يونيو    كرة يد - قبل مواجهة الأهلي.. الزمالك يتعاقد مع 3 لاعبين    ضربها بحزام وصورها عارية.. علاقة عاطفية تنتهي في جنايات كفر الشيخ    محافظة القاهرة: حريق شركة الأدوية لم يسفر عن إصابات    معدات ثقيلة لرفع سقف موقف قوص المنهار فوق 40 سيارة (صور)    انتشال جثمان عامل من غرفة تفتيش صرف صحي بالمنيا    تقرر مد مسابقة توفيق الحكيم لتأليف المسرحي .. اعرف تفاصيل    «كان يخاف ربه».. هالة صدقي تحسم جدل أزمة طلاق بوسي شلبي من الراحل محمود عبد العزيز    ما تأثير الحالة الفلكية على مواليد برج الحمل في الأسبوع الثاني من مايو 2025؟    أكشن بتقنيات عالية.. الإعلان التشويقي لفيلم المشروع X ل كريم عبد العزيز    MBC مصر تعلن موعد عرض مسلسل "بطن الحوت"    فعاليات تثقيفية متنوعة ضمن دوري المكتبات بثقافة الغربية    مسابقة قرائية بمكتبة مصر العامة    ياسمينا العبد: كنت متأكدة إني هبقى سبب فشل مسلسل «موضوع عائلي 3» (فيديو)    أمين الفتوى: لا يجوز للزوج أخذ "الشبكة" من زوجته رغمًا عنها بعد الزواج    علي جمعة: السيرة النبوية تطبيق عملي معصوم للقرآن    ب3 مواقف من القرآن.. خالد الجندي يكشف كيف يتحول البلاء إلى نعمة عظيمة تدخل الجنة    السبت المقبل.. 23 ألف طالب يؤدون امتحانات الفصل الدراسي الثاني بجامعة أسوان    انطلاق المؤتمر الثالث لوحدة مناظير عائشة المرزوق في مستشفى قنا العام    محافظ سوهاج يوجه بسرعة استلام وتشغيل مركز الكوثر الطبي خلال أسبوعين    القومى للبحوث: اكتشاف إنزيم مهم من فطر الاسبرجليس لتقليل الكوليستيرول بالدم    الدخان الأبيض يعلن بدء رحلة بابا الفاتيكان الجديد.. الأجراس تدق والاحتفالات تملأ الشوارع    رابط نتيجة الاختبارات الإلكترونية للمتقدمين لوظائف معلم مساعد مادة رياضيات    خبراء يحذرون: الزمن هو الخطر الحقيقي في النزاع النووي الهندي الباكستاني    محافظ الجيزة: تحسين كفاءة النظافة بمحيط المدارس استعدادا للامتحانات    الرياضية تكشف موعد انضمام ماركوس ليوناردو لتدريبات الهلال    وزارة الشباب والرياضة ... شكراً    طلاب جامعة الدلتا التكنولوجية يشاركون في معرض HVAC-R.. صور    محافظة الجيزة ترفع 150 طن مخلفات في حملات نظافة مكبرة    "10 دقائق من الصمت الواعي".. نصائح عمرو الورداني لاستعادة الاتزان الروحي والتخلص من العصبية    محافظ مطروح يتفقد تصميمات الرامبات لتيسير التعامل مع طلبات ذوي الهمم    انخفاض عمليات البحث على "جوجل" عبر متصفح سفارى لأول مرة لهذا السبب    نائب وزير الصحة يتفقد وحدتي الأعقاب الديسة ومنشأة الخزان الصحية بأسوان    تكثيف جهود البحث عن فتاة متغيبة منذ يومين في القليوبية    تركيا: إسرائيل تمنع إيصال المساعدات الإنسانية وتحاول تهجير الفلسطينيين وتثبيت وجودها في غزة بشكل دائم عبر توسيع هجماتها    خالد بيبو: كولر ظلم لاعبين في الأهلي وكان يحلم بالمونديال    اختناق 4 أشخاص في حريق بمكبس كراتين خردة بسوهاج    ميدو يفجّرها: شخص داخل الزمالك يحارب لجنة الخطيط.. وإمام عاشور الأهم وصفقة زيزو للأهلي لم تكن مفاجأة    الإسماعيلي ضد إنبي.. الدراويش على حافة الهاوية بعد السقوط في مراكز الهبوط    الجيش الباكستاني يعلن إسقاط 12 طائرة تجسس هندية    سبب إلزام النساء بارتداء الحجاب دون الرجال.. أمين الفتوى يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فصل من رواية »الصفارة«
الرَجُل العَارِي
نشر في أخبار الأدب يوم 01 - 12 - 2012

وقف أمين أمام باب الأسانسير، يضغط علي الزر في ملل وتكرار، منتظرا الفرج، ومنتظرا الأسانسير.. سمع صوت المكن الذي يرفع وينزل الغرف الصاعدة والهابطة، صوت السيور والجنازير والحبال الحديد المفتولة، خبط الوقوف، وضجيج الحركة السيّئة المتعثرة الدالة علي سوء الحال وسوء الصيانة وخطورة الوضع.
فتح الباب الألومنيوم ذا الطبقتين المتوازيتين ينزلق يمينا ليغلق ويسارا ليفتح.. فُتح الباب، ودخل أمين في سرعة، انغلق الباب ولما رفع أمين رأسه وجد أمامه رجلاً عاريا.. تمامًا، كما ولدته أمه.. صامتا.. لا تعابير علي وجهه ولا علامات، يقف صامدا كأبي الهول، كان ضخم الجثة.. ذا عظامٍ عريضة.
لم تبدُ علي أمين أي علامات للدهشة أو الاستغراب أو الاستنكار، كان الرجل صامتا، لكن أمين تصوّر أنه سمعه يدندن (حبيبي لابس برنيطة، ومعلّق في رقبته شريطة).. ظلّ الرجل واقفًا كما هو، ضخم الجثة عريض العظام.
أطرق أمين قليلاً برأسه، وكأنه يحسن الإنصات إلي صوت مكن الأسانسير أو صوت الدندنة الخاص ابالحبيب اللابس برنيطة اللي علق في رقبته شريطة»، أيضًا كانت هناك صفارة خفيفة، نتيجة عدم انغلاق الباب جيدًا، أو علّها كانت من سيرٍ قليل التشحيم، أو ربما استرسالا للدندنة، أو حفيف الهواء الذي يحاول جاهدا التسرب من باب الأسانسير المغلق علي أمين والرجل العاري.
بدا الرجل العاري واثقا تمامًا من نفسه، كان ذا بنية قوية وعزيمة صلبة، مُعتدا بنفسه، عدّي عمره السبعين بقليل، هكذا بدا، فتح الأسانسير بابه، انزلقت ألواح الألومنيوم إلي فتحات سرية داخل تجاويف بناء العمارة الغامضة.
مشي الرجل العاري نحو مدخل العمارة، عدّي علي رجل الأمن الذي بلا حيلة ولا وجود، عدّي علي الداخلين والخارجين، واثق الخطي يمشي ملكا، يخطو علي الأرض بقدميه العاريتين منتظما رافعا هامته، ناظرًا إلي آخر الطريق نظرة أفقية، نظرة لا محدودة تتعدّي حواف الشجر والعمائر الأخري، تتعدّي الطريق الطويل والسيارات المارقة.
عبث الرجل في رحلته بمُخيلة ووعي الناس، سار أمين إلي جواره، بحذائه، وكأنه ظلّه، كأنه خياله، لكن أمين كان مُهتزّ الخطي، شارد النظرة منحنيا بعض الشيء، مهزوما بطيئا منكسرا قليلاً، تائها وكأنه يبحث عن أمرٍ ما، أما الرجل العاري فكان يبدو عارفا بكل شيء، يدرك وجهته ومسيرته، كان وقحًا منتصرًا مُتحديًا.
عبث الرجل العاري بوعي ومُخيّلة الناس وقدرتهم علي الإدراك والاستيعاب، كان راضيا سعيدا مُمتنا هادئا وقورا، لم يكن مجنونا ولا مجذوبا، ولا مخبولا.. كان عاقلا، مُتزنا ثابتا، لا تهتز له شعرة ولا يطرف له جفن، كان يُثبت عورته للناس دون خجَل أو تحدي، يُثبتها كحالة، ببساطة وسلاسة وطبيعة وفطرة لا محدودة، لم يأبه لا بحرس الرئاسة، ولا بذوي البيريهات الحمراء، ولا حتي برجال المخابرات المُتخفين المنتشرين وسط الناس، دائمًا وأبدًا.
مشي الرجل العاري، وبجواره أمين نحو المساحة بين العمارتين، عدّي الحديقة التي تفصلهما دون توقف ودون تردد، مشي في الشارع الخادم الصغير، للشارع الخادم الكبير للطريق الطويل، الذي سُمّي باسم أحد الضباط الأحرار الذين لم يتركوا أي بصمة لثورة يوليو إلاّ سوء الإدارة، لكن ظل الشارع وظلّ الاسم، امتلأ بالناس، واكتظّ بالسيارات، أما الشارع الخادم الملاصق للعمارات المُهندسة بانتظام؛ فكان أشبه بهوليوود أو نيويورك.
عدّي الرجل العاري وبحذائه أمين متباطئا، بجوار محلات بأسماء أجنبية وبضاعة غامضة صينية أو مصرية مضروبة، أو أردنية إسرائيلية، محلات بأسماء وحروف أفرنجية، بجانب بنوك أجنبية وعربية، محلاّت موبايلات وخطوط هواتف ومحلات ملابس داخلية نسائية.
لم تصرخ البنات ولم تنزعج النساء، ولم يثرْ الرجال، ولم يهرع أحد إلي تغطيته، أو الحدّ من مسيرته أو تعُطيله أو دفعه للاختباء، كانوا كلهم بلا استثناء حتي الأطفال يسترقون النظر إليه، ثمة إعجاب بجرأته، تأمل لضخامة جسده وتكوين أعضاءه التناسلية.
سار يدّب علي الأرض مؤكدا عُريه وسط جموع الأسر والباعة والمشترين، وسط السُيّاس والخدم، وأولاد الديلفري، وسط الموتوسيكلات والسيارات علي اختلاف ألوانها وأحجامها وموديلاتها، أمام بنايات أجهزة الدولة، ماكينات الصرف الآلي، والوزارات.
تذّكر أمين ذلك الحلم المُفزع، كابوس ارتياد المكان عاريًا متسولاً فوطة السايس القذرة، ذُلّه وهو يتسول بوكسر من المحل الشهير، تحسس لباسه الداخلية وتأكد أنه موجود، ابتسم ابتسامة صفراء بلا معني.
أسرٌ كاملة العدد بأطفالها وامتداداتها، جدود وأعمام وأخوال، انتبهت.. لكن لم يكن لها أي ردّ فعل، تعالت الهمسات من بعض السكان وموظفي المحلات، ومن عمال النظافة، وبعض محلات البقالة والصيدليات النائمة خلف العمارات، تساءلوا: هل هو الإنسان الأول يعود من جديد؟.
كان أمين أو كاد يسمع الهمسَات، لكنه كان مازال مُصرًا علي السير معه، بحذائه، كأنه هو، أكثر من أن يكون ظله أو شبحه أو خياله، ربما كان هو ذلك الرجل الذي احتلّ غرفة مُميزة أعلي السطح يدخن فيها الشيشة، يناجي منها الرب، يتأمل أطباق الدِش وشبكات الأسلاك المتداخلة، الوصلات المسروقة ومواسير المياه وعدة السبّاك اللص.. يشاكس الجرذان ويلاعب الصراصير، ينفخ الدخان في الهواء فتدمع عيون العصافير، وتطير بعيدًا.
قالوا فيما قالوا أنه كان يقتني كلبة بيضاء ناصعة بلون اللبن الحليب، شاهقة مثل الفلّ، لها عينان زرقاوتان، كلبة كلها علي بعضها شديد السحْر والجمال، التقي بها أمين ذات مرة، وأحبها حُبا جما، ونسي تمامًا أنها كلبة بنت كلب، لم يرها بعدئذٍ قط.
قالوا أن الرجل العاري سمسار خسر كل فلوسه في البورصة؛ فهاجرت زوجته وبنيه إلي بلدة أخري قبل أن يقتلهم، وأكد البعض أنه ابن عزّ وجاه وجلال، خانته امرأته مع أعز أصدقائه (هههههاي، ضحك أمين في صمت لنفسه، ضحك وقال نعم هذا هو الاحتمال الأكبر، لا الأصغر، أو أنه ليس احتمال علي الإطلاق، أن الرجل لا يعرف الأصدقاء، فهو معروف تمامًا بأنه وحداني، شديد القسوة وشديد الحنيّة.. في نفس الوقت).
وقالوا فيما قالوا أنه أتي من صعيد مصر بشاربٍ ضخم وذقن حليقة، يشبه إلي حد كبير السيد أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ، وأنه معلّم سوق وأستاذ صَنعة في تجارة الأحجار الكريمة، ويتقن أيضًا عملية غشّها ببراعة، يسُاعده في ذلك رهط رفيع المستوي من رجالات الدولة وبعض المخبرين السرّيين، كذلك ضباط أمن الدولة يحمونه ويعزّونه، يباركون له بالعروس تلو الأخري، بأفراح الأولاد والبنات، وطهور الأحفاد، وشمّ النسيم وكل الأعياد، يفطرون ويتسّحرون معه في رمضان، يشربون معه الويسكي في شقته المتسّعة المُطلّة علي النيل من أوسع بحر فيه، يلفّون سجائر الحشيش، ويحتسون القهوة، ويضعون معه تحت ضروسهم (سِِن) الأفيون.
سمع أمين فيما سمع، أن الرجل كان يقتني سيارات الرولز رايس والميني كوبر، وتحف الملكة نازلي، يضاجع الخادمات وسيدات المجتمع.
انزعج أمين وتمتم لنفسه (يا نهار اسود، إوعي تكون أمي سُعاد اتعرّفت عليه، مُستحيل، مش مُمكن، ماما شريفة وماتعملش كده، ويعني هيّ كانت ملاك.. لأ.. ممكن تعمل كده، ممكن أمي تبيع شرفها عشان حجر كريم أصلي أو مغشوش؟.. لا لا مُستحيل.. لكن وارد، بس هي البِت صباح بنت الست نجية، مايعة ومايصة، والرجل العاري بيعزّ
المسخرة والعفاريت والنسوان والفلوس، سكن في قصر في مصر الجديدة، فتش في أروقتها عن رائحة البارون إمبان، ولم يجدْه، الرجل العاري هو بارون إمبان مصر الجديدة بعد الثورة.. هههههاي.. آه يا بلد عايزة الحرق).
كان الهمس يتزايد، وأحيانا يبدو لأمين؛ وكأنه خارج من مُكّبرات الصوت، تلك لمعسكر حرس الرئاسة، أو الأخري المُثبتة علي المآذن أو علّها الأبواق الطالعة من أجهزة الراديو والتلفزيون.
الرجل العاري إذن والعهدة علي الراوي كان أبوه أصما أبكما، ولدته أمه في ليلة قمرية مجنونة في اثني عشر ساعة، ولد طفلا ضخما، ثم صار صبيا ذا بأس شديد، وشابًا يافعا مفتول العضلات، رجلاً يملأ الدنيا وجاهة وحُسنا، متناسق الأبعاد الجسدية، إذا ارتدي الجلباب الصوفي واللاسة الحرير اهتزّت الأمكنة التي يرتادها، وإذا تهيأ بالبذلة الكاملة ورابطة العنق المُثلثة والمنديل الطالع من جيب الجاكت، أصبح كالعرّاب في الفيلم المشهور، كرجل مافيا من الطراز الأول، عميق الصوت، مُقنعا مُتمكنا، وإذا لبس لباسه الرياضي العالمي ذا الماركة الشهيرة، والنظارة السوداء الإيطالية غلب فرسان الرياضة.
كان أمين في كل تلك الهمسات والاحتمالات، يحاول أن يتماهي معه، لكن عُريْ الرجل الطاغي، كان طاغيا علي كل موضة، وعلي كل شكل وعلي كل أناقة، سمع أمين صوتا مسرسعا فيه بعض الصفير.
سمع أمين أيضًا أن جدّ الرجل العاري كان ضريرا، كفيفا لا يري، لكن بصيرته حيّزت له الدنيا بحذافيرها، لأنه كان كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ينام مُعافي في جسده، آمنا في سربه، وكان جدّه كما عرف أمين، إذا ما جاء فيضان النيل، وضيّعت المياه الغامرة حدود أراضي الفلاحين، وقف بعصاه الغليظة يرسم الأراضي والحقوق بكل دقة وثقة.
حدث أمين نفسه مطمئنا.. نعم رجل بهذه الجينات، وبهذا التاريخ.. له أب أصم وأبكم، قادر علي فعل كل شيء، وجدّ ضرير يحكم بين الناس بالعدل، يملك الجرأة حتما علي مواجهة العالم بجسده، ولكن أنا، أمين.. ابن المهندس سامح أحد أبطال حرب أكتوبر، وابن أخ المهندس سامر من مهندسي السد العالي، وابن أخ المقاتل الذي استشهد في روسيا إبّان غدر التدريب للميج21، قادر بقوة قادر أن أقوم بأشياء أخري ربما.
التفتت المرأة البدينة الجاثمة علي صدر الرصيف منذ دهر إلي الرجل العاري، دعت له كما تدعو لكل المارّين، دعَت أن يستره الله ويرعاه، وأن يُحسن إليها، لم تنتبه إلي أنه عارٍ، لا يحمل مالا وليس له جيوب، ولا تقبض أي من يديه علي أي من المال، لكنها استمرّت في الدُعاء، واستمرّ هو في السير واثقا ثابتا، يمشي بخطواتٍ محسوبة لا تنفرج ولا تضيق، بجواره أمين يحاول متعثرا أن يكون أو لا يكون، يسير كما يسير، فلا يسير، يهيب بالخلق الواقفين أن ينظروا إليه.
كان الإصرار غالبا علي الرجل العاري، وكان التردد غالبا علي أمين، الذي سار بجواره كأنه هو يشحذ الثقة.
صارت للرجل العاري في المكان والزمان خصوصية مُنبثقة عن الأمر الواقع، وربما الاحتياج الشديد إلي المشهد.
ظل الرجل العاري محافظا علي وهجه، مزهوا بقوته أمام هشاشة الآخرين وعاديتهم، ولما سأل أمين نفسه عن الروح المُختبئة وراء ذلك الجسد الضخم العاري، جاءته الصُفارة والإجابة علي مراحل:
الروح من أمر ربي.
هل فعل ذلك عن عمد أم تلقائيا.
ربما أمرته الأصوات بالتجرّد من كل ما يقيده ويزيفه ويخفي حقيقته.
جري الرجل العاري يسابق الريح.
همس الناس لبعضهم البعض وفي أذني أمين:
سيكون الأمر حالاً تحت السيطرة.. سيحضر البوليس.. البوليس مشغول، ستحضر الشرطة العسكرية.. ربما الأمر يحتاج إلي قرار سياسي.. ربما، سيأتي ممرضو مستشفي المجانين بقميص الأكتاف والحقن الفظيعة.. لكن هل سيتمكنون من الإمساك بحقيقته، أو بروحه هو لا يملك أي أوراق ثبوتية.
كان الرجل العاري يسير الهويني عموديا في اتجاه الشارع الرئيسي المُزدحم، يطير كالرُخ، يرفرف كالعنقاء، كالفانتوم، كان يحسّ بحرًارة داخلية شديدة، بالت أحذيته القديمة، أما أحذيته الجديدة باعها كلها، تحللّت ملابسه وظهرت بعض علامات الاتساخ علي جسده القمحي، كان كالسائر نائما، كالذي يسير بحركة الأفلام بطيئةSlow Motion، يلجُ عوالم أخري، محسوسة وخفية، يسكن في المانيكانات داخل الفاترينات، يتعلّق علي حبال الغسيل، ويرقد علي ترابيزة بائع الجرائد.
تلاشت ملابسه وهويته واختفت اختفاء غامضا ومُريعا في تلك الليلة، تبخّرت كالقمر الصناعي المصري، وكالرادار، كالنجمة في أعالي السماء..
صار كالملاك الحارس للعين.. لا يُري لكنه موجود.
أحس الناس حوله، أمامه، وخلفه؛ بريح التوجس وبعض الخوف، واستشعر أمين بنسمة تنسحب معها روحه، كان الراحين والغادين، في حلّهم وترحالهم، يسيرون، لا يعترضون ولا يشتكون، لا يتقززّون..
لم يستره أحد بورقة توت.
لا الأمر ليس كذلك، صاح أمين:
لقد خطف الجنّي ابن الجني ابن الكلب، ملابس الرجل العاري وهو بيستحمّي في النهر، لا.. وهو بيبلبَط في حمام السباحة فوق السطح، هههههاي.. حمام سباحة فوق السطح، النهر المُمتد بين العمارات، البحيرات اللّي في وسط الشارع.. لا ده ساحر الست نجية المغربي عمل له عمل، ولا عمل لنا إحنا عمل وأخرج المشهد، لا.. ده الطرف التالت، أو الصبيان بتوع اللهو الخفي.. وربما اتأثر بالنسوان اللي رموا عليه إشارة بعد ما اشتهوه وهو ماكانش له رغبة ولا قوة ولا قدرة.
انطلق الرجل العاري في حركته البطيئة نحو الشارع المزدحم جدا Slow Motion ثم طار في الهواء كسوبرمان... دون ملابس.. طار كتلك المخلوقات الأسطورية في لوحات مايكل أنجلو... رجلٌ أمامه ورجلٌ خلفه، وجسد عار ضخم يشدّ الهواء في بطء وهدوء، ثم يختفي.
وبدأ الهمس كأنه الصفير عاليا.. هذه المرة في أذني أمين... الرجل العاري يحلّق الآن فوق القيادة العليا للمنطقة... تحرّك إلي منتصف البلد.. جاءت الأنباء واضحة علي شريط الأخبار.. إنه الآن في محمد محمود والقصر العيني.. حطّ بكل ثقله فوق وزارة الداخلية.. أكل فولا علي عربة الفول المركزية، شرب عصير القصب من أحلي محل في منيل الروضة، دخّن في شراهة سيجارة كليوباترا، ولعّب حاجبيه لأمين الشرطة الواقف علي الناصية.
حاول أمين أن يطير مثله؛ فضحك.. لم يكن أمين قادرًا علي العُري، ليتمكن من الطيران؛ لكن نسمات الرجل العاري، أعطت أمين بُعدا وعُمقا كبيرين، كسر بهما شوكة الهزيمة، بعض الشيء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.